مثقفون: يوسف زيدان يمارس الاستعراض بكثير من التشويق

نضال ممدوح

لم تكن «موقعة السيجارة»، هي الوحيدة التي جلبت عليه الانتقادات الحادة وموجات الاستنكار ووصلت لدى بعضهم إلى حد السخرية منه، فثاني الأثافي التي اقترفها الكاتب المصري يوسف زيدان خلال ندوة «في الحاجة إلى التنوير»، التي أقيمت في مدينة طنجة المغربية، ضمن فعاليات «المهرجان المتوسطي للثقافة الأمازيغية – ثويزا»، وصفه سكان شبه الجزيرة العربية بأنهم «سُرَّاق إبل»، وأن المنطقة لم تكن فيها حضارة في يوم من الأيام، وأن المراكز الحضارية تقتصر على القاهرة والقرويين وفاس وبغداد ودمشق. أثارت هذه التصريحات استهجان الكثير من المثقفين والكتاب والأدباء والفعاليات العربية نظراً إلى ما تضمنته من مغالطات تاريخية، ولما توحي به من تعصب وضيق أفق.
بداية أشار رئيس تحرير مجلة «الثقافة الجديدة» الشاعر سمير درويش إلى أن يوسف زيدان «مثقف استعراضي، يقدم مادته بالكثير من التشويق والإثارة وهذا يعطيه شهرة، فهو يخوض في مواضيع يسكت عنها كثيرون، كما أنه طرف في كثير من السجالات، ولقاؤه الأخير في طنجة جزء من هذه الضجة التي يثيرها، وعلى العموم فإن إشارته إلى أن منطقة نجد لم يخرج منها علماء حتى في اللغة العربية، كانت عابرة، عزَّزها بذكر أسماء علماء اللغة في القرن السابع الميلادي وما تلاه، وقال إنهم، ما عدا واحداً فقط، ليسوا من الجزيرة العربية. يبقى أن أقول إن الثقافة العربية وحدة واحدة، لا يجوز أن نتعامل معها جغرافياً، فنقول إن المغرب أخرجت العلماء وتونس لا… إلخ».
من جانبه، قال الكاتب أحمد الخميسي: «تصريحات يوسف زيدان تدل أولاً على الجهل العميق قبل كل شيء. ليس العرب من أنصفوا تاريخ العرب، بل المستشرقون الأوروبيون، ومنهم إلكسي فاسيليف الروسي، الذي وضع كتاباً ضخماً عن تاريخ الحضارة في شبه الجزيرة العربية. هذه وغيرها شهادات لا يمكن الطعن فيها. لكن الوجود في بؤرة الضوء الإعلامي عند زيدان، وغيره أعز أحياناً من أي حقيقة، وهم مستعدون في سبيل البقاء تحت عدسات الصحف لقول أي شيء بذيء وخاطئ وغير حقيقي شرط أن يجلب لهم الاهتمام. من ناحية أخرى فإن لكل شعب حضارته، وإذا تخيل أحدهم أن بوسعه تحقير تلك الحضارة لأنها على درجة أدنى من غيرها، فإنه بذلك يكشف فقط عن عنصريته، وهزاله الفكري».
وقال أستاذ النقد بأكاديمية الفنون المصرية، رئيس تحرير مجلة «فنون» حاتم حافظ: «في ظني أن أزمة المركز والأطراف في الثقافة العربية سبَّبت مأزقاً لأبناء المركز ولأبناء الأطراف على السواء، لأن أبناء المركز، وأنا هنا أشير إلى المصريين مثلاً، لم يهتموا كثيراً بمعرفة ما يجري في الأطراف، ولم يستوعبوا أن التاريخ الحديث قد ينتصر لبلاد لم يهتموا بمعرفتها. فمثلاً كثير من المصريين انقطعوا تماماً عن المنجز الفكري لمثقفي تونس والمغرب، ولم ينتبهوا لحقيقة أن المغاربة بالذات شاركوا منذ سنوات في صناعة الثقافة العالمية، ولم يلتفتوا إلى ظواهر أدبية استثنائية في الأدب العربي، كالأدب السوداني. وعلى الجانب الآخر ظلت فكرة المركز والأطراف هاجس شعوب كثيرة شعرت بأنها بإزاء خطاب استعلائي ما جعلها تتعامل مع الحقائق التاريخية باعتبارها خطاباً أيديولوجياً، ولديهم وجاهة الحقيقة في هذه النظرة. فما قاله زيدان إن كان ضمن سياق استعلائي فهو أمر مرفوض وبغيض، وإن كان ضمن سياق الأفكار فالرد عليه يكون ضمن سياق الأفكار، فالأفكار تحاجج الأفكار».
كما أكد حافظ أن «الأزمة إذاً ليست في ما قاله زيدان، ولكن في المخزون الشعوري لدى شعوب المنطقة التي يجب أن تتخلى عن نزعتها القومية المحلية، وأن تتخلص من ذواتها المتضخمة وانحيازاتها الضيقة. فهناك ضرورة للاعتراف بأن الصراع المدني الريفي أو الحضري العشائري هو صراع ثقافات وليس صراع شعوب، بمعنى أن ما يربطني كمصري بمحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي مثلاً أعمق من أي رابطة بيني وبين مصطفى محمود، فيما يجد الأصولي المصري رابطة بينه وبين محمد بن عبدالوهاب أكبر مما يجدها مع نجيب محفوظ مثلاً».
من جانبه، قال الروائي إبراهيم فرغلي: «شخصياً لا أفهم كيف يستخدم مثقف، أي مثقف، كلاماً مرسلاً يطلقه بهذه الخفة عن حضارة أو ثقافة، أو أشخاص؟ نحن نلوم العامة والكثير من شباب اليوم لأنهم يظلمون قضاياهم بالتعبير عنها بابتذال، فما بالك حين يتعلق الأمر بمثقف. إضافة إلى أن الأمر كالعادة يتطور إلى إساءة مباشرة أو غير مباشرة بين مواطني المثقف ومواطني الدول التي يساء إليها. وتقديري أنه من الممكن جداً إثارة أي موضوع في أية قضية مهما كانت حساسيتها طالما تخضع لأسس النقاش والحوار العلمي، وهذه بديهيات. وحتى موضوع علماء اللغة العربية الذي ينفى زيدان وجودهم في الجزيرة أمر على مستوى البداهة، غير منطقي، فاللغة العربية ظهرت في الجزيرة، وانتشرت بفضل القرآن، وأبرز اللغويين العرب، الذي يعتبر رائد هذا العلم، وهو أبو الأسود الدؤلي، من أهل الجزيرة، على الأقل عاش في الحجاز، قبل أن ينتقل إلى البصرة، ويقال إنه تتلمذ على يد علي بن أبي طالب المعروف ببلاغته، إضافة إلى آخرين من أهل البلاغة والتفسير، مثل عبدالله بن عباس، وسواهم ممن كانوا يعيشون في قلب الجزيرة. في النهاية القضية يمكن نقاشها وتفنيدها، وهناك متخصصون في تاريخ اللغة أقدر من الجميع في التفنيد والرد. لكن إطلاق التوصيفات الجزافية بهذا التعميم الصبياني لا يليق بالمثقفين. والحقيقة أن هذه المسألة تكررت كثيراً، إذ أساء من قبل إلى المثقفين في عمان، في واقعة شهيرة، وكذلك في الكويت، ما يعني أن هناك ربما تقصد لإثارة الانتباه وصناعة فرقعات إعلامية من أجل مزيد من النجومية».
وذكر فرغلي أن «ما تعلمناه عن الكبار، أمثال طه حسين ونجيب محفوظ وغالبية الأدباء والمفكرين الكبار، هو أن نحترم الآخرين، وأن التواضع صنو العلم والمعرفة، وهو ما نراه بديهياً في أي نقاش أو محاضرة لأي مفكر في الغرب، مهما بلغت درجة ألمعيته أو جماهيريته، فلا نرى مثل هذا التحذلق والاستعراض، وعادة ما يشك المرء كثيراً في قدر المعرفة لدى المتحذلقين والاستعراضيين، فما جدوى المعرفة إن لم يوازيها تواضع العارفين، والرصانة واحترام الآخرين»؟
ويذهب الشاعر صلاح الراوي إلى أنه «لا يمكن ولا يجوز أن تصدر عن مثقف يعمل بالعلم مثل هذه العبارات ذات الطابع السياسي الساذج، إن الغرض منها هو الإثارة واستثمار ما ينتج منها من ضجة، واعتاد يوسف على مثل هذه الإثارة. مفهوم الحضارة مفهوم عريض لا ينحصر في العمارة والآثار مثلاً، وأعتقد أن الشعر أحد مكونات الحضارة ولا يمكن أن ينكر أحد على أهل الجزيرة العربية أنهم تفوقوا في الشعر. أما عبارة (سارقي إبل) فهي عبارة غير أخلاقية، وهي وحدها كفيلة بأن تجعل كلام يوسف خارج سياق الحوار الثقافي تماماً، والحديث عن أي شعب لا يجوز أن يفقد فيه المثقف اتزانه الفكري وربما العقلي، فالشعوب لا يمكن أن تقيم حياتها وتاريخها ومنجزها الإنساني العام بهذه الطريقة الغوغائية الأقرب إلى التنابذ اللفظي والسباب».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى