لمحات ثقافية (23-09-2016)

مودي البيطار

قبل أن يكون

في روايته السابعة عشرة، ينقل إيان ماكيوان مملكة الدنمارك إلى حاضر لندن، ويعيد أميرها العذب المعذّب إلى أحشاء أمّه. في «قشرة الجوز» الصادرة عن دار جوناثان كيب تصبح الملكة غرترود ترودي، وشقيق الملك كلوديوس كلود، ويكتفي الزوج الضحية باسم جون الصالح لكل الأزمان والمآسي. أعاد كُتّاب منهم آيريس مردوك وجون أبدايك كتابة «هاملت»، واعتمد كارلوس فوينتس الجنين بطلاً، لكنها قد تكون المرة الأولى التي يدمج كاتب فيها الجنين والمأساة الشكسبيرية.
يتحوّل قصر إلسينور منزلاً جورجياً كبيراً وسط لندن المعاصرة. ترودي الجميلة في الثامنة والعشرين، وحامل بذكر كان يفضّل أن يولد في النروج التي تقدّم مساعدات حكومية كريمة أو فرنسا التي يحب مطبخها وخمرها. بدلاً منهما، عليه أن يولد في منزل متداعٍ، رطب في إنكلترا تتكدّس أكياس النفايات في قاعته وتتحول فئرانه بفضلها جرذاناً. مع ذلك يساوي البيت الذي ورثه الناشر الفقير جون سبعة ملايين جنيه استرليني، ويثير شهية شقيقه المقاول كلود. تخون ترودي زوجها مع شقيقه بالطبع، وتقول لجون أنها ترغب في «فسحة» خلال حملها. «فسحة» يفكر الجنين المرح، حبيس قشرة الجوز، الذي يطوي ذراعيه بقوة على صدره، ويدفع برأسه المخرج الوحيد في أشهر الحمل الأخيرة. عليها أن تشاركه المكان الذي يصعب عليه أن يطوي إصبعاً فيه لتعرف معنى الفسحة.
يغادر جون منزله لكن ذلك لا يكفي العاشقين اللذين يخططان لقتله بالسمّ لوراثة البيت. على الجنين أن يسمع أحاديث الوسادة على سرير حب المحارم بين والدته الحبيبة وعمّه الكريه. يغضب لعجزه عن إنقاذ والده: «لا تهدر أيامك الثمينة كسولاً ومقلوباً. اخرج وتصرّف». عليه أن يتحمّل الجنس الفائر شبه اليومي الذي يكاد كلود فيه يضرب أنفه، فيثير خوفه على سلامته الجسدية والعقلية. بين أن يكون أو لا، يختار الثاني. يحتاج الانتحار فقط الى لفّ حبل الصرّة مرتين أو ثلاثاً حول عنقه، لكنه يفشل في المحاولة ويريحه ذلك: «سواء كان ذلك رغبة صحية أو طمعاً محضاً، أريد حياتي أولاً، حقي، قطعتي المتناهية الصغر من الزمن اللانهائي وفرصة الوعي الأكيدة». لكن فشله في منع قتل والده يعني أنه سيبدأ حياته في السجن مع والدته أو في دار رعاية من دونها.
يوضح الجنين مصدر معرفته الواسعة: أذنيه. يستمع الى البرامج التي تفضّلها والدته على الإذاعة البريطانية، ويشاركها خبرتها. يتحسّر على أوروبا التي ستفقد حلم الاتحاد العلماني بسبب الكراهيات القديمة. يختار موضوع تغير الجنس الذي عرّض ماكيوان للنقد فتراجع واعتذر. قال الكاتب أن النساء اللواتي يخترن الرجولة لسن رجالاً حقيقيين لأنهن يفتقرن الى أداتها. بطله الجنين يرى أن الشباب المثقف تقريباً يغضب ويتظاهر، لكنه يحتاج الى مباركة السلطة خياره الجنسي. قد يكون ذلك انهياراً للغرب في شكل جديد، أو تمجيداً وتحريراً للذات. ثمة موقع للتواصل الاجتماعي يقدّم واحداً وسبعين خياراً جنسياً. يشارك الجنين الكاتب معرفته بالكحول التي لا تتوقف ترودي عن احتسائها خلال حملها. «بعد الأبيض الثاقب يأتي «بينو نوار» مثل يد أم مهدّئة. آه، ما أجمل أن أكون حياً بوجود هذا العنب. إنه زهرة، باقة من السلام والتعقّل».

كل شيء مطفأ

> نجح جوناثان سافران فوير وأثرى في عشريناته حين أصدر «كل شيء مضاء» و «مرتفع للغاية وقريب الى درجة لا تصدّق». قورن بديفيد فوستر وولاس وغابرييل غارسيا ماركيز وفيليب روث الذي أورثه حيّاً هجاء الحياة اليهودية الأميركية. دارت باكورته خلال المحرقة وبعدها، وحُوّلت فيلماً كان إلايجا وود بطله، وتناولت الثانية مقتل رجل في الهجوم على مركز التجارة العالمي في 2001 ومحاولة ابنه متابعة الحياة بعده. اقتبست هوليوود الرواية في فيلم بطلاه توم هانكس وساندرا بولوك.
بعد صمت أحد عشر عاماً، يعود سافران فوير بـ «أنا هنا» الصادرة عن دار هاميش هاملتن. العنوان عبارة طمأن بها ابراهيم ابنه اسحق حين ساقه الى الذبح لكي يؤكد للخالق أنه يحبه، والرواية تبتعد من حداثة الروايتين الأوليين وواقعيتهما السحرية لتوازي بين الخرابين الشخصي والعام. جيكوب بلوك كاتب سيناريو يهودي يعيش مع أسرته الكاملة في واشنطن. زواجه من جوليا المهندسة «دين من اثنين» وأبناؤهما الثلاثة نوابغ يبنون الكنيس في العالم الافتراضي على الإنترنت، ويؤمنون بأنهم يستطيعون التحكّم عقلياً بالمايكرويف. الواقع مختلف خلف الواجهة البرّاقة. آيزاك، جدّ جيكوب الناجي من المحرقة، يتساءل ما إذا كان عليه الانتحار أو الهجرة الى الوطن اليهودي. أكبر أبنائه سام يترك على مكتبه في المدرسة اليهودية لائحة من الشتائم لأبناء دينه. وجوليا تكتشف رسائل جنسية قذرة على هاتف زوجها وجّهها الى زميلة له، ينثرها الكاتب في فصول الرواية الأولى.
تبدأ «أنا هنا» بعبارة عن دمار إسرائيل، لكن الزلزال الذي يدمرها لا يظهر إلا في منتصف الرواية الممتدة نحو ستّمئة صفحة. يهجس جيكوب بانهيار زواجه الأليم، ويكشف أسبابه. برعت جوليا في قص أظافر المواليد الجدد بأسنانها، وأرضعتهم وهي تعدّ اللازانيا، لكنها توقفت عن لمس زوجها. وجيكوب علّم أبناءه فارق المعنى في الكلمات المتشابهة، لكنه لم يعد يعرف كيف يتحدث معها. حين يضرب الزلزال الكبير إسرائيل ويتّحد المسلمون ضدّها يواجه أيضاً أزمة الهوية. تقرّر حكومتها دعوة يهود العالم الى الهجرة إليها، قائلة إن «رئيس الولايات المتحدة يستطيع أن يشاهد ثمانية ملايين يهودي إسرائيلي يُذبحون ولكن ليس مئة ألف يهودي أميركي».
يدرس جيكوب وضعه كفرد لاأدريّ يسبح في نهر التاريخ نفسه مع اليهود الموجعين في إسرائيل. يتساءل ما إذا كان والده محقاً باعتباره أن الجواب الوحيد عن كل سؤال حول اليهود هو أن العالم يكرههم. قريبه تمير الذي كان يزوره حين وقعت الهزّة يضعه في مواجهة هويته الحائرة. «كل عام تنهي عشاء الفصح بالقول إنك ستحتفل العام المقبل في القدس. وكل عام تحتفل بعشاء الفصح في نيويورك». مشكلة جيكوب، يقول تمير، أن مشاكله صغيرة. يعترف هذا بأن يهود أميركا أضعف من أن يخوضوا المعركة المقبلة. يتحكّمون بنظارات الطيارين التي يضعونها بتحريك عضلات وجوههم، ويَعربون كلمات الأغاني التي يسمعونها في الفولفو الموروثة وهم يشعلون القدّاحة. يفشلون في أنواع الرياضة، لكنهم يبرعون فيها خيالياً. يتجنبون العراك، ويبحثون عن الجدل. هم أبناء وأحفاد المهاجرين والناجين، وعُرّفوا بضعفهم الصارخ الذي افتخروا به. تأتي الأخبار على التلفزيون ثائرة، لاهثة، ملحة، لكن المشاكل العائلية والمسؤوليات الأبوية تضعفها. يتوق تمير للعودة الى إسرائيل فيما يشلّ التردد جيكوب الذي يرى في النهاية، مثل بطل «العار» للكاتب الجنوب أفريقي- الأسترالي ج. م. كوتسي، أن الرفق بالحيوان هو أقصى ما يطمح إليه الفرد في عالم مكسور ومسعور. يفكر وسط حطام عالمه أنه والد لأبنائه وابن لوالده وزوج لزوجته وصديق لأصدقائه، ولكن ماذا كان لنفسه؟

في الغرفة ثانية

> تعود إيما دونهيو الى حيّز ضيّق في روايتها الأخيرة «الأعجوبة» الصادرة عن «بيكادور» التي تدور بعد نهاية حرب القرم أواسط القرن التاسع عشر. تناولت الكاتبة الإرلندية الأميركية اختطاف شابة وحبسها في كوخ في حديقة في «غرفة»، التي حُوّلت فيلماً، وتعود برواية قوطية تنعزل فيها شابة وطفلة في غرفة صغيرة.
عملت ليب ممرضة مع فلورنس نايتنغيل في حرب القرم، وعادت الى إنكلترا لتقبل مهمة مختلفة في الريف الإرلندي. ترفض طفلة في الحادية عشرة تناول الطعام منذ أربعة أشهر، لكنها تبقى معافاة. القرية الخارجة لتوّها من مجاعة البطاطا مع سائر إرلندا تضجّ بالمعجزة التي تجذب الزوار والمال. لكن لجنة طارئة تُشكّل لمعرفة الحقيقة، وتتقاسم ليب مراقبة الفتاة مع راهبة محلية للتأكد من أن الطفلة لا تُطعم سراً. حين تتدهور صحتها تحس ليب بأنها تتواطأ في إلحاق الضرر بها، لكنها لا توجه الأسئلة البديهية رغم ذكائها وتدريبها الطبي. أين شقيق الطفلة الأكبر سناً؟ ما معنى الصلاة التي تردّدها آنا بإصرار؟ ولماذا لم تقل للفتاة بحزم أن عليها تناول الطعام منذ البداية؟ حين يظهر صحافي شاب شكّاك تتغير اللعبة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى