«بيرتران تاڤيرنييه« يرصد مسيرة السينما الفرنسية لأربعة عقود

سليم البيك

كما يكون «البونَس»، أو الإضافات المرفَقة المُضافة في نسخ الـ DVD للفيلم، ممتعة وهامة لمحبّي السينما، لمضمونها الوثائقي فيما يخص الفيلم، وبعضها يحوي مقابلات أو أفلاما قصيرة حول الفيلم ومخرجه، فإن للأفلام الوثائقية الطويلة ذات الموضوع السينمائي والتي تتناول ثيمة سينمائية أو تيارا أو مخرجا أو ممثلا… متعة وأهمية مضاعفة، وذلك لأن الغاية المعرفية فيها هي الأساس، وهي ليست تابعة لفيلم روائي واحد تدور في فلكه، بل تكون فيلماً مكتفياً بذاته، فيلماً عن الأفلام.
ومهرجان «كان» السينمائي يقدّم في معظم دوراته وثائقيات عن السينما، كان آخرها هذا العام فيلم المخرج الفرنسي بيرتران تاڤيرنييه «رحلة عبر السينما الفرنسية» (Voyage à travers le cinéma français)، وذلك بعدما قدّم المهرجان وثائقياً ممتازاً السنة الماضية «هيتشكوك/تروفو»، وآخر بيوغرافياً هو «إنغريد بيرغمان: بكلماتها». سيحرص أي محب للسينما (سينيفيليّ) على مشاهدة الأفلام الثلاثة، لأهميتها وقيمتها المعرفية، والجمالية نوعاً ما، خاصة «هيتشكوك/تروفو» الذي تناول كتاب المقابلة التي أجراها تروفو مع ألفرد هيتشكوك، والذي يشكّل أحد الكتب الكلاسيكيّة في الثقافة السينمائية.
لكن الفيلم المعروض في الصالات الفرنسية هذه الأيام، يتناول مرحلة مبكرة من تاريخ السينما الفرنسية، من 1930 حتى 1970، مركّزاً على النصف الأوّل من هذه الفترة، فمرحلة «الموجة الجديدة» التي بدأت ولاقت زخمها في الستينيات، مع جان لوك غودار وفرانسوا تروفو وآخرين، تمّ المرور عليها سريعاً. كأنّ المخرج يكمل هنا موضوع فيلم وثائقي آخر هو «اثنان في الموجة» والذي يحكي عن غودار وتروفو ومن خلالهما عن الموجة السينمائية التي استحدثاها (نوڤيل ڤاغ)، والذي عُرض كذلك في مهرجان كان عام 2009.
يتناول فيلم تاڤيرنييه السينما الفرنسية أساساً من خلال مخرجيها الأبرز، مركّزاً على مخرجي الفترة التي أسّست للسينما الحديثة، حيث الكلاسيكيات الأولى، متناولاً كلّ مخرج على حدة، رابطاً بينه وبين آخرين من خلال الأفلام، الجماليات والتقنيات السينماتوغرافية تحديداً، فكانت أسماء جان رينوار ومارسيل كارنيه وروبير بريسون وألان رينيه وجاك بيكر وآخرين، كان هنا أبطال الفيلم، شخصياته الرئيسية. أما من تبعوهم زمنياً، كغودار وتروفو وجاك تاتي وجان بيير ميلڤيل وكلود شابرول وآخرين، فتم المرور عليهم سريعاً، بشكل متفاوت فيما بينهم، كممثلين لمرحلة لاحقة من تاريخ السينما الفرنسية، وكل ذلك بشكل يذكّر بفيلم «رحلة شخصية مع مارتن سكورسيزي عبر الأفلام الأمريكية»، إنّما بأسلوب مختلف وجودة أقل.
لكن، إضافة إلى سردٍ مقارَن بين أفلام المخرجين وأساليبهم، حاول الفيلم أن يتناول مواضيع تفصيلية في الأفلام، منها الموسيقى التصويرية التي أخذت مساحة لا بأس بها، ومنها أفلام «النّوار»، حيث الجريمة وعمليات التحقيق، والتي شكّلت جزءاً أساسياً من تاريخ السينما الفرنسية (والأمريكية) وجرّبها أهم مخرجيها، ومنها الممثلون المركزيون آنذاك كجان غابان وجان بول بيلموندو وإيدي كونستانتين.
وإن حاول المخرج أن يعطي نظرة شاملة على السينما الفرنسية، فإن الاختيارات تبقى ذاتية، اختيارات المخرجين والأفلام، هي بالنّهاية ما كانت علامات فارقة في تاريخ السينما الفرنسية بحسب المخرج، هي الأفلام الهامة إذن، للمخرجين الأكثر تأثيراً، مخرجون «أوتور»، أي مؤلّفون لأفلامهم، فهم مخرجوها وكاتبو نصوصها. ويعود هذا الانتقاء إلى الخلفية النقدية للمخرج، فقد كان تاڤيرنييه ناقداً في مجلة «دفاتر السينما»، إحدى أكثر مجلات النقد السينمائي في العالم رصانة، وهي المجلة التي خرجت منها أبرز أسماء «الموجة الجديدة» في الستينيات. فنحن هنا أمام اختيارات شخصية، وإن لم تبدُ بالوضوح الذي كان عليه وثائقي المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي الذي تناول بشكل منفصل وعلى أجزاء، أفلاماً بعينها أحبها وأثرت فيه.
لتاڤيرنييه أعمال توثيقية مشابهة سابقة، إنّما، كناقد، كانت أساساً كتباً، كـ «خمسون عاماً من السينما الأمريكية» الذي شارك في تأليفه وكذلك «الأصدقاء الأمريكيون» ويحوي مقابلات مع أهم مخرجي هوليوود، إلا أن العمل التوثيقي في المواضيع السينمائية يبقى أفضل ضمن أفلام وثائقية كون المادة المدروسة أو المطروحة هي أساساً مادة سمعبصريّة، لن يفيها النَّص المكتوب حقّها.
الطرح الذاتي في الفيلم يظهر بداية مع حكاية الفيلم الأوّل الذي شاهده تاڤيرنييه في السينما، وكان ابن ستة أعوام، وكان الفيلم لبيكر، المخرج الذي افتتح، كموضوع، هذا الوثائقي. واستمرّ الطّرح حتى مرحلة وقوف تاڤيرنييه بنفســـه خلف الكاميرا مع كلود سوتيه، مروراً بمرحلته كناقد، مع غودار وميلڤيل وشابرول وآخرين، زملاء النقد السينمائي في «دفاتر السينما».
تمت الإشارة في هذا الوثائقي إلى 94 فيلماً، في مدّة زادت عن الثلاث ساعات، فيه من الحب للسينما الكثير، فيه ازدحام بأساتذة فرنسيين وأفلامهم لا يجب أن يفوت أي سينيفيليّ، وإن لم يخلُ الفيلم من بعض الرتابة في شكل تقديمها، إلا أن مضمونه المعرفي أساسي كمقدّمة لتاريخ السينما الفرنسية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى