البورتريهات الذاتية المزاجية

محمد شرف

رحل مروان قصاب باشي في الخريف. يبدو أنه اختار فصلاً مناسباً لمغادرة الدنيا، تاركاً من ورائه إنجازات في مجال التشكيل وضعته في مصاف الفنانين العرب الســـوريين الأكثر شهرة خلال العقـــود الماضية، إضافة إلى كونه من التشكيليين الأكثر إنتاجاً في عداد فناني جيله.
مروان، وهو إسمه الفني الذي عُرف به منذ أن بدأ يوقّع أعماله مستعملاً اسمه الأول، لدرجة أن البعض لا يعرفون كنيته، كان وُلد في دمشق، في العام 1934، ومن ثم غادر سوريا باتجاه ألمانيا، في العام 1957، حين كان له من العمر 23 عاماً، كي يدرس التصوير في المدرسة العليا للفنون الجميلة ببرلين، بعدما كان التحق بجامعة دمشق بين عامي 1955 و1957 لدراسة الأدب العربي. لم يكن من قبيل الصدفة أن يقع مروان، منذ بداية غربته، على تيار التعبيرية، إذ عاش الفنان وتطّورت مفاهيمه الفنية في البلد الذي يعتبر مهداً لهذه الحركة الفنية، التي بدأت بوادرها إثر نهاية الحرب العالمية الأولى، التي خسرتها ألمانيا، وهي الخسارة التي أدّت إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية فيها، وظهور أزمات اجتماعية طاغية، ما دفع فناني تلك المرحلة نحو نهج تعبيري صارم أخذ في الاعتبار المشاكل السياسية والإقتصادية المتفاقمة.
بدأ مروان نشاطه الفني المستقل، في شكل عملي، منذ العام 1963، بعدما التحق بمجموعة من الفنانين ضمّت في صفوفها غيورغ بازليتز وأوجين شونبيك، المعروفين بأساليبهما الذاتية الخارجة عن المألوف (أعمال كثيرة لبازليتز صوّرت كائنات أو بورتريهات لكائنات واقفة على رؤوسها). وفي العام 1966 تلقّى مروان جائزة كارل هوفر، كما حصل بعدها على منحة لدراسة الفن في المدرسة العالمية للفنون بباريس، أما معرضه، الذي شكّل البداية الحقيقية لمسيرته، فقد أقيم في غاليري ليتزوف في برلين، ثم بدأ بإقامة المعارض في مدن ألمانية أخرى، كما في بريمه (1977)، على سبيل المثال.
خلال أعوام عقد التسعينيات من القرن الماضي تم تنظيم معارض عديدة للفنان في فرنسا وألمانيا على السواء. منذ ذلك الحين شكّل العنصر البشري موضوعاً أثيراً لدى مروان: بورتريهات وقامات بشرية مرسومة على نحو ذاتي، لا بل مغرق في ذاتية وجدت منابعها في حالات مزاجية متقلّبة، تنزع حيناً إلى تغييرات فيزيائية غير عادية في التمثيل التصويري، عبر تجاهل النسب الكلاسيكية المعروفة، في حين تأخذ في الاعتبار، أحياناً أخرى، الأحاسيس الفردية،
وكأن الفنان شاء، من خلالها، أن يعكس صراعاً قائماً في ما بينه وبين العالم الخارجي. عالجت أعمال الفنان هذه المسائل على الدوام، ويبدو أنها تركّزت، منذ بداية الألفية الحــــالية على الرأس تحديداً، بعدما كــــانت في السابق تبيـــّن جزأً من الجسد ليس بذي أهمــية قيــاساً إلى الرأس ـ الوجه، الـــذي أصـــبح طاغياً من حيث حجــمه، ومن حــيث موقعه ضمن المتن التشكيلي.
في هذه الأعمال، التي شاهدنا بعضها في معرض له أقيم في بيروت منذ أقل من عشرة أعوام، لحظنا ذلك الأسلوب الذي درج عليه، والذي احتل فيه الرأس مكاناً مركزياً في العمل، بحيث اختفت كل معالم الجسد الأخرى. كما اختفت، أيضاً، إلى حدّ ما، الحدود الدقيقة (وهي في الأحوال كلها ليست دقيقة) للخط الفاصل بين الوجه والخلـــفية، وذلك عبر أســــلوب تعبيري، كــــما العادة، لا يولي الناحية الجمالية اهتماماً، بل يعمد إلى بناء اللوحــــة عبر مقــاطع لونية متداخلة ولطخات نزقة، وكأن مروان، الذي عـــاش في الغربة، والذي بقيت أزمة الهــــوية حاضرة لديه، أراد أن يضيف إليها تأثيرات جملة من الأزمات الأخرى التي تعــصف بالإنسان الحديث في كل مكان من هذا العالم الفاني.. الذي ودّعه الفنان.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى