سحر قصيدة النثر

عباس بيضون

لا يزال الجدل قائماً حول قصيدة النثر في العربية وسواها. أما محور هذا الجدل فهو افتقارها إلى الإيقاع. في ظني أنّ من يأخذون هذا على قصيدة النثر يتجاهلون أن اللغة نثراً كانت أو شعراً لا تنتظم بدون إيقاع. وإذا كان الشعر يجرب منظومة من الإيقاع فإن للنثر منظومات أخرى. ليس إيقاعاً خفياً ولا سرّياً هذا الذي ينتظم قصيدة النثر. إنه ظاهر مسموع معلن. وإذا اختلف غناء قصيدة النثر فإن هذا لا يعني أنها بدون غناء، فالأكيد أنها قد تكون ذات غناء مفرد وأصيل، بل هي من هذه الناحية قد تكون أمثولة في الغناء، أي إن تخليها عن الوزن والقافية يجعل غناءها عضوياً ويجعلها أمام غناء اللغة ويجعلها تجرب فيه وتنوعه وتتلون فيه، لكن ما تسميه شعراً هو علم على الوزن والقافية، أي على غناء ظاهر موصوف. الشعر يقترن بهذا الغناء فلا بأس بأن نحتفظ به لهذا الغناء، ونفرد لقصيدة النثر باباً بحد ذاته في الأدب ونعتبرها غرضاً قائماً فلا هي نفي للشعر ولا بديل عنه، وإنما هي غرض قائم بنفسه. ولا ننسَ أن شارل بودلير رائد قصيدة النثر هو قمة شعرية وإذا كان أخذ قصيدة النثر، من الوزيوس برتران فإنه لم يبدع عبثاً «سأم باريس».
لن نقف طويلاً عند مسألة الإيقاع فالأرجح أن لقصيدة النثر دواعي أخرى. حتى في الإيقاع قصيدة النثر تحرير للإيقاع واختبار واسع له. قصيدة النثر التي لا تزال في السجال هي غالباً صنو قصص كافكا وإدغار ألن بو وهي بدون شك نظيرة التكعيبية والتجريد، وهي أيضاً نظيرة سترافنسكي وشتوكهاوزن في الموسيقى اللانمطية، أي إنها كانت شريكة حركة فنية فكرية شاملة فلماذا تفرد وحدها ولماذا يطالها وحدها عدم الاعتراف والنفي.
لم تقم هذه الحركة الفنية على عدم. لقد قامت على أساس فكري وفلسفي. كانت بذلك بنت تحول راديكالي في رؤية العالم وتفسيره. يمكننا أن نسمي دارون الذي بفضله لم تعد هناك تسمية نهائية للأشياء وصورة أخيرة لها. يمكننا أن نسمي فرويد الذي أخرج الأحلام والصور من اللاوعي. يمكننا أن نسمي كافكا بهذا الوجود الزلق. يمكننا أن نسمي الحركة الاشتراكية، ماركس وإنغلز. كما يسعنا أن نسمي نيتشيه الذي نسف العقل الديني. نسمي بيكاسو وبراك اللذين حوّلا الهيئات والأحجام. نسمي سترافنسكي وشتوكهاوزن اللذين أضافا أصواتاً طبيعية إلى الموسيقى. إذاً قصيدة النثر ولدت إبان حركة لم تعد فيها الأشياء مسماة ونهائية، والعالم عقلانياً وواعياً، والأصوات مكتملة ومحسومة، والعالم معقولاً. قصيدة النثر هكذا تشارك في انقلاب كوني تغيرت فيه الأسماء والأصوات والأشياء والكلمات، ولم يكن في وسع الشعر واللغة أن يبقيا بعيداً منه.
قصيدة النثر هي تفجير العالم من داخل تفجير اللغة التي كانت مخزن هذا العالم وتاريخه وبيته. كان لا بد من استخراج ما في اللغة من أسرار وإمكانات وخفايا. لم تعد اللغة نفسها مسماة ومحسومة. كان لا بد من خضّها وإطلاقها وتركها تنبني في لغات. لم تعد اللغة رابطاً اجتماعياً، صارت جزيرة فردية وبات على كلٍ أن يسمي أو أن يعيد التسمية. بات على كلٍ أن يركّب وأن يبدع تحت اللغة لغة جديدة. لقد كان على كل واحد أن يلعب بالكلمات قصداً أو عشوائياً، واعياً أو غير واع ويترك للسحر أن يكمل اللعبة. يترك للسحر أن ينتج قلائد وهياكل وتحفاً ليس لها مثيل. كان على كل واحد أن يجد مسمياته وإيقاعاته وأن يبتكر، أن يخلق علاقات أخرى على أنقاض العلاقات. أن يؤسس فيما ينقض ويدمر، وأن يوجد في الهباء، ومن الهباء عالمه ولغته واسمه الشخصي.
يتكلمون عن الجمال وكأن الجمال نقش مرسوم وكأن الجمال معطى نهائي، وكأن الجمال هو الحب والحنان والشفقة. وكأنه بادي الحلاوة بادي اللطف. كأنه لا ينفصم عن الأخلاق وكأنه هو الآخر معطى نهائي. ماذا عن «القاذورة» التي جعل منها بودلير أيقونة شعرية. ماذا عن جمالية العنف وجماليات القبح وجمال القسوة وجمال الكره. أليست هذه كلمات، أليست هذه من اللغة، أليست مسميات. هل علينا أن نرميها ونطرحها أرضاً. هل علينا أن نقايض بنصف اللغة، وأن نخصص بعضها للأدب والشعر فيما نترك البعض الآخر للهباء. هل نعيش نبض اللغة، نعيش نبض الإنسان، بنصف جسدنا ونصف أحاسيسنا ونصف أفكارنا. هل هكذا نبدع جمالاً وماذا عن جماليات تغدو بعد أن ننبّش عليها، بعد أن نرفع عنها التراب، تغدو أكثر صلة بعروقنا وأكثر صلة بحقائقنا أو ما نخاله حقائقنا. أليست القسوة أحياناً كثيرة أوقع أثراً من الرحمة، أليس ما نصادفه على الطريق وما نستعمله كل يوم وما نبليه ونكسر فيه أشد إلهاماً من حلاوة مبتذلة دارجة في الكلام وأمام النظر. أليس للعنف فتنته أيضاً ونحن نجدها في اللوحات. لا يمكننا أن نفتش عن جمال جاهز في بطون اللغة، وأن نرمي عنها قبحاً جاهزاً أنه لو صح الأمر لصار نصف الفن رميماً ولضاعت المأساة الوجودية والوضع الإنساني. قصيدة النثر هي أيضاً أن نلتقط الأشياء عن الطريق، أن نجد الجمال بل نصنعه ونبتكره من كل ما يلامس أبصارنا، فالجمال الجاهز ليس فقط ضد قصيدة النثر بل هو ضد الشعر والفن بكليّتهما. قصيدة النثر كما هو الفن الحديث تجد الشعر كما تجد الفن في الأزقّة والأرصفة والحطام والركام والمهملات والأشياء المبتذلة البالية. تجد الفن في كل شيء ما دام في همنا أن نصنع منه فناً، وما دمنا نجد فيه مادة لفن. قصيدة النثر هي لأسباب كينونية قصيدة العنف وقصيدة الخراب وقصيدة العلاقات المعقدة المحبطة والخائبة وقصيدة القسوة.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى