برهان شاوي.. تساؤلات الشك واليقين في «متاهة العميان»

نازك بدير

تحوّل فعْل الإصدارات الروائية في الوقت الراهن إلى ما يشبه عمليّة استعراض يوميّات فارغة من مقوّمات الإبداع الروائي. وباتت الغالبيّة من الروايات المطروحة لا تُغني فكْر المتلقّي ولا ترضي الحسّ النقدي ولا الجمالي. لقد انعكست سطحيّة الحياة المعاصرة وانعدام الانسجام والترابط الاجتماعي في النص الروائي العربي، فأتت، والحال هذه، النتاجات متكلّفة مكرورة، لا بل أكثر من ذلك، يؤدي تكلّف عناء قراءتها تأكيد انحطاط الثقافة واللغة على حدّ سواء.
ولكن أمام هذا الواقع تأتي «متاهة العميان» لتصويب البوصلة من جديد، حين تكشف القراءة الأولى أنّ الرواية هي مخزون فكري ثريّ بقضايا تدخل في صميم الذات الإنسانيّة في كلّ زمان ومكان. تمثّل هذه المتاهة حلقة في سلسلة متاهات برهان شاوي، حيث تبدأ الدائرة الأولى من متاهة آدم ومن ثمّ متاهة حواء مرورًا بمتاهة الأشباح وصولا إلى متاهة العميان التي تشكّل انقلابًا حقيقيًّا للمتاهة الأولى وشخوصها من الأوادم، أمّا الأخيرة فيترك الكاتب فيها مساحة القصّ وتغيير مجرى الأحداث للحوّاءات، يتولّين القصّ داخل الحكاية. برزت المرأة في متاهة العميان المحرّك الرئيسي في فهْم الكون بكليّاته وجزئيّاته، إذ أفرد لها شاوي مساحة كبرى للتعبير عن نظرتها إلى المجتمع الشرقي الذكوري المنغلق المتزّمت وإلى تسلّط الرّجل وفوقيّته انطلاقا من شعوره بمركبّات النّقص والدّونيّة. ولئن كانت هذه الموضوعات قد تمت مقاربتها في أعمال روائية متعددة لكنّ الكاتب استطاع من خلال فنيّة السّرد، ونسيج الحكايات التي تكتبها حواء البوسني وحواء الجدي وغيرهما من حواءات المتاهة أن يقدّم نموذجًا مغايرًا على جرأة في الخطاب المقدّم على ألسنتهن، ولا سيّما في طرْح موضوعات تتعلّق بالحياة الزوجيّة وشذوذ الأزواج الجنسي. كسر شاوي هيبة ما يحصل في الغرف المقفلة ووضعه بين أيدي الناس، عرّى الاستبداد الأبوي في التربية، والأقنعة الاجتماعيّة والأخلاقيّة.
وبالإضافة إلى اهتمام المتاهة بفضح عورات المجتمع العربي وقيوده المفروضة على المرأة من جهة، وصراعها مع رغباتها من جهة ثانية، كذلك جاءت متاهة العميان أيضًا لتحكي الاستبداد السياسي وما نخر البلاد العربيّة من جماعات إرهابيّة متطرّفة، نسب إليها الراوي، ومن خلفه الكاتب، معظم عمليّات القتل والتنكيل والاغتصاب والاغتيال التي حدثت، ولا سيّما في العراق وسوريا.
أمّا الفضاء في الرّواية، فغطّى مساحة واسعة امتّدت على عدّة دول أجنبيّة وعربية، تلك الأخيرة ممزّقة، تحكمها الصراعات، تمامًا كما هو حال شخوص الرواية التي تبحث أبدا عن نفسها ولا تراها. كلّ الحواءات والأوادم عميان البصيرة، بتصرّفاتهم لا ببصرهم، وبذلك يقترب النصّ الروائي من الواقع برمزيّة تظهر هشاشته، وتاليًا رفضًا له، ومحاولة الغوص إلى عمقه لإعادة قراءة لعبة الحياة والموت والخليقة.
في هذه المتاهة يقدّم الكاتب مقاربة لموضوع المخلّص الحاضر في العديد من الديانات، فيتناوله ـ من زاوية الفكر الشيعي الذي يؤمن بالإمام المهدي المنتظر ـ من خلال شخصيّة الطّفل «هابيل» حيث يغيب في المرّة الأولى من مهده بطريقة غرائبية، ويعود مجددا إلى كون القصّ. ويأتي بعد مدّة أشخاص ملتحون يرتدون السّواد يحملونه معهم، فيمضي في غيبة كبرى.
وتبقى «متاهة العميان» مفتوحة على تساؤلات الشّكّ واليقين، الإيمان والإلحاد، الوجود والعدم. يبيح الكاتب لحوّاء الصائغ أن تقول في اعترافاتها ضمن حكاية آدم الغدادي داخل الرّواية: «المشكلة التي كان يفكّر فيها أبي هي أنّ الأديان والفلسفة تؤّكدان أنّ الخالق ليس ماديًّا، وليس له أيّ تجسيد ماديّ، وبالتالي كان أبي يسأل أحيانًا، وهذا ما دوّنه في يوميّاته، بأنّه لو كان الخالق خارج الكون ولا علاقة له بالوجود المادي، فهو ليس إذاً خالقًا بالمطلق لأنّ الكون أو الوجود يأخذ حيّزا مكانيًّا كبيرا والخالق خارج هذا الحيّز، بينما فلسفة وحدة الوجود ترى أنّ الكون هو أحد تجليّات الخالق، وأن الوجود مندمج بالخالق».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى