أحمد المديني يشرّع أدب الرحلة على آفاق الكتابة

سلمان زين الدين

يواصل الروائي والقاصّ والكاتب المغربي أحمد المديني منذ نحو نصف قرن، مسيرته الكتابية التي تمخّضت عن ستّين كتاباً في الحقول المعرفية المختلفة، حتى الآن، تتوزّع على: ثلاث عشرة رواية، خمس عشرة مجموعة قصصية، ست سير أدبية، ثلاث مجموعات شعرية، ست عشرة دراسة، وخمسة كتب في أدب الرحلة، خامسها، موضوع هذه العجالة، «خرائط تمشي في رأسي» (دار الأمان – الرباط)، وهو كتاب في أدب الرحلة، النوع الأدبي الذي يُوشك على الانقراض.
أدب الرحلة نوع أدبي عرفه الأدب العربي في عصوره المختلفة، ولعلّه بلغ الذروة في القرن السادس الهجري – الثاني عشر الميلادي، على يد ابن جبير الأندلسي، وابن بطّوطة، حتى إذا أزف القرن العشرون وما أتاحه من إمكانات كبيرة في وسائل النقل جعلت السفر جزءاً لا يتجزّأ من الحياة اليومية، أخذ هذا النوع في التراجع، وبات بإمكان أيٍّ كان التعرّف الى المكان مباشرة بدلاً من القراءة عنه، ويأتي القرن الحادي والعشرون وما حمله من إمكانات هائلة للتواصل الاجتماعي ليجعل هذا النوع الأدبي لزوم ما لا يلزم.
ومع هذا، ثمّة من يكتب في هذا النوع، انطلاقاً من أنّ عين الرحّالة الثاقبة أعمق من عين السائح العابرة، وما يراه الأديب بمجسّاته الدقيقة لا يمكن للفرد العادي أن يراه، ما يجعل الكتابة في الرحلة ضرورة، وهذا ما يفعله أحمد المديني في كتابه الأخير.

حركة الانسان
يُشكّل المكان المحور الذي يدور حوله أدب الرحلة، فلا رحلة بلا مكان، والرحّالة لا يتناول المكان ببعده الجغرافي الضيّق، بل بما هو إطار للحياة والحضارة والتاريخ وحركة الإنسان فوقه أفقيّاً وعموديّاً، وبهذا المعنى، ينفتح هذا النوع على التاريخ والجغرافيا والعمران والحضارة والأنتروبّولوجيا وسواها من الحقول المعرفية. وكتاب أحمد المديني لا يشذّ عن هذا السياق، فهو يتّخذ من المكان ميداناً لحركته وحراكه، والكاتب يتناول تونس التونسية، وأصيلة المغربية، وباريس الفرنسية، سواء من خلال الزيارة القصيرة أو الإقامة الطويلة، ويكتب، بنتيجة هاتين الوسيلتين، ثلاثة نصوص، هي مادّة الكتاب. تطغى الكتابة الرحلية على الأوّل، والكتابة الانطباعية على الثّاني، واليوميات على الثّالث، على أنّه ليس ثمّة نصٌّ صافٍ في كلٍّ من هذه الأنواع، بل ثمّة تداخل بينها، وهي موجودة معاً داخل النصّ الواحد، بنسبة أو بأخرى.
في التعريف بالكتاب، يصف المديني نصّه الرحلي، لا سيّما التونسي، بأنّه «يجمع بين ذكريات الماضي وعنفوان الحاضر، بقدر ما يرصد ويشخّص، يستبطن ويتوجدن، في بؤرة تنصهر فيها نظرة العين، وفطنة العقل، بجمرة الإحساس، ونبض القلب…» (ص6)، وهذا الوصف يكشف الآليات التي اتبعها الكاتب في كتابة نصّه.
يكتب المديني نصّه التونسي، إثر رحلة قام بها الى تونس، ربيع 2015، للمشاركة في معرض الكتاب العربي، يعتبرها نوعاً من الحجّ الى كعبة الثوّار، بعد نجاح تجربة الربيع العربي في هذا البلد، وهي رحلة سبقتها زيارة أولى برّيّة في العام 1969، برفقة ثلّة من الأدباء المغاربة، وزيارة ثانية أواسط السبعينيّات من القرن الماضي، وثالثة في العام 1992. لذلك، يحفل نصّه بالمقارنات بين مشاهداته في الزيارات الأربع، ويرصد التحوّلات التي عاشها هذا البلد بين الأمس واليوم، ويستيقظ فيه الحنين الى ذكريات قديمة في بعض الأماكن.
لا يرى المديني الى موضوعه بعين محايدة، بل بعين ناقدة. وهو، بهذه العين، يلاحظ، خلال زياراته السابقة: القبضة الأمنية للنظام السابق، الفساد الأمني، ازدواجية المعايير بإذلال الضعيف والخوف من القوي، النبرة المنكسرة للمواطن، التلفيق الإعلامي…، ويلاحظ، خلال زيارته الأخيرة: التحوّل الجذري في تعامل الشرطة مع المتـــظاهرين فلم تعـــد تقمـــعهم بالهراوات وقد حرّرهم البو عزيزي من الخوف، الحيوية الثــقافية والسياسية التونسية التي لا يضاهيها ســـوى الحيوية اللبنانية، عدم وجود متسوّلين في وسط المدينة. وفي مقابل هذه الإيجابيات، يلاحظ: تراجع خدمة الــطيران التونسي، فوضى العمران، انتشار العشوائيات، انتهازية المثقّفين من ذوي الأحكام الجاهزة والمقاييس الجامدة، وانتشار البطالة في أوساط الشبيبة…

آراء ثقافية
والمديني، خلال مشاهداته، تستهويه المقارنات الزمنية، فيقارن بين زيارتين، والمكانية، فيقارن بين المغرب وتونس، في بعض المشاهدات. وهو يطعّم نصّه بمعلومات تاريخية، أو ملاحظات أنتروبّولوجية، أو آراء نقدية وثقافية، أو تعليقات ساخرة من الآخرين ومن نفسه، أو اعترافات شخصية، وقد يخرج من ذلك كلّه بأحكام قاطعة واستنتاجات عامّة. غير أنّ الكاتب الآتي من إقامة باريسية، لعدّة عقود، كثيراً ما يظلم موضوعه، ويظلم نفسه، حين يرى بمعايير غربية، ويبحث عن باريس في تونس، وعن الغربي في أبناء قوميّته، فلا يجد ما يبحث عنه، فيخلد الى واقعية نصحه بها بعض أقاربه من المغاربة. ويُذيّل نصّه التونسي بقصّة وقصيدة هي أقرب الى الخاطرة النثرية عن مدينة قابس التونسية.
في النصّ المغربي، يتناول المديني يوميّات غير مؤرّخة في مدينة أصيلة المغربية، تطغى عليها الكتابة الانطباعية، وينطوي بعضها على قصص قصيرة، فتكون اليومية إطاراً خارجيّاً لشكل مختلف، انطباعي أو قصصي، ومضمون رحلي متنوّع. اليوميات السبع التي يخصّ بها أصيلة تتراوح بين حكاية غرائبية تزاوج بين الوقائعي والغرائبي وتستوحي المأثور الديني يعرّي فيها الكاتب الإرهاب الممارَس باسم الدين، في اليومية الأولى، ويسخر من النفاق النضالي، في الثانية، فالكاتب المناضل المنشغل بالقضية يريد الإقامة في فندق خمس نجوم، ويسخر من الجشع الكلامي لدى بعض المنتدين، في الثالثة، ويحتفي بالطيّب صالح، في الرابعة والخامسة، ويعبّر عن فقد محمد شكري وآخرين، في طنجة، في السادسة والسابعة. وهكذا، يُورد في «يوميات أصيلة» يوميتين اثنتين لطنجة، ما يطرح مدى ملاءمة العنوان للمتن، والأمر نفسه سيتكرّر لاحقاً في نصّه الباريسي.
اذا كان المديني يفرد نصف الكتاب لنصّيه التونسي والمغربي، فإنّ النصف الآخر يُخصّصه لنصّه الباريسي الذي يُعنونه بـ: «باريس: أوراق أخرى». وهو يستخدم فيه تقنية اليوميات المؤرّخة، غير أن هذه التقنية هي مجرّد إطار خارجي لمادّة سردية – وصفية متنوّعة، تجمع بين الذكريات والمشاهدات والانطباعات والآراء في مختلف الحقول، وتحفل بالمقارنات الزمنية والمكانية والمواقف الذاتية، ويحضر فيها العالم العربي بمقدار العالم الغربي إن لم يكن أكثر، وهو حضور سلبي، مع الأسف، مقارنةً بالآخر الغربي. وفي هذا السياق، يُكرّر الكاتب ملاحظات وردت في نصّيه السابقين، مكانها المغرب، هذه المرّة، فيشير الى التزمّت الديني، والتضييق على الأعمال الفنّيّة، والتضييق على المرأة، والفساد الإداري، والروتين الإداري، والإرهاب الديني، وتحكّم الغوغاء، والفوضى العمرانية. وهو يفعل ذلك من خلال الوقائع.

رؤية قاتمة
في المقابل، يحضر العالم الغربي، والفرنسي تحديداً، حضوراً ايجابيّاً غالباً، يتمظهر في: الاهتمام بالحيّز العام، احترام الحرّيّات، قبول الآخر، الحداثة الأدبيّة، التقدّم العلمي، وسواها. ومن الطبيعي أن ينحاز الكاتب الى هذه التمظهرات، دون أن يخفي إحساسه بالمرارة من الأوضاع التي آل اليها بنو قومه، وحنينه الى بلاده، على عواهنها.
في يوميّاته الباريسية، يحضر المديني الناقد والكاتب، فتتناثر فيها آراء متفرّقة في: الكتابة، والرواية، ومواصفات الأعمال الخالدة، واللغة، والجوائز الأدبية، وقانون السوق… وعلى الرغم من وصفه اليوميات بالباريسية، تتخلّلها يوميات مغربية، وإماراتية، ولبنانية، وأردنية، ومصرية، كتبها إثر زيارات قام بها لهذه البلدان، ما يجعل إدراجها تحت العنوان الباريسي في غير مكانه. وانطلاقاً من هذه الزيارات، ومن قراءات الكاتب في أحوال هذه البلدان، يخلص الكاتب الى رؤية قاتمة لمستقبل المنطقة العربية الغارقة في الانقسامات والحروب، ويبدي خوفه على الهوية العربية، ويعبّر عن ذلك بقول يقتبسه عن رئيس الاستخبارات الفرنسية هو: «إنّ الشرق الأوسط لن يبقى على صورة ما كان عليه» (ص300).
«خرائط تمشي في رأسي» ليس مجرّد رحلة في المكان الجغرافي، بل هو رحلة في حقول معرفية مختلفة، تستحقّ العناء والمغامرة، فيعود القارئ منها، وفي جرابه أكثر من متعة، وأكثر من فائدة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى