أخطاء شافاق الأربعون في رواية ‘قواعد العشق الأربعون’

د. نجم عبدالله كاظم
إليف شافاق واحدة من أشهر الكتّاب الأتراك، لاسيما في الغرب، وهي تكتب بالتركية والإنكليزية. لها روايات عديدة لعل أشهرها رواية “قواعد العشق الأربعون” – 2012 – المستوحاة من حياة وفكر الشاعر الصوفيّ الشهير جلال الدين الرومي (604-672 ه)، وـمعلمه الروحي شمس الدين التبريزي (582-645 هـ)، وقد أقامتها على خطّين، أحدهما في الماضي وهو مسار علاقة الرجلين، والثاني في الحاضر وهو مسار علاقة (إيلا) الزوجة المستلبة في حياة زوجية رتيبة، والصوفي (عزيز) الذي تشاء الصدف أنها تُكلَّف من دار نشر بقراءة مخطوطة كتابه “الكفر الحلو”، ومن خلاله تنشأ علاقة بينهما.

نحن هنا لسنا بصدد كتابة نقد أو دراسة عن الرواية، فقد تكلم عنها الكثيرون في الشرق والغرب، بل بصدد الحديث عن ظاهرة غريبة تتمثل بما نراه إهمالاً وعدم مبالاة، مما قد يدلّ على عدم احترام للقارئ، خصوصاً حين نكشتف أن ذلك إنما هو بسبب عدم إحاطة الكاتبة، بخلاف ظنّ الكثيرين، بجذور شخصياتها وواقعهم وعوالمهم التي استوحت روايتها منها.

فالكاتبة لم تفعل أكثر من قراءة حياة جلال الدين الرومي، وإلى حد ما حياة شمس الدين التبريزي، ولم تكلف نفسها الإحاطة بالعصر والعالم من حولهما وهي التي جعلت أحداث ما يقارب ثلثي روايتها فيهما. بل، ومع شهرة الرواية ومؤلفتها، ومع الإمتاع الذي تمنحه للقارئ، من الواضح أن الكاتبة لم تتعب نفسها لا في هذا ولا في ضبط سياق روايتها، فامتلأت بالأخطاء المعلوماتية والتاريخية والسردية والتقنية، فلم أرَ إلا قليلاً من الروايات تحتوي على هذا القدر من الأخطاء والهفوات التي وجدتها فيها تقارب وربما تتعدّى الأربعين خطأً معلوماتياً وتأريخياً بل تقنياً وسردياً، مما لا يرتكبه إلا أصحاب المحاولات الأولى. وهذا أمر مستغرب أن تقع فيه روائية صاحبة تجربة إبداعية غنية طويلة مثل شافاق.

من هنا يأتي مقالنا، في ظل واقع أن الكثيرين عادةً لا يرحمون كتّابنا حين يرتكبون خطأ تقنياً أو معلوماتياً واحداً، بينما لا يتجرّأون على الإشارة إلى مثل هكذا خطأ في عمل كاتب عالمي. ولكي نثبت ما نذهب إليه بشأن الرواية، سنقدم نماذج من أخطاء مؤلّفتها، وبعضها كبير ومُخل، مما نرى أن سبب ارتكابها له يتعدى، كما قلنا، السهو أو الخطأ الإنساني العادي مثلاً، ليكون إهمالاً واضحاً. وبدايةً نسجل الملاحظات الأولى الآتية التي نأخذها على الرواية:

أولاً: هناك فصول لا تقدم شيئاً للرواية، لكننا لا نريد الخوض في هذا، كونه مما قد يكون موضع خلاف في الآراء ووجهات النظر. والأمر ينطبق على مأخذنا الثاني، وهو خطأ استخدام التأريخ الميلادي في أحداث الرومي والتبريزي والآخرين في الخط الأول من الرواية الذي تجري أحداثه قبل سبعمئة سنة، حين كان التاريخ الهجري هو المستخدم، مقابل صحة استخدام التأريخ الميلادي في يوميات (إيلا) في الخط الثاني للرواية الذي تجري أحداثه في الحاضر.

ثانياً: يحضر الراوي العليم، ليس بقصد فني من المؤلفة، بل في غفلة وأحياناً بجهل فني منها، فهو يتسلل حين تكون الأحداث مروية من وجهة نظر إحدى الشخصيات ليكون تسلله مخلّاً، كما تفعل مثلاً مع (سيد التكية) حين يذكر (التبريزي) باسم (شمس) في وقت لم يكن يعرفه بعدُ بهذا الاسم، ومع (التبريزي) حين يخاطب القاضي بالقاضي في وقت لم يكن يعرف بعدُ أنه قاض.

ثالثاً: هناك ضعف واضح وأخطاء لغوية ونحوية وتعبيرية ليست قليلة، من الواضح أن غالبيتها في الترجمة، كما أن هناك أخطاء معلوماتية وتأريخية وتعبيرية وتقنية وسردية صغيرة عديدة مرتكبة من المؤلفة سنتجاوزها، لنتوقف، وكما أشرنا، عند نماذج من الأخطاء المخلّة والمُربكة، مع تعليقاتنا القصيرة عليها، لنثبت ما ذهبنا إليه، مما نحن متأكدون من أن الكثيرين لا يتفقون فيه معنا قبل الاطلاع عليها.

*

• ص 75: يقول (سيد تكية الدراويش): “التفت شمس التبريزي نحوي، وشرد قليلاً بأفكاره، ورمش بعينيه بطريقة ودّية. وقد أحسست بأنهما لاهبتان مثل شمس حارقة. كان ذلك عندما اتضح لي كيف أنه يستحق الاسم الذي يحمله بجدارة. كان هذا الرجل يشعّ حماسة وحيوية، ويحترق في داخله مثل كرة من نار. كان شمس هو (الشمس) حقاً”.

– التعليق: والمؤلفة تبني هنا، ومن وجهة نظر (سيد تكية الدراويش)، الكثير على اسم (شمس)، يفوتها أنها قبل صفحتين فقط قالت الآتي على لسان السيد: “وعندما سألتُه عن اسمه، عرّف نفسه بالتبريزي، وقال إنه درويش جوّال يبحث عن الله في أرض الله الواسعة” – ص73 – ولم تقل: “عرّف نفسه بشمس التبريزي”، وعليه فإن (سيد التكية) لم يكن يعرف بعد أن اسم التبريزي هو (شمس).

• ص75: يقول الدرويش (التبريزي) للقاضي: “ما قصدتُ قوله، أيها القاضي، هو أن المرء لا يستطيع إذا ظل يرتدي معاطف فراء، وملابس حريرية… كالتي ترتديها اليوم”.

– التعليق: غفلت الكاتبة عن أن الدرويش لم يكن قد عرف بعدُ أن هذا الذي يكلمه هو قاض.

• ص76: “اعتدل شمس التبريزي في وقفته، وعيناه ثابتتان”.

– التعليق: مرة أخرى تنسى الكاتب أنها كانت قد قالت: “بعد أن حيّا الدرويش الجميع، جلس، وراح يمعن النظر في الحاضرين في الغرفة”.

• ص78: ضمن حكاية يحكيها شمس التبريزي الآتي: “كرر الراعي الذي أحس بالذهول والخجل اعتذاره”.

– التعليق: لكننا لم نقرأ، في ما سبق من الحكاية، اعتذاراً للراعي لتقول الكاتبة (كرر الراعي اعتذاره).

• ص93: “توجد أسباب عدة جعلت إيلا تحب الطهو. إذ لم يكن إعداد وجبة طعام لذيذة مصنوعة من مواد عادية يُثلج صدرها ويُسعدها فقط، بل كان كذلك يُدخل سعادة حسّية غريبة إلى نفسها. والأهم من ذلك، أنها كانت تستمتع بالطهو، لأنها تحبه وتجيده إجادة تامة، كما أنه يريح أعصابها”.

– التعليق: واضحة الركّة التي هي بالتأكيد من الكاتبة وليست من المترجم، كما أنها بالتأكيد نتيجة الإهمال والسرعة في الكتابة وعدم المراجعة.

• ص109، و112: “خلال الأيام التالية… كنت أمضي وقتي وحيداً في البستان، أتأمل أمنا الطبيعة الراقدة حالياً تحت ملاءة ثقيلة من الثلج”. [ثم] “وفي صباح أحد الأيام، رأيت لوناً مبهراً، بهيجاً مثل أغنية جميلة، ينبعث من تحت أكوام الثلج. كانت أجمة مزروعة بالفضة تتناثر فيها أزهار خزامى صغيرة”.

– التعليق: لا نعرف أي ثلج ثقيل هذا الذي يغطي الطبيعة في بغداد؟! هي تصورها بعد ذلك وكأنها من مدن أوروبا الباردة، وفوق ذلك تصور زهرة الخزامى التي لا تلائمها بيئة بغداد، ولم تعرفها. وهذه ليست خطأة بل لا مبالاة وقصور في الثقافة، فلأنها من مدينة مألوف سقوط الثلج فيها، تتصور بسذاجة أن الثلج يسقط في جميع مدن العالم.

• ص125: يقول الطاهي لشمس التبريزي الذي كان يشتغل ويتدرب على يديه في (تكية الدراويش): “كلما تحمّلت المشاق في المطبخ، نضجت أكثر يا بُني، ومع تعّلم الطهو، ستنضج روحك ببطء”.

– التعليق: مرة أخرى تنسى الكاتبة، وهي تنقل هذا الكلام الأبوي اللطيف من الطاهي، أنها قبل صفحتين قالت على لسان التبريزي: “فلا أذكر أني سمعته يقول كلاماً لطيفاً، ولا أظن أنه يعرف حتى كيف يبتسم”، ص123.

• ص148: على لسان التبريزي: “ولما كنت معتاداً على حياة الترحال، كان المكوث في المدينة يزعجني قليلاً”.

– التعليق: لكننا نعرف أن التبريزي بقي في بغداد بإرادته مدة طويلة.

• ص154: “يتسابق الناس… لدفع الزكاة، ليغفر الله لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر”.

– التعليق: وهنا خطأ معلوماتي وشرعي في آن، ينم عن عدم الدقة والتمحيص، فليس هناك من غفران مسبّق، في الإسلام، لما تأخر من ذنب إلا للأنبياء.

• ص159-160: تُعدد الكاتبة، على لسان التبريزي، الناس الذين يراهم في قونية: “صادفتُ في طريقي غجراً يعزفون موسيقى، ومسافرين عرباً، وحجاجاً مسيحيين، وتجاراً يهوداً، وكهنة بوذيين… وكان هناك حجاج في طريقهم إلى القدس”.

– التعليق: فلا مبالاة الكاتبة لم يُتيح لها الانتباه إلى تكرار ذكر الحجاج المسيحيين، علماً بأن سبعة أسطر فقط تفصل بين ذكرهم وتكرار ذكرهم.

• ص175: وهي تحكي كيف صارت بغياً، تخبرنا (وردة الصحراء) أن أخاها، وبسبب سوء معاملة الأب وزوجته له، يبدأ بقضاء وقته خارج البيت، ثم يُتَّهم بعد ذلك بقتل أبويه فيهرب.

– التعليق: يبدو الأمر أول وهلة عادياً، ولكن الحقيقة يفوت الكاتبة أن مسار الرواية ومقارنةً بعمر الأخت، يدل على أن عمر الأخ حين يبدأ بالخروج من البيت يكون دون السنتين، وأنه حين يُتهم بالقتل يكون في الخامسة من عمره. وهنا يتخطّى الخطأُ السهوَ مثلاً، ليكون خللاً تقنياً وسردياً في المسار الحدثي للرواية.

• ص193: في كلام عن (إيلا) في نورثهامتن: “كانت تفضّل البقاء في البيت وقراءة كتاب جيد في ليلة الجمعة، على أن تشارك شباباً غرباء في حفلة ماجنة”.

– التعليق: واضح أن المقصود هنا إما مساء الجمعة، ويكون الخطأ حينئذ من المترجم، أو ليلة السبت الذي هو عطلة نهاية الأسبوع في بريطانيا، وفي هذه الحالة يكون الخطأ من المؤلفة.

• ص202: وهي تروي لقاءها بـ(شمس التبريزي)، تقول البغي: “هززت رأسي. لم أكن بحاجة إلى السؤال لكي أفهم ذلك أيضاً، فهي إحدى القواعد الأربعين”. ص202.

– التعليق: هنا تقع الكاتبة في خطأة تقنية كبيرة، فحين تجعل البغي تعلّق على قول (شمس التبريزي) بأنه إحدى قواعد العشق الأربعين، تنسى بشكل غريب أن القواعد عند شمس وليست عند البغي التي لا ننتظر منها أن تعرف شيئاً عنها ولا عن الصوفية بشكل عام.

• ص257: تروي الكاتبة عن (إيلا): “ولم يكن عزيز يعرف أنها لم تكن تقرأ روايته فقط، بل كانت تكت تقريراً عنها أيضاً”.

– التعليق: عرفنا، من قبل، أن الكاتبة كثيراً ما تنسى قول شيء بعد بضع صفحات، بل بعد بضعة أسطر، فلا يكون غريباً أن تنسى هنا أن (إيلا) كانت قد كتبت إلى (عزيز)، قبل هذا بمئتي صفحة الآتي: “اسمي إيلا. وأنا أقرأ روايتك (الكفر الحلو) بعد أن كلَّفتنْي الوكالة الأدبية بذلك”- ص67- وبما يعني معرفة (عزيز)، إذن، بأنها ستكتب تقريراً عن الكتاب.

• ص283: “عندما سمع [الخليفة الرشيد] أن شاعراً بدوياً يُدعى قيس قد هام في حب ليلى وجُنّ من أجلها، وأُطلق عليه (المجنون)، أصبح الخليفة متلهّفاً للتعرف على المرأة… ومارس كل الحيل والسبل المذكورة في الكتب ليرى ليلى بعينيه هو، وذات يوم، أحضروا ليلى إلى قصر الخليفة هارون الرشيد”.

– التعليق: فات الكاتبة هنا أن قيس وليلى قد عاشا قبل الرشيد بمئة عام تقريباً. ويبدو أن الكاتبة أخذت (المعلومة) من شبكات التواصل الشعبية، دون تمحيصها.

• ص384: يقول شمس التبريزي: “إنك تهدفين إلى بلوغ المرحلة العليا من العدم. عيشي هذه الحياة خفيفة وفارغة مثل الرقم صفر. إننا لا نختلف عن أصيص الزرع، فليست الزينة في الخارج، بل الفراغ في داخلنا هو الذي يجعلنا نقف منتصبي القامة. مثل هذا تماماً، فالوعي بالعدم وليس ما نتطلع إلى تحقيقه، هو الذي يُبقينا نواصل الحياة.”

– التعليق: يبدو هذا الكلام، أول وهلة، سليماً، فهو القاعدة الثالثة والثلاثون من قواعد العشق الأربعين لشمس الدين التبريزي، ولكنه يكون مضحكاً، إذا ما عرفنا أن الكلام الصوفي العميق هذا، الذي قد يصعب على أيٍّ منّا فهمه بدقة، موجَّهٌ إلى بغي بسيطة.

*

هذه الأخطاء الكبيرة، إلى جانب الكثير من الأخطاء الثانوية التي تجاوزناها، تعزز مأخذنا على الكاتبة في عدم تجشمها عناء العناية والتثبّت وتعزيز ما تظنه صحيحاً من معلومات وتأريخ بالرجوع إلى المصادر.

وهنا نتساءل: ماذا يعني هذا كله؟ نعتقد أن الأخطاء تعكس اللامبالاة التي يقع فيها بعض الكُتّاب الكبار الذين يقودهم نجاحهم إلى التسرع بالكتابة، وعدم المراجعة والتدقيق. وهذا يجعلنا، بالتالي، نقول بأن الجهد، الذي بذلته إليف شافاق في جمع المادة لروايتها، ليس كما يُظن، بل هو عبارة عن قراءة لسيرتَي الرومي والتبريزي، وقواعد العشق الأربعين لشمس الدين التبريزي، وهي يمكن أن تكون ملائمة لكتابة عمل سردي مشوق، ولكن ليس على حساب التاريخ والمعلومة وسلامة السرد.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى