ما الذي تغير في 14 عاما؟: الأدب العراقي من السلطة الشمولية إلى فتات الأحزاب

صفاء ذياب

على الرغم من المراحل التي مرَّ بها الأدب العراقي منذ عشرينيات القرن الماضي وصولاً للستينيات والسبعينيات، غير أن حقبتي الثمانينيات والتسعينيات غيرتا الكثير من ملامحه، ففي الوقت الذي سعى فيها الأدباء العراقيون للحاق بالمتغيرات التي تطرأ على الأدب العالمي، والصرعات الكثيرة التي كان تدخل إليه مع كل مرحلة، دخل أغلب الأدباء والفنانين العراقيين تحت ظل التعبوية، فصارت قصائد وروايات وقصص الحرب هي السائدة، حتى أن المستمع كان يعرف مقدماً ما الذي سيقوله الشاعر قبل أن يصل إلى المنصة.. في حين هرب عدد قليل بإبداعه بعيداً عن السلطة، فأصبح هامشياً في الأدب، خصوصاً الأدباء الذين لم يتمكنّوا من الهرب خارج العراق، حتى عدَّ أحد الأدباء السوريين – في زيارته لمهرجان المربد العام 2001 حينما رأى عدداً من الشباب يتداولون قصائدهم خارج قاعة القراءات- أن الشعر يولد بعيداً عن المنصة، بعيداً عن سلطة هذه المهرجانات والقائمين عليها.
هذه التعبوية؛ رغم أن الكثير كان يكتب فيها، ويتحدث بازدراء عنها في الوقت نفسه أمام الآخرين، تحوّلت بعد عام 2003 إلى تعبوية جديدة، فمن كان يمدح الديكتاتور صار يمدح رجل الدين، ومن كان يمجّد جيش الديكتاتور أصبح يمجّد قيادات الأحزاب الدينية، بحجّة أنها تدافع عن العراق.. وفي الوقت نفسه، فإن من كان في السابق منزوياً، ما زال حتى الآن ينأى بأدبه بعيداً عن الأيديولوجيا والتعبوية. وبدلاً من أن كانت تقام مهرجانات باسم القائد المفدى، أصبحت تقام مهرجانات باسم الأئمة ورجال الدين، حتى أن أحد المهرجانات التي أقيمت تحت مسمى (بطولات القوات المسلحة) صرف عليه أكثر من 700 مليون دينار عراقي (5.600) مليون دولار، وزعت على 10 قصائد فقط.. فضلاً عن مهرجانات أخرى تحتفل بالجيش العراقي يصرف عليها مئات الملايين، في الوقت الذي يستقطع من رواتب الموظفين العراقيين من أجل تغطية رواتب الجنود الذين التحقوا بالجيش بعد احتلال الموصل على يد «داعش». ومع هذا، يمكننا أن نتساءل: ما الذي تغيّر في الأدب العراقي بعد 14 عاماً على سقوط النظام الديكتاتوري؟ وهل ثمة تحوّلات كبرى طرأت عليه، أم أن الأسماء والآليات هي التي تغيّرت فقط؟

التفاعل مع التحوّلات

يشير الناقد أسامة غانم من مدينة الموصل، إلى أن التحول الثقافي في أي بلد، خاصة في البلاد العربية، محكوم بالتحولات السياسية والسوسيولوجية والاقتصادية والدينية، وفي العراق انبثقت إشكاليات من هذه المحاور، بل قُلْ مشاكل مخيفة أُوجدت في كل مفاصل المجتمع العراقي، ومنها المفصل المهم والخطير وهو الثقافة، ففي السياسة كرست المحاصصة الطائفية التي قامت بشق المجتمع إلى أناس تملك المليارات وأناس معدمين، وإلى تعميق المذهبية، وإلى القتل المجاني في العراقيين جميعاً، وانتشار الأمية. مضيفاً أن التجربة الروائية في العراق خلال السنوات العشر الماضية انتعشت وتطورت وأصبح السرد الروائي العراقي يتفاعل مع التحولات والتجديد الذي طرأ على الرواية العالمية، لتصبح أكثر نضجاً وفاعلية عما كانت عليه في العهد الشمولي، وعما أصاب البلد من فساد وخراب، وعدم وصول التغيير إلى المسؤول في المؤسسة الثقافية، إذ وضع السياسي بدلاً من المثقف، فعقلية السياسي المنتمي إلى الأحزاب الدينية– السياسية غير عقلية المثقف الحر الذي يسعى لتحقيق الرؤية الإنسانية والعدالة الاجتماعية في المجتمع العراقي، نتيجة لذلك تقاطع السياسي مع المثقف، وأصبح السياسي كلما يسمع كلمة مثقف أو ثقافة يتحسس مسدسه؛ بحسب مقولة الألماني غوبلز، وأصيب المثقف العراقي بخيبة أمل من السياسيين الذين لا يؤمنون بالثقافة والمثقفين، بل وصل الأمر إلى معادتهم، لذا أخذ الروائي يعتمد على إمكانياته الذاتية، في النشر وفي التوزيع وفي الدعاية، إذ أنتجت هذه العملية روايات مهمة ورصينة وعميقة في النوعية، بالإضافة إلى ازدياد كتابة الروايات وطرحها في الأسواق، والبعض منها وصل إلى جائزة البوكر… فقط تحتاج الرواية العراقية الآن إلى إلقاء الأضواء عليها وتحليلها والقيام بدراستها، من خلال كتابة الدراسات النقدية الحديثة عنها.

أمراض وجودية

فيما يرى الروائي والمترجم علي عبد الأمير صالح؛ من مدينة الكوت، أننا إذا كنا نلجأ في الكتابة الشعرية أو الروائية إلى الأسطورة والرمز والقناع والغموض المتعمد أحياناً، فإننا بعد التغيير في 2003، صرنا نكتب بجرأةٍ كبيرة، فقد شعرنا بأننا لم نعبّر عن أنفسنا بشكل كافٍ في ماضيات الأيام، وصار يتعين علينا أن نكتب عما سكتنا عنه، أو لمحنا إليه، أو مررنا به مروراً عابراً. صرنا نفتش عن الفجوات التي تخللت كتاباتنا، أو الأشياء التي انطمس ذكرها أو ضاعتْ في النسيان. بعد التغيير كان لزاماً على الروائي أن ينصرف للكتابة الجادة التي باتت حاجةً عضوية في حياته، بعد أن شهدتْ بلاده انقسامات وتناقضات كثيرة لم يعدْ بالإمكان السكوت عنها أو تجاهلها، لأنه لم تعدْ هناك سلطة استبدادية تفرض السكوت على مواطنيها وتضللهم وتعيد كتابة حكاياتهم. وإذا كان بعض الروائيين العراقيين قد كشفوا صفحاتٍ موجعةً من سيرهم الذاتية المليئة بالفقر والحرمان والقمع وغياب الحريات وذل المسغبة، فإن عدداً آخر منهم بات يركز على حيوات أقليات دينية وعِرقية تعرضت للتهميش في الماضي وصارتْ مهدَدةً في وجودها وحاضرها ومستقبلها، من خلال التمييز والتهجير والنزوح وسواها. وهكذا عاصر بعض كتابنا وشعرائنا التحولات التي شهدها العراق في الأعوام الأخيرة وما آلتْ إليه من شروخ وأمراض «وجودية» وانحطاط وخراب، من خلال كتابات خلاقة صدمتْ أفق توقع القارئ العراقي والعربي.

زوايا التغيير

ويحدد القاص منتظر ناصر، من مدينة بغداد، أن ما حدث بعد 2003 يمكن أن يقرأ من زاويتين: الأولى: هي أن الخروج من عباءة الديكتاتورية التي احتكرت وسائط النشر ومنصات الإبداع، من قنوات تلفزيونية وإذاعية أو احتفاليات ومهرجانات ودور نشر وصحف ومجلات، رافقه ظهور جيل إبداعي جديد استفاد من كسر ذلك الاحتكار، وولج عالم البث الفضائي والرقمي من أوسع أبوابه، فضلاً عن استثمار العديد من المجلات والصحف ذات التوجهات المختلفة، ومن ثم ركوب موجة مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أسهم بتهشيم الأيقونات الثقافية، التي كانت تتصدر المشهد طوال عقود، إلا من بقي منها على قيد الإبداع، مازجاً إياها برموز جديدة بدأت بالتشكل في فضاء حر قريب إلى الفوضى. الثانية: وهي أن المتغيرات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي رافقت عملية التغيير بعد 2003 أدت إلى كسر القيم والأنماط الثقافية والإبداعية القائمة، وبالتالي أثر الأمر كثيراً على الحياة الثقافية في العراق، ففي الوقت الذي نمتدح فيه إسهام ذلك بإبراز أسماء جديدة، فإن علينا أن نحزن لضمور أسماء أخرى، واعتزالها ممارسة العمل الإبداعي بسبب الهجرة أو الاغتيال أو عدم التكيف مع الحالة الجديدة، أو اندثار حرف وصناعات لم تكن لتنفصل عن المشهد الفني والثقافي كسوق الرسم واللوحات الذي فقد اشهر فنانيه وتجاره ومحالّه، أو سوق الصفافير، أو تراجع معاهد الفنون وكلياته.

تعدّد الرقباء

وبحسب الشاعر علي الشيال؛ من مدينة الناصرية، فإن الكاتب العراقي الذي عاش فترة الديكتاتورية يعي جيداً كيف كانت مُخرجات المادة الإبداعية وبكم فلترٍ وتابو ورقيب داخلي تمر لتظهر للجمهور، ويبقى على الرغم من ذلك في فترة قلق رغم التشفير والاشتغال على الإيحاء والدلالة من الرقابة الشديدة التي تفرض على المادة الإبداعية، ويعني الشيال بهذا المادة النقية غير الملوثة بمديح الطاغية ورموزه… غير أنه بعد أن سقط هذا النظام بدأ المبدع العراقي يحاول وبصعوبة إزاحة الرقيب الداخلي الذي تشكل عبر عقودٍ طويلة من كل أنواع الاضطهادات، لذلك نجد أن المواد الإبداعية جميعاً، وبكل صروفها، كانت متحررة من كل قيد وبشكل يصل للفوضى في بعض الأحايين على حساب القيمة الجمالية والفنية، وبعد مرور السنوات جاء رقيب آخر وآخر، مثل الرقيب الاجتماعي والديني والعرقي والمناطقي الذي طفح على الساحة الثقافية بشكل يثير الريبة، ويعيد لذاكرة الكاتب العراقي تلك الحقبة السوداء، على الرغم من الفارق بين حقبتين، خصوصاً بعد رفع الرقابة الحكومية عن المطبوعات.

حريات متجددة

ولم تزل ذاكرة الشاعر عبد الأمير خليل مراد؛ من مدينة الحلة، مليئة بالكثير من الأحداث والوقائع التي دأب النظام السابق على اعتمادها في تسيير عجلة الثقافة العراقية، خصوصاً في حقبة الحرب العراقية الإيرانية، إذ استطاع أن يدجن الأدباء بمختلف موجهاتهم، ويستعمل أدواتهم في الكتابة، وتوجيهها في خدمة معركة (المصير) كما يسمونها، أو معركة البوابة الشرقية، وقد أحدثت تلك الحقبة تحولاً كبيراً في الثقافة العراقية، وأصبحنا بين ليلة وضحاها منبهرين أمام السطوة الجديدة للثقافة المؤدلجة التي تقودها آلة الحرب المدمرة، فتحولت القصيدة إلى قصيدة تعبوية ينبغي أن نشم فيها رائحة البارود وأزيز الرصاص، فالدم والقتل بعض من حياتنا اليومية، وكذلك القصة القصيرة التي دأبت على الدخول إلى خنادق القتال وتقديم صورة البطل المختلف، ذلك البطل (السوبرمان) الذي يتلذذ بالموت، وهو يواجه نيران الأعداء.. وهكذا وجدنا العديد من الكتاب قد انغمروا في هذه الدوامة الجديدة، وأصبحوا أدباء مدنيين في غمار تلك الآلة الحربية، وصدرت في هذا الميدان روايات وقصص ودواوين تحت عنوان (أدب الحرب) وهي موجهاتهم إعلاميه دأب النظام على تقنينها وتوظيفها في معارك المختلفة. لجأ النظام السابق إلى تدجين وسائل الإعلام كافة وتسخيرها لأهدافه السياسية، فالصحافة والإذاعة والتلفاز، كلها أدوات تلهو بمدح النظام، والإلحاح على (فتوحاته) الوهمية، حيث ظهرت لدينا تسميات غريبة على ثقافتنا، كشاعر الحرب وشاعر أم المعارك، وهي تسميات اقترحتها الظروف الاستثنائية في الثقافة العراقية. غير أن التغيير- وإن كان من الخارج- فقد كان كالصاعقة التي زلزلت عالمنا، كان تغييراً صادماً استطاع أن يزحزح قناعاتنا بماضينا لما فيه من أوجاع ومآسٍ، إذ يجد فيه كل فنان وأديب ومبدع ضالته في الكتابة والإبداع، فقد أصبح الفضاء أمامه مفتوحاً على مختلف المواجهات الثقافية، بعد أن كان استيراد الكتاب الثقافي ممنوعاً- على سبيل المثال- كما أن الحصار المدمر ألقى بكلكله على حياتنا العامة، وأمست رائحة الكتاب محجوبة عن أنوفنا، فاستفحلت ظاهرة الاستنساخ المقيتة، على ثقافتنا لقلة المصادر وغياب المراجع التي تأخذ بأيدينا لإنجاز دراسة وإعداد بحث أكاديمي. ويضيف مراد: التغيير اليوم هو تغيــــــير للبنية الثقافية بمختلف منابعها وآثارها، إذ نرى الكتاب الثقافي والعلمي في مكتباتنا، فضلاً عن انهيار الرقابة على الحريات الفكرية والثقافية، وتحولها إلى ماضٍ لا نحمده، إضافة إلى تعدد المنابر الثقافية كالصحف والفضائيات، وعلى الرغم من عدم وجود الرقابة الفكرية، ولا حتى الفنـــــية، فإن الضمير الإبداعي هو الذي يتحكم بالكتابة، فلم نجد أي قسر أو تقنين أو اضطهاد فكري على أي كاتب، وأصبحت سلطة الرقيب معــــدومة في حياتـــــنا الثقافية.. حتى أن معـــرض بغـــــداد الدولي في دوراته جميعاً لم يعلن عـــــن منع أي كتابٍ من العرض، وهو ما تفعله أغلب الدول التي تقيم معارض الكتب الدولية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى