رحل عن عمرٍ يناهز الـ65 في مدينة الحلّة: التشكيلي العراقي كامل حسين: المنتمي إلى الحياة… الباحث عن الغواية

صفاء ذياب

وهو يسعى لتقديم أعمال جديدة في معرض أعلن عن قرب إقامته، رحل بشكل مفاجئ الفنان التشكيلي والشاعر العراقي كامل حسين عن عمر يناهز الـ65 عاماً، بحصيلة فنية تتجاوز أثني عشر معرضاً شخصياً وعشرات المعارض المشتركة.. فضلاً عن إصداره قبل عامين مجموعته الشعرية الأولى «أقيم على حافة الهاوية وأنجو من الجمال بأعجوبة».
حسين ولد في مدينة البصرة عام ‏‏1952، وتخرج في أكاديمية الفنون الجميلة ‏جامعة بغداد فرع الرسم عام 1977، كما حصل شهادة الماجستير في الرسم عام 2012، وبين عامي 1975 و2012 انطلقت سلسلة معارض حسين التي ابتدأها بمعرضه الأول الذي أقامه عام 1975 حين كان طالباً في أكاديمية الفنون الجميلة، وآخرها معرضه الذي أقامه على قاعة نخلة وسط بغداد عام 2012، فضلاً عن المعرض الذي كان يترقبه متابعوه وأصدقاوه الذي أعلن أنه يعد له وسيقيمه خلال المدة القريبة المقبلة..
وفي محاولته للحديث عن تجربته المبكرة وتتلمذه على يد فنانين عراقيين، تحدث حسين في حوار سابق، قائلاً: كانت تجربتي الفنية مبكرة وقد تتلمذت على يد كل من الفنانين محمد راضي عبد الله وشوكت الربيعي وشاكر حمد، ولكني تأثرت بكل من الفنانين الرواد، فائق حسن وحافظ الدروبي وكاظم حيدر وإسماعيل الشيخلي، كما تربيت في بداياتي الفنية في مرسم تركهُ لنا كل من الفنانين صلاح جياد وفيصل لعيبي، وفيه الكثير من اللوحات التشكيلية، حيث كانوا أسماء مهمة خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي.
إلا أنه يعود للحديث عن هذه التجربة وتأثيرها عليه، «لكني تمردت عليهم بعد ذلك، فقد استفدت منهم ولم أتأثر بهم، كان للوحات صلاح جياد المائية، الدور في تعليمي. أما فيصل لعيبي فقد تعلمت منهُ الخط الخارجي، غير أني اتخذت طريقي الخاص في الفن التشكيلي».
وحينما يتحدث حسين عن أعماله واتجاهاتها الفنية، يؤكد أنها تتجه إلى أماكن مفتوحة وحُرّة، فهو لا يستطيع أن يقيدها، وليس له علاقة بالتجريد، ولكن هنالك تقنيات جديدة يفرضها علينا الواقع في العصر الحاضر والتكنولوجيا.
الفنان كامل حسين كان يعمل بصمت، إلا أن اختطاف بعض الصحافيين لحوارات سريعة معه يدفعنا لمتابعتها والبحث عن أهم الفلسفات التي اشتغل بها.. فيشير في حوارٍ آخر إلى أنه من النوع الذي لا يأتي للأشياء بقصدية.. «أنا أؤمن بأن الفن كالينبوع يظهر حتى لو كان في صحراء، ويأخذ تشكيلاته الحقيقية، وهذا هو إيماني بهذه النظرية. وأؤمن بنظرية أخرى أن الكائن الإنساني بطبيعته لديه قدرة مشاهدات ويخزن من ملياري صورة إلى أربعة مليارات صورة، وهذا رأي علمي وأنا من النوع الذي يرى ويخزن في ذاكرته، وأحياناً لا أرسم على القماش الأبيض في المرسم، أنما أرسم في عقلي وفي عاطفتي، وأستطيع أن أرسم مئات اللوحات، وحتى لو كنت في وضع الاستراحة وبعيدا عن اللوحة أو المرسم، ولكن هناك أشياء تتكون في داخلي، وهناك مقولة للفيلسوف البير كامو، «الفن هو تقبل وتمرد». وهذه المخزونات المتراكمة في داخلي التي أتقبلها ستظهر في يوم من الأيام عندي في لوحة من لوحاتي أو شيء يوحي بها أو بمضمونها أو كيانها، هذا الشيء موجود في عملي الفني حقيقة وكل اللاشيء الموجود في الكون.
ربما لم يفكر حسين في الفن كعمل يعود له بأي شيء، غير أن العائد الذي كان يرجوه هو تلقي المهتمين لأعماله بالطريقة التي يريدها هو، فقد كان يقدّم أعماله بتلوينات غريبة، وتشكيلات ليست سهلة الفهم لدى الكثير؛ حتى المهتمين بالفن أنفسهم، وفي هذا يقول: أعطيت للفن كل شيء ولم أحصل على أي شيء، فقط حصلت على رقي ذاتي وحبي للجمال وللحياة بطريقة غير ما ينظر إليها الآخرون، وهناك متعة للفنان عندما ينجز عملاً ناجحاً، وهي أشبه برقصة جميلة تحققها هذه المتعة قد لا يحققها المواطن العادي، وهذه هي متعة الرسم، ولو كان فان كوخ باع لوحة في عمره كله بخمسة وثلاثين دولاراً لتغيرت حياته، لكنهم الآن يعملون له بالونات تحلق في السماء تحمل اسمه ولوحاته اليوم أغلى اللوحات في العالم، وهذه هي المفارقة.
الفنان والكاتب زياد جسام يشير إلى أن الفنان كامل حسين يمثّل اتجاهاً محلياً خاصاً في ‏ممارساته الإبداعية، ويمكن لنا أن نضع تجربته ‏هذه ضمن مدرسة الفن التعبيري، إذ حاول من ‏خلالها السير وفق قوانين وذوق ودلالات جمالية ‏واجتماعية لتحقيق ذاته، ومارس تعبيراً بسيطاً ‏وبليغاً استطاع أن يجسد به الحالة الإنسانية في ‏أبعادها الكونية والمحلية، سواء كان ذلك على ‏مستوى أدوات التعبير التشكيلية المادية أو على ‏مستوى الموضوعات، فإن تمعنّا بعالم هذا الفنان ‏لوجدناه مزدحماً بالروايات ومكتظاً بالأشخاص ‏المهمشين الذين يحاول تسطيحهم باللون، يبحث ‏حسين في ما بعد التراث والواقع، رسم الحقيقة ‏والحلم والماضي والمستقبل، مفردات الفنان كامل ‏حسين مركبة ومباغتة وكأنه أنجزها على سطح ‏اللوحة من دون أي تخطيط مسبّق، فهي تعبر عن ‏اختلاجاته الإنسانية للشخوص المسكونة بنبض ‏الحياة.‏
ويضيف جسّام: يوحي لنا بأنه يتتبع حركات وسكنات ‏الأشخاص في الشارع، كي يعيد تشكيل خطواتهم ‏على سطوح لوحاته، فهو يرسم بطريقة بعيدة عن الواقع بكثير، يمكن لنا أن ‏نسمي أعماله استكشافية نقدية متواصلة عن ‏تحقيق وتقديم مفاهيم ثقافية، ضمن حركة فنية ‏عالمية، تعبر عن الكثير من الدلالات والبديهيات ‏الجديدة، من دون تحطيم الصورة الحسية للواقع، ‏لا شك بأنه استفاد من تجربة الفنانين الذين سبقوه ‏سواءً كانوا عالميين أو أبناء حضارته، الموضوع ‏موجود في أعماله لكنه لا يظهر مباشرا، أما ‏تراكيب أعماله المعمارية الجمالية فقد لازمته منذ ‏بداياته، البيئة، الشخوص، اللون، الكتلة، كل هذه ‏مفاتيح دخل من خلالها وأحالها إلى لغة تشكيلية ‏ولونية، يستدعي فهمها والبحث في دلالاتها ‏وألوانها والتفاعل معها بصرياً، مع كثير من ‏الأسئلة التي تطرحها الطريقة المتبعة في تشكيل ‏فضاء اللوحة، كما أنه اتخذ من الألوان الحرة بناء الشكل ‏الفني وصاغه بطريقة إبداعية مختلفة عن غيرها، ‏تشكل هذه الفلسفة جزءاً من تشكيل الفضاء ‏الكوني الحساس الذي يشير إلى صراع بين قيم ‏الأشياء وبهائها وبين سيمياء اللاشعور.. إذ تعوم ‏مفردات كامل حسين في الفراغ كونه قيمة ‏تشكيلية، لها ضغطها على التصورات الجمالية ‏والثقافية معاً، فهو يسعى إلى الاندماج مع حاجات ‏المجتمع الذي انسلخت عنه قيم كثيرة منذ زمن.‏
في حين يبين الناقد زهير الجبوري أن كامل حسين لا يُريدنا أن نخرج عن أجساده، ولا عن تراكيبه اللّونية ليظل هائماً في فضاءات المتخيل باتجاه تعبيرات وإشارات مجددة، لتأخذنا أشكاله إلى تماهيات عميقة للحركة وردة الفعل المفاجئة، بمعنى وجود علاقات إيروتيكية وأخرى وظيفية تكتفي بفعل الإشارة الشكلية، من خلال إضمار تفاصيل الفعل الحركي داخل كل لوحة بين عناصرها، كما أن الفنان قتل الكثير من شخوصه الذين مثلوا قصدية أعماله، فهو بهذا لا تعنيه دقائق اللوحة وأبعادها والثيمات الموضوعية وحسب، إنما (أناه) الشاردة باتجاه آفاق رحبة، وهذا القلق لن ينتهي وإن استقر على أسلوبه التجريدي المشبع بتعبيرية تشكيلية متداخلة.
بقيت اشتغالات الفنان ضمن إطار الجسد تنفتح على جدل السؤال وعن كشوفات أخرى تتميز بإحالات خيالية، وفي منطقة أخرى نشعر باغتراب هذه الأشكال، لأن ملامحها ذابت مع مرادفات أخرى، ومهما حافظت على نسقها الّلوني والأدائي لكل المفردات المستخدمة، إلا أننا سنبقى نُلاحق أعماله مهما تباعدت ومهما استغورت في أعمال شكلية حديثة، لأن الهدف الأساس عنده هو أن يكون مختلفاً في كل مرحلة من مراحله الفنية.
ويرى الكاتب أحمد بجاي أن المتلقي يقف منبهراً أمام لوحات التشكيلي كامل حسين بما يمتلك من براعة في استخدام اللون ليقتحم بصر المتلقي ويجبره على إعادة النظر في التكوينات اللونية الصافية غالباً وعلاقتها الجمالية مع بعضها ومع الأشكال اللاتشخيصية المجاورة لها.
مضيفاً أنه في لوحات الفنان الجديدة يغادر المتلقي العناصر الأولية للتلقي ليدخل في لعبة تأملية بصرية جديدة يتعمق فيها الوعي في دراسة وتحليل الكتل اللونية وتغيراتها في اللوحة الواحدة ليتفق فيها الفنان في أشد عطائه مع وعي المتلقي، ولا يحتاج المرء تأمل كل أعمال الفنان حتى يدرك أن كامل حسين يمتلك إمكانية التطور كفنان تشكيلي ويبحث في إنقاذ الفنون الجميلة من السقوط في الفنون اللاجميلة.
أما كامل حسين الشاعر الذي أصدر مجموعة شعرية وحيدة «أقيم على حافة الهاوية وأنجو من الجمال بأعجوبة»، وكان يعد لنشر أكثر من كتاب، فقد قدّم تجربة شعرية تربط بين الشعر والتشكيل، وفي هذا يقول الكاتب أحمد الحلي: وكما يتضح لنا فإن الشاعر/ الفنان استهوته ثيمات إنسانية أخرى، بالإضافة إلى ثيمة الحب، من أبرزها ثيمة الصداقة والفقد وقد تطرق إليها من منظور جمالي حيث نقرأ عن المطرب مايكل جاكسون: أنتَ ألواني/ وأنا رقصك الجنوني، كلانا ممسوسان نصرخ في البرية؛ أنا لوعة اللون وأنتَ عطرُ الأغنية.
وثمة نص حزين حول الفنان الشاب الراحل قاسم الساير الذي سقط في أحد التفجيرات الإرهابية في الحلة وترك موته المفاجئ أثراً كبيراً في نفوس الحليين: قيثارُ سقط، قربَ المشفى في الحلة!
كما نقرأ عن جيفارا الثائر الكوني عدداً من النصوص اخترنا من بينها: الأقمارُ تطلب منكَ الرحمة بجلاديكَ، زحلٌ يتمنى لقاءك.
وفي الرؤيا الذاتية والتأمل نقرأ: خمسون نورساً غادروا إلى قرى نائية، بحثاً عن صيادين مهرة…
حاول الشاعر/ الفنان من خلال ديوانه هذا أن يمسك ببعض المعاني، مما هو ثاوٍ ضمن الهموم الجمعية أو هو ذاتي محض ولكن يمكن تأطيره ضمن هذا الإطار، مستعملاً المفردات والصياغات اليومية والمألوفة داساً بين ثناياها بعض الشرارات.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى