«حكاية العربي الأخير» لواسيني الأعرج: لحظات الكسوف العربي والعطالات الفكرية

ناصر الحرشي

واسيني لا ينسى قط أنه عربي، وتذكره لذلك يكمن في إنجازه، وهو الهرم الكبير في الرواية العربية. واع لوزنه لا ينفك يعيد الدروب أمام قدراته، واضعا الأسس لإيقاع جديد في كل ملافظه السردية. ناطق بلغة متنامية مورقة وجميلة. إن ما ينشره حقيقة ينبئ عن قدرة في الكتابة وسطوع في اللغة. فهو يمتلك مفاتيح أسلوبية تخترق الصعب.. تكتظ بالرموز لما هو في الصلب من الكينونة الإنسانية واندفاعاتها.
هكذا اكتسبت لغة واسيني الروائية معاني تتخطى الحلم في فيضها الدافق فتطغى الصور التي لا يعللها المنطق بالضرورة. إنها تجربة اللذة الرهيبة التي ينالها القارئ باعتباره فاعلا خارجيا يقيم خارج تخوم النص.. يمارس سلطته القرائية كذات مستهلكة للخطاب.. منفعلة ومتفاعلة، وهي تغوص في أغوار هذه المتن.
إن تجربة واسيني الروائية الرائدة جعــــلت منه مبدعا وكاتبا استثنائيا، بل كاشفا ومؤثــــــرا لا في وطنه وحســــــب، بل الجزء الأكبر الإنسانية أينما كانت أوطانها، ومهما كانت أزمانها.
فالأثر الفني دائما يجسد صاحبه، وهو نافذة على فهم المجتمع الذي أنتجه. وما يشد القارئ إلى نصوص هذا الكاتب هو صوتها المغاير، وحسها المخالف وأسلوبها النابض بها، نقيس جدارة وغزارة ابتكاره وكونيته. فجاءت أعماله توسيعا لرؤية الإنسان ودفاعا عن حريته، وهو شخص ساعد في تنوير عصره.
إن واسيني يقدم نموذجا جديدا للبطولة الروائية، وهي مضادة للبطولة التاريخية، فهي بطولة اللابطولة، التي تحمل كل معاني البطولة في سموها ونبلها في الحياة، وهي بطولة العصر العربي الراهن الفاقد لكل بطولة.. إنها بطولة التردي والانحدار.
رواية «حكاية العربي الأخير»، رواية استشرافية استباقية لمستقبل الحضارات، ولاسيما الحضارة العربية الإسلامية، وما سيلحق بها من هزائم وما يصيبها من أهوال، بعد أن تعطل وعيها وعجز عن الاشتغال.. فلم تعد تصنع تاريخها.
وفي بؤرة هذا المشهد التاريخي المتردي، أي في غضون سنة 2084 يعري واسيني عبر هذا المنجز الكتابي مجتمعات أربيا «العالم العربي الإسلامي» ويصف ردتها الحضارية، ليتحول سكانها إلى عرب التيه والشتات في الربع الخالي من صحارى الجوع والقتل، بعد نضوب الثروة النفطــــية، وشح مصادر المياه. فعبر هذا المرسل التخيلي لهذه الحقبــــة الزمنية 2084 يتنبأ الكاتب بما ستؤول إليه الأوضاع داخل هذا الفضاء الجغرافي القصي من صحراء الربع الخالي لشعوب أرابيا.. وهي عبارة عن أراض قاحلة لا تربطها بالحياة رابطــــة، آهلة ببشر تحولوا إلى وحوش ينهش بعضهم بعضا، ونفـــــوس يسكنها الهلع، ويتقد بينها الصراع على مصادر الماء والغذاء. إنها لحـــظة كسوف حضاري، يدق بحافره الثقيل على عموم شعوب أربيا.
وهي لحظات يعيش فيها الناس خوفا من نهاية الحياة، في واقع قاس حشروا فيه حشرا لتصير فيه أمة أربيا بلا إسم وبلا انتماء، موزعة بين صراع الحياة وهاجس الموت، لتمتد عبر مساحة رهيبة مشاهد هذا الأفول بمختلف مدنها، بعد أن سقطت نظمها فصار أهلها بدوا رحلا على غرار عرب ما قبل الإسلام. فهذه السقطة الحضارية المدوية لأرابيا، هي أهم ثيمة تطرحها هذه المعادلة الإبداعية. تشكل الشخصيات عصب العمل السردي، تعمل على تشخيص عوامله وتربط بين أجزائه، وتكشف عن مقاصده. إذ يحفل هذا الكون الحكائي الطويل النفس (446 صفحة) بكثير من الشخصيات التي تنتمي إلى عوالم ثقافية مختلفة وطبقات اجتماعية متفاوتة وفئات عمرية متعددة وأجناس وأعراق متنوعة، أسهمت كلها في تشييد هذا الصرح السردي وبناء أحداثه وهو ما دفعنا إلى اختياره ومقاربته سيميائيا، نظرا للفعالية الإجرائية التي أبان عنها هذا المنهج في مقاربة شخصيات النص، مستثمرين عدته النظرية التي شيدها سيميائيو مدرسة باريس، وفي طليعتهم الجرداس غريماس، الذي اعتبر أن الشخصية أو البطل من ورق حصيلة لسلسلة تحولات في المسار التوليدي، ويمكننا كذلك من الكشف عن الأبعاد الثاوية خلف كل ما هو ظاهر، ونظير ما نجده عند فيليب هامون الذي عد الشخصية علامة فارغة غير ممتلئة تشبه العلامة اللغوية، فربطها ببعدها الوظيفي.
يبدأ الفعل الأساس المولد للحكي في رواية «حكاية العربي الأخير» بالحديث عن قلعة أميروروبا.. قاعدة عسكرية أمريكية أوروبية متقدمة في صحراء الربع الخالي، وهي تمثل التحالف الأمريكي الأوروبي في صراعه ضد التنظيم «جماعة إسلامية متطرفة» وتحالف إيروشينا « إيران روسيا الصين « يقوده جنرال يدعى ليثل بروز، قائد هذه القوات في هذه القلعة.. وهو يعمل تحت إمرة جنرالات أسطول رابض بين البحر الأحمر ومضيق هرمز. وهو عسكري بلا قلب وبلا روح فقد عضوه الذكري وأحد أطراف جسمه في حادث انفجار سيارة صهريج محملة بالنفط في منطقة الرمادي في العراق، بالقرب من سيارته العسكرية برفقة والده، الذي لقي مصرعه. اشتهر بعنصريته البغيضة وكرهه لكل ما هو عربي وأجنبي. يرفض باقي الهويات والاندماج في ثقافة الآخر. ظل يحلم برتبة ماريشال طوال حياته يشبه موسوليني في ملامحه وصلعه، بل حتى في جنونه وقسوته. كما تأثر بهذه الشخصية الفاشية وحمل شعاراتها. يتنقل على كرسي متحرك، وهو يدير قلعة أميروروبا بقبضة من حديد.. يراقب الكل عبر شاشة رصد. « ليتل بروز لا يراقبكم بل هو فيكم إسوة بببغ بروذر» (الأخ الأكبر) بطل رواية «1984» لجورج أورويل، الذي يدعي أنه من سلالته ويقتدي به في كيفية إدارة هذه القلعة. هذه الرواية التي صدرت في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي وتدور أحداثها في لندن عام 1984، حيث كان بطلها الرسمي هو أنستون سميث، وهو مواطن من دولة أوقيانيا، وهي دولة شمولية كبرى، كان يعمل موظفا في وزارة الحقيقة.. إحدى الوزارات التي تشكل حكومة الحزب الأوحد. وتقود هذا الحزب والدولة شخصية غامضة تدعى الأخ الأكبر، وهو شخص يراقب جميع أفراد الشعب من خلال شاشة رصد تطل من كل مكان، كما يطل ليتل بروز على الأماكن في قلعة أميروروبا، يحصي أنفاسها تماما، كمثله الأعلى بيغ بروذر الموما إليه في رواية «1984». فلا قانون سوى قانون الشك بالذات وبالآخرين، ثم الاستبداد والخوف. وهي ترسيمة نصية تكهن عبرها جورج أورويل بما سيقع للعالم خلال هذه السنة. ليتل بروز هو شخصية عسكرية فظة مضادة للبطل آدم غريب.. الشخصية المركزية، وهو عالم فيزيائي نووي، حصل على جائزة نوبل في الفيزياء النووية مقيم في قلعة أميروروبا تحت حراسة مشددة من الجنرال ورجاله، من أجل إتمام أبحاثه النووية حول مشروع «قنبلة الجيب». وهي قنبلة نووية صغيرة الحجم فعالة، لكن بمؤثرات إشعاعية أقل، مستخلصة من اليورانيوم والبلاتنيوم، أو ما أطلق عليه بتجربة العقرب الأسود. فجامعة بنسلفانيا هي فضاء تكوينه العلمي ومخبر تجاربه، ينفرد بمواصفات علمية وثقافية كبيرة، مقابل رفيقيه في الدراسة والتجارب المخبرية، سميث غوردن ووليام وسيف صديقه، ثم عدوه بعد ذلك، بعد أن أخفق في مشواره العلمي لينقلب إرهابيا كبيرا يقود التنظيم تحت اسم جديد «الكوربو»، أي الغراب الأسود، محاولا اختطافه وقتله ف مطار باريس بمعية منظمة سرية تدعى «شادو»، أي الظل وهي تابعة لدولة أزاريا «إسرائيل» المتخصصة في قتل علماء الذرة العرب.
إن شخصية آدم غريب تمتلك مواصفات لا تمتلكها باقي الشخصيات الأخرى، لذا استحقت أن تكون شخصية رئيسة، شاركت بشكل مكثف في نسج أحداث الرواية، وبناء على ذلك فإن السارد عمل على إضاءتها في شخصيات ذات مرجعيات حضارية وعرقية وثقافية مختلفة تحيل إلى حقول معرفية عديدة.
هكذا يلاحظ أن هذه الشخصيات ذات المرجعيات المتباينة والمتقاربة والمتحاورة والمتنافرة أحيانا تؤدي وظيفة أساسية تتجلى، إما في تحديد إطار النص الفضائي والزمني (أحداث الرواية) أو في تحديد وظيفة سياسية أو أيديولوجية أو علمية من خلال الإحالة على رمزية الاسم.. فهي لا توظف في سياق النص عارية من أي غطاء، لكل منها رمزانية دالة لأن الخطاب الروائي هو خطاب علامي مشفر بين مرسل ومرسل إليه، كلون الغلاف مثلا، وهو لون أسود يرمز إلى الظلام والخراب الذي سيحل بالعالم في سنة 2084 أي نكسة حضارية ستعرفها شعوب أرابيا، أو هي صدمة الحداثة التي لم يعد يربطها بهذه الشعوب خيط ناظم . واللون الأحمر دليل على انهيار النظم القانونية والأخلاقية لهذه الحضارات. ثم اللون الأبيض وهو لون الموت والكفن، أي نهاية الإنسان العربي وخروجه من سفر التاريخ.
تمثل زوجته أمايا، وهي يابانية متخصصة في الطب الإشعاعي رفيقة دربه في الأبحاث العلمية مع معارضتها الشديدة لمشروع قنبلة الجيب. وهي روحه التوأم في كل توجهاته وأحلامه وقيمه في بعدها الكوني، رغم الهوة الحضارية الكبرى بينهما. وموتها الفاجع دليل على شرخ حضاري وعطالة فكرية لا تؤمن بثقافة الاختلاف.
تظهر علاقة البطل بالحيوان في كل منعرجات هذه الإرسالية الحكائية، كالذئب الذي يحمل اسم رماد، وهو حيوان افتراضي يطغى حضوره في داخل هذه الخريطة النصية وقد منحه الكاتب صفات آدمية، وهو يختلف عن باقي الذئاب لأنه غير عادي وفريد من نوعه، له قلب محب وثائر.. متمرد على سنن الحيوان وبربرية الإنسان ويمتلك رؤية للعالم.. فصوته يذوي في أعماق آدم غريب.. ربما هو زفرة وصرخة آخر عربي لآخر قبيلة من سلالة أرابيا الآيلة للزوال.
لقد تمكن الروائي واسيني من بناء خطاب سردي تخيلي، راهن من خلاله على إمكانية حدوث تواصل حضاري بين الشعوب، بعيدا عن أي تصور أيديولوجي استعماري معولم، يريد امتلاك أسلحة الدمار الشامل من أجل اخضاع باقي الحضارات، ولاسيما حضارة أرابيا. وعطفا على ما سبق حاول أن يدافع عن حضارة بشرية كونية تشمل جميع البشر على اختلاف عقائدهم وأقوامهم وأديانهم. إنه يفكك كل الانغلاقات الثقافية التي تقدم نفسها في شكل غيتوهات مغلقة. القاسم المشترك بين كل هذه الحضارات هو علم يخدم الإنسان ومكارم الأخلاق.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى