غسان كنفاني: جماليات المرارة والشهامة

رياض خليف

مثلت تجربة غسان كنفاني السردية نموذجا للسرد الفلسطيني المقاوم، ما بوأه مكانة مهمة في الذاكرة الفلسطينية والعربية، فعد لسانا من ألسنة فلسطين تحمل عبء القضية، وخاض نضالا متعدد الأوجه، ما جعله هدفا للاغتيال عبر تفجير سيارته في الثامن من يوليو/تموز 1972 في بيروت. ولكن مكانته الأدبية لم تتأت فقط من خطابه الأيديولوجي ورسمه لمناخات ويوميات قضية عادلة تكتسب التعاطف، ففي تجربته وعي جمالي متميز وحرص على كتابة سرد جديد، ولعل مجاميعه القصصية تحمل هذه البذور الجمالية بوضوح، فغسان لم يكن كاتبا بسيطا يكتفي باستيفاء اليومي والمباشر ونقله، وإنما كان يحرص على إضفاء الطبيعة الأدبية على أعماله، وهو ما سنرصده في بعض أقاصيصه.

من المرجعي إلى الجمالي:

تبدو أقاصيص غسان كنفاني منتمية في الغالب إلى القص المرجعي، فأحداثها متكررة ومألوفة وشخوصها ليست غريبة، ولكن غسان لم يكن مجرد ناقل للوقائع ومؤرخ ليوميات الشعب الفلسطيني ومعاناته الطويلة، بل تحمل كتاباته جمالياتها الخاصة وتنخرط في الكتابة الأدبية الحديثة. صحيح أن بعض القصص لها صلة عميقة بالمرجع وتتخذ الطابع التسجيلي، لأنها تنطلق مما وقع، وتخالف القاعدة التي تعتبر التخييل السردي تخييل «ما يمكن أن يقع»، وهي إعادة صوغ لأحداث وقعت بالفعل ونقل القبيح والمؤلم إلى العالم التخييلي، ولعلنا نذكر من ذلك «موت سرير عدد 12، وقتيل في الموصل، ولا شيء». وهي قصص ذات طابع تسجيلي لا ينكره الكاتب، بل يعترف به ويضعه أمام القارئ في الإهداء أو التصدير.
ففي قصة قتيل في الموصل تبدو قصة صديق محدد وله وجود، يقول في مطلعها «حين كتبت هذه القصة في 1959 اهديتها إلى صديقي م، الذي ذهب إلى الموصل ثم ضاعت أخباره، ولكنني لم أنشرها حينذاك لأن قصة صديقي م لم تكن قد انتهت بعد… كنت أريد أن يصير بوسعي صياغة الإهداء بالشكل التالي.. إلى صديقي م وقبره يغتسل بالشمس الحقيقية فكان عليّ أن انتظر حتى 8-3-1963». والمنهج نفسه يلوح في «موت سرير عدد12»، فهو يشير في المقدمة إلى الشخصية وإلى عائلتها «لا بد أيضا ولو بدا ذلك غريبا بعض الشيء أن أرسل عزائي إلى العائلة المجهولة التي فجعت بموت ابنها محمد علي أكبر، الذي مات بعيدا وحيدا غريبا على السرير رقم 12 وهو ينزف عرقا نبيلا في سبيل لقمة شريفة». أما المثال الثالث فتصدير قصة «لا شيء» وهو الذي يؤكد أن القصة إعادة صوغ لخبر صحافي «نقلت الأنباء أن جنديا على الحدود صب فجأة رصاص رشاشه على الأرض المحتلة فاقتيد إلى مستشفى الأمراض العصبية». تطرح هذه الأمثلة مثلما أسلفنا مرجعية القصص وواقعيتها، وتكشف تفاعل المتخيل الأدبي مع اليومي ومع أجناس أخرى من الكتابة، مثل الكتابة الصحافية. ولعلنا ننتبه في هذا المستوى إلى حضور الميتاسردي في أقاصيص غسان، فصوت المؤلف يحضر ليؤطر حكي السارد وليفك لغز واقعيته وليلوح للقارئ بالحكاية. ولعل هذه الظاهرة تعد من جماليات السرد الحديث، وهي لا تقتصر على عتبات العمل، بل نجد لها أصداء في داخل القصص فهناك نوع من الالتفات إلى عملية الحكي وتفاصيلها.

التنوع الأجناسي والتذويت

ولكن مرجعية بعض القصص لا تخفي جماليات الكتابة القصصية عند غسان كنفاني، ومنها ما فيها من تنوع أجناسي، فالمؤلف ينهل من عدة أجناس سردية وتحديدا الأجناس السيرذاتية، فتغلب على أعماله الكتابة بضمير المتكلم وتذويت السرد. فتتواتر أشكال سردية ذاتية من أهمها الرسائل، حتى تبدو القصة الرسالة ظاهرة من ظواهر الشكل الأجناسي عنده. فالرسالة شكل يتخده غسان لسرد بعض القصص، ومن شأن هذا النوع أن يحدث تنوعا وتعددا صوتيا، كما يمنح الكاتب مساحات وفرصا مختلفة للتعبير عن ذاته ومواقفه، فتمتزج الحكاية بالرسالة والذاتي بالتخييلي. ولعل من بين هذه القصص الواردة في شكل رسائلي قصة
«منتصف أيار» فهي رسالة تبدو القصة مضمنة بداخلها ولا تخلو من الالتفات إلى فعل الكتابة وإلى حيرتها «عزيزي إبراهيم لست أدري لمن سوف أرسل هذه الرسالة… لقد كان عهدي لك أن أحمل إلى قبرك في كل منتصف أيار بعض أزهار الحنون فانثرها فوقه». كما تتطرق إلى سؤال كتابة القصة في حد ذاتها وتصف تخييلها وكتابتها «إن خيوط القصة بدأت تنحل في راسي وأخشى أن أنساها.. هل تصدق؟».
وتحمل أقاصيص أخرى شكل المذكرات وتفتح أبوابا على الذاكرة تصبح معها العملية السردية نوعا من التذكر، وهذا ليس بغريب عن نص يكتب من الذاكرة الفلسطينية وإليها، ولعل من ذلك «ورقة من الرملة»: «كنت في التاسعة من عمري يومذاك ولقد شهدت قبل اربع ساعات فقط كيف دخل اليهود إلى الرملة، وكنت أرى وأنا واقف هناك في منتصف الشارع الرمادي كيف كان اليهود يفتشون عن حلي العجائز والصبايا..».

كسر رتابة السرد

ولا تخلو أقاصيص غسان كنفاني من كسر لمنطق الأحداث ورتابة السرد، فنشهد خلالها سردا دائريا أو استباقا للأحداث على نحو ما نجده في قصة «قتيل في الموصل» حيث تبدأ الحكاية من حدثها الأخير
– لقد قتل
– كيف؟ معروف؟ كيف قتل؟
بهذه المعلومة التي وردت في الحوار تنتهي الحيرة التي رسمها المؤلف في تقديم القصة، متسائلا عن اختفاء صديقه معروف، ويعرف القارئ أنه قتل في نهاية المطاف منذ بداية القصة. وإذا كان التلاعب بترتيب الأحداث يخرج بنا عن نمطية السرد، فإن تقنية أخرى مهمة، بدأت تسم الكتابة السردية الحديثة، وهي توظيف لغة الشعر، ولعلنا نجد نماذج من هذه اللغة في بعض القصص من ذلك حضور التشابيه والصور الشعرية والاهتمام بالوصف: «بدأت الظلمة تهبط بصورة أقتم وكان صوت الموج قد علا حتى أصبح يطوي كل صوت آخر، وأضاءت السفن البعيدة أنوارها فبدت في نهاية الأفق قناديل مأتم تحملها ملائكة متشحة بالسواد».
وصفوة القول إن أقاصيص غسان تنتصر للأيدولوجيا وللقضية وتكتب في الوقت نفسه لحظات المرارة والشهامة. ولكنها تنتصر أيضا للأدب والكتابة الجديدة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى