‘ساحر الأكاذيب’ الذي خدع العالم

امير العمري

خلال السنوات الأخيرة تصدت لإنتاج الأفلام شركات الإنتاج التلفزيوني الأميركي الكبرى مثل نيتفليكس وأمازون و“إتش بي أوه”، ونجحت هذه الشركات التي تبث أفلامها عبر القنوات الفضائية وأجهزة الأيباد وشبكة الإنترنت عموما، في التعاقد مع عدد من كبار المخرجين ونجوم السينما. أحدث هذه الأفلام فيلم “ساحر الأكاذيب” The Wizard of Lies للمخرج باري ليفنسون، بطولة روبرت دي نيرو وميشال فايفر.

“ساحر الأكاذيب” من إنتاج شركة “إتش بي أوه” التي أنتجت الفيلم البديع “وراء الشمعدانات” (2013) للمخرج الكبير ستيفن سودربرغ، وعددا من أفضل الأفلام التسجيلية. والحروف الأولى HBO تشير إلى الاسم الأصلي للشركة وهو “شباك التذاكر المنزلي”، وهي تبث من خلال الكابلات والفضائيات.

ومع التقدم التقني الكبير في مجال التصوير الرقمي ضاقت المسافات بين أفلام السينما والتلفزيون، بعد أن أصبح معظم المخرجين يستخدمون الكاميرات الرقمية المتقدمة في تصوير أفلامهم.

يعتمد “ساحر الأكاذيب” على القصة الحقيقية لواحد من أكبر “ملوك البورصة” في تاريخها وهو برنارد مادوف، الملياردير اليهودي الأميركي مؤسس وصاحب إحدى أكبر الشركات المالية في “وول ستريت”، والذي ظل يمارس الاحتيال على الكثير من المودعين والمستثمرين طوال 16 عاما، وبلغ حجم الأموال التي حصل عليها منهم 65 مليار دولار، وانكشف الستار عن ممارساته في ديسمبر 2008 بعد الأزمة المالية التي ضربت البورصات العالمية.

 

عن السقوط

قصة برنارد مادوف سجلتها الصحافية الأميركية “ديانا هنريك” في كتاب بالعنوان نفسه “ساحر الأكاذيب”، وهي تظهر بشخصيتها في الفيلم، تجري حوارا طويلا مع “بيرني” داخل السجن، أي بعد أن تم الحكم عليه بالسجن لمدة 150 عاما. ومن هذا المدخل يعود الفيلم إلى عام 2008 ليصور فترة “السقوط” وتأثيره على أسرة مادوف، أي على ولديه مارك وأندرو وزوجته روث. ويعتمد بناء الفيلم على الانتقال بين الحاضر والماضي مع العودة كثيرا إلى الحوار بين ماوف والصحفية، كما يعود في مشاهد عديدة لكي يجسد “طعم المال”. ولو استعرنا اسم فيلم “سكورسيزي” الشهير، في ترجمة بصرية لمعنى أن تكون مليارديرا، من خلال الحفلات الباذخة التي كان يقيمها مادوف ويدعى إليها العاملون في شركاته وما كان يقدم فيها من مأكولات نادرة ومشروبات غزيرة، وكانت تمتلئ بالصخب والعبث والجنون.

أسند برنارد إلى فرانك مسؤولية إدارة الشركة المالية الرئيسية، وكان فرانك الوحيد المطلع على ما كان يجري داخلها من غش واحتيال. أما الزوجة والابنان فقد بقوا في الظل، حسب رؤية الفيلم بالطبع، فنحن نراهم كضحايا لأب – زوج، ارتكب أبشع جريمة يمكن أن يرتكبها رب عائلة ضد أبنائه، مما أدى إلى توريطهم في فضيحة شخصية نتج عنها دمارهم النفسي جميعا، وتحت وطأة الفضيحة يقطع الابنان أي صلة لهما مع أمهما بسبب إصرارها على المحافظة على صلتها بزوجها خلال فترة وجوده تحت الإقامة الجبرية في منزله قبل محاكمته، ثم الاستمرار في زيارته بعد ذلك في السجن، إلى أن تقطع كل صلة لها معه بعد أن يقدم أحد الولدين على الانتحار شنقا!

كان برنارد مادوف يتمتع بذكاء بالغ، وقدرة مدهشة على الإقناع وجذب العملاء والإيقاع بهم في حبائله، أو في حبائل النظام الاستثماري الوهمي الذي يعرف بـ”ponzi scheme” وهو يشبه ممارسات “شركات توظيف الأموال” في بلادنا. فكان يحصل على عشرات الملايين من المستثمرين الذين يرغبون في الحصول على فوائد مرتفعة، ثم يدفع للمستثمرين القدامى أرباحا مغرية ليضمن رواج سمعة جيدة لشركته، مع جذب مستثمرين جدد باستمرار. وفي حالة قيام بعض المستثمرين بسحب أموالهم يصبح النظام كله مهددا بالسقوط.

 

براعة المخادع

في أحد المشاهد الجيدة أثناء حضور مادوف إحدى الحفلات الصاخبة، يتصل به فرانك مدير أعماله، ليخبره بأن الأمور لا تسير على ما يرام بعد أن بدأ المودعون يسحبون أموالهم، إلا أن بيرني ينجح في الإيقاع بمستثمر كان يرغب في استثمار 100 مليون دولار، يتدلل عليه أولا، ويتمنع، ويوهمه بأنه لا يستطيع ضمه إلى قائمة المستثمرين القدامى الذين يحصلون على أرباح أعلى، وبعد مناوشات ومناورات طويلة، ينجح في دفع الرجل إلى رفع المبلغ إلى 400 مليون دولار.

وفي أكثر من مشهد من مشاهد “الفلاش باك” تقع مشادات بين مادوف وولديه اللذين يدير كل منهما شركة خاصة به ولكن تحت عباءة الشركة الأم، فالشابان يرغبان في معرفة ماذا سيحدث لو وقع أي مكروه لوالدهما، فهما غير راضيين عن الإبقاء على أسرار الشركة كلها بين يدي فرانك، ويتطلعان إلى لعب دور مباشر في إدارة الشركة الأم. أما مادوف فيحتد ويصر على أن فرانك “سيتصرف” مقللا من قدرة الشابين على تصريف الأمور، وهو ما يؤدي إلى احتقان الموقف أكثر.

وفي مشهد يدور بعد انفجار الأزمة المالية في 2008، وعلى طاولة العشاء يجلس أفراد الأسرة. توجه حفيدة مادوف سؤالا مباشرا عما يحدث في “وول ستريت”، فيرد عليه مادوف، ينهرها ويوبخها بقسوة إلى أن تجهش بالبكاء وسط دهشة الجميع. هذان المشهدان يمهدان لما يكشف الفيلم النقاب عنه بعد بدايته الغامضة، عندما ندرك أنه كان يخشى أن ولديه ربما يطلعان على الحقيقة.

بعد انهيار الأسواق المالية، يبدأ المودعون بسحب أموالهم، ويصبح نظام الاستثمار الوهمي مهددا بالانكشاف، فيجمع مادوف مع زوجته وولديه، ويخبرهم بأنه سيقوم بتسليم نفسه للشرطة، بعد أن يقول لهم إن “العملية” كلها كانت مجرد غش وخداع وضحك على الذقون. هذه الصدمة تترك تأثيرا مدمّرا على الزوجة والولدين. وهم الذين سيبلغون الشرطة عنه ليتم اعتقاله وتفتيشه بطريقة مهينة قبل أن تتاح له فرصة الأسبوع الذي كان يطلبه لتسوية بعض الأمور وتوزيع بعض المال على أفراد عائلته الذين كان من بينهم عدد من المودعين.

 

لغز الشخصية

باري ليفنسون (75 سنة) مخرج مخضرم، بارع، من كبار مخرجي السينما الأميركية، وقد ذاع صيته في الثمانينات من القرن الماضي مع عرض فيلمه “صباح الخير يا فيتنام” (1987) ثم “رجل المطر” (1988) الذي حصل على 5 من جوائز الأوسكار الرئيسية منها جائزة أفضل فيلم وأفضل إخراج، لكنه ظل ينتقل بين السينما والتلفزيون، كما أخرج عددا من الأفلام التسجيلية. وهو يعتمد في “ساحر الأكاذيب” على سيناريو اشترك في كتابته ثلاثة من الكتاب، تقوم فكرته الأساسية على أن الشر ليس بالضرورة كتابا مفتوحا، أي أننا ربما لا نعرف قط دافع مادوك للاستمرار فيما كان يفعله طيلة كل تلك السنين.

إن بناء الشخصية الرئيسية وطريقة دفع الأحداث مع أداء روبرت دي نيرو العبقري في الدور الرئيسي، يجعلان دوافع مادوف لابتكار تلك الطريقة في الغش والاستمرار في الخداع ونهب الكثير من أموال المودعين، رغم المخاطرة وتأثير السقوط المحتمل على أقرب الناس إليه، يشوبها الكثير من الغموض.

إنه السؤال الكبير الذي تحاول الصحافية ديانا هنريك، دون جدوى، دفعه للإجابة عنه، كما تعجز الزوجة عن الحصول على إجابة منه، ويصبح كل همّ روث أن تفهم لماذا أصبح الرأي العام حانقا عليها لهذه الدرجة (في مشهد بديع يرفض الكوافير الخاص بها الذي ظلت تتردد عليه سنوات طويلة أن يقبل التعامل معها ويقودها إلى خارج المكان أمام نظرات النساء التي تشي بالاستنكار والنفور). ولا شك أن أداء ميشال فايفر لدور الزوجة يضفي على الشخصية الكثير من الجمال والرونق، ويجعلنا كمشاهدين نقف في مسافة ما منها، بين التعاطف والتساؤل. إنها تعيش في الإنكار، ترفض تصديق ما حدث، إلى أن تقع فاجعة الانتحار.

مادوف نفسه لا يبدو أنه يفهم تماما طبيعة دوافعه واستمراره كل تلك السنين في ممارسة التضليل والخداع. إنه لا يفتأ يجيب الصحافية إجابات غريبة تعكس حيرته على شاكلة “الذين وضعوا أموالهم عندي شركاء في الجريمة.. لقد كانوا مدفوعين بالجشع نفسه.. مشكلتي في الحياة أو بالأحرى خطئي أنني أردت دائما إسعاد الآخرين (ألم يكن يفعل مع كل المحيطين به!).. كنت آمل بأن يصل العالم إلى نهايته وأن ينتهي كل شيء. وعندما وقعت أحداث 11 سبتمبر تصورت أنها النهاية.. وكان يمكنني أن أواصل لكني اخترت التوقف بإرادتي..”.

وفي بناء الشخصية ملامح قد تدفعنا إلى بعض التعاطف معه، فهو ليس شريرا تقليديا، مغرقا في النذالة: فهو يسعى في البداية إلى تأمين مستقبل أسرته قبل تسليم نفسه للشرطة، ثم يخبر الأسرة بحقيقة الأمر، ثم لا يبدي أي مقاومة أو احتجاج عندما تعامله الشرطة بطريقة مهينة فظة (في مشهد القبض عليه يجبرونه أمام زوجته على تسليم كل ما في جيوبه ثم نزع رابط حذائه أيضا). وأمام القاضي يقر في هدوء بأنه مذنب في الإحدى عشرة تهمة الموجهة إليه، ثم يتجه بنظره صوب الحاضرين وأكثرهم من المودعين ويعتذر لهم، ثم يقبل الحكم الصادر عليه بنفس راضية. ويظل يسعى لمواصلة علاقته بزوجته من داخل السجن. فهو يحبها ويشفق عليها من وطأة الصدمة.

 

عن الأداء

هناك سحر خاص يحيط بشخصية مادوف ينبع من أداء روبرت دي نيرو الذي يخفي أكثر مما يظهر، فهو يعتمد على أداء هادئ، يحسب انفعالاته بدقة، يتمتع بقدر كبير من التلقائية والبساطة في التعامل مع الجميع. وعندما يتكلم من بين شفتيه وهو يضع السيجار في فمه، نشعر كأنه أحد زعماء المافيا، وذكرنا أداؤه عندما يقوم بتوبيخ الساقي في الحفل أكثر من مرة، بأدائه في “رفاق طيبون”.. إنه شخصية آثمة ولكن تتمتع بالهدوء والثقة خاصة وهو يتصرف كرب عائلة مسؤول حريص على أسرته.

في أحد المشاهد يتمدد مادوف على أرضية الحجرة بينما يقف ولده يحادثه في غضب، يتطلع إليه الرجل من موقعه، أي من زاوية منخفضة، لكنه يبدو رغم ذلك، المتحكم في الموقف.

لا يعاني مادوف من رثاء الذات، وهو يقول لزوجته “لقد عشنا حياة جيدة.. أليس كذلك؟”، لكنها تجيبه “إلى أن دمرتها أنت”. لكنها ليست حانقة عليه، وهي تعترف له بأنها -رغم كل ما حدث- لا تشعر بالغضب. وفي خضم أزمته الداخلية يتناول كلاهما، كمية من الحبوب المهدئة قصد الانتحار، ثم يتمددان على الفراش في استرخاء أخير، على شاشة التلفزيون الموجود بالحجرة، تغني جودي غارلاند في أحد أفلامها القديمة “احتفل بعيد كريسماس سعيد.. في العام القادم ستختفي كل مشاكلنا”.

وفي هلوسة بصرية بتأثير العقاقير، يرى مادوف ولديه وهما يعاتبانه عما فعله بهما، ثم فرانك يطمئنه بأن الأمور ستكون على ما يرام، وعلى خلفية من الشموع التي تحولت إلى حرائق برتقالية اللون في الخلفية، ينصح إحدى قريباته مع شقيقته بوضع كل أموال زوجها المتوفى في حساب واحد عنده، ثم يصبح عرضة لهجوم دائنيه – في لقطات سريعة بالأبيض والأسود- فهم يطاردونه ويسبونه ويتهمونه بتدمير حياتهم، ثم يعتدون عليه. المشهد مبتكر ولكنه يعاني من بعض الإطالة والاستطرادات، كما يبدو خارجا عن الأسلوب العام للفيلم.

مادوف لا يفهم بالضبط ما حدث له؟ هنا تبدو استعادة شريط الحياة، وما يرويه للصحافية التي تلح على معرفة لماذا حدث ما حدث، غير ذي معنى، فهو ينتهي بأن يوجه لها بنبرة مليئة بالإنكار، سؤالا يظل معلقا دون إجابة، هو: هل تعتقدين أنني مضطرب اجتماعيا sociopath؟

“ساحر الأكاذيب” فيلم ممتع رغم معرفتنا المسبقة بالأحداث، وذلك بفضل أداء دي نيرو الذي يتمتع بكل هذا السحر والرونق. إننا أمام عملاق يتماهى ويتقمص ويتسلل داخل جلد الشخصية، وربما كان مادوف الحقيقي، سيجد فيه ما يسري عنه في وحدته التي ستمتد حتى نهاية العمر!

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى