بعد تحولات كثيرة منذ عشرينيات القرن الماضي: هل ثمة تقاليد حقيقية تؤسس للثقافة العراقية؟

صفاء ذياب

يرى الكثير من النقاد والباحثين العراقيين أن الأدب العراقي ما زال أدب لحظة، بمعنى أنه يؤسس للحظته ويؤثثها في محاولة منه لتفهم ما يعيشه، فضلاً عن الأدب الذي يتحدث عن اللحظة ذاتها، إن كان مدحاً، أو ما يعرف بالأدب التعبوي، أو ذمّاً؛ وهو جزء من أدب المعارضة.. وهكذا مرّت على الأدب العراقي حقب وعقود طويلة وهو يتنقل من مرحلة إلى أخرى، بدون أن يكون هناك امتداد واضح لما ينتجه من جهة، ومن دون أن يبني تقاليد ثقافية تؤسس لمعايير أدبية تخلق جوّاً ثقافياً ومعرفياً لما بعد هذه اللحظات التي يمرّ بها هذا الأدب.
وربما شواهدنا على ذلك كثيرة، ابتداءً من المعارك التي بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي بين الكلاسيكيين والحداثيين، مروراً بالستينيات والسبعينيات والثمانينيات، التي أسهمت بشكل واضح في انقسام الأدب العراقي إلى أدب سلطة وأدب معارضة، وحتى ما بعد عام 2003 وصولاً إلى اليوم، انقسم الكثير من الأدباء بين مادحين للتجربة الحالية بطرائق مختلفة، أو مبتعدين عن الهم السياسي والاجتماعي باحثين عن مفهوم الفن للفن. وهذا ما نجده في الشعر والقصة والرواية، وحتى في الفنون الأخرى عموماً، سمعية ومرئية.. غير أن التساؤل الذي نبحث عنه الآن: هل تمكّن الأدب العراقي من ترسيخ تقاليد ثقافية يمكن أن تنشئ أجيالاً جديدة، أم ما زال التخبُّط والعشوائية مسيطرين عليه منذ عقود طويلة؟

اضطراب مستمر

يقول الناقد سعيد الجعفر، إننا حين نتحدث عن الأدب في العراق فإننا نتحدث بالتأكيد عن الشعر وليس السرد، فالشعر هو الذي ساهم في بناء الذات العراقية، وهو لا يجد فرقاً بين الفصيح وشعر المحكية، فكلاهما كان له دور في عقود كثيرة تمتد حتى بعد منتصف القرن العشرين بقليل. بيد أن الانكسارات الكبيرة بعد مجيء البعث عام 1963 ومن ثم الانكسار الكبير الذي أصاب الثقافة العراقية والشعر بشكل خاص، منذ مجيء البعث ثانية، والحقبة الصدامية التي أدت إلى هروب كبار الشعراء أو انكفائهم. لقد كان وقع المنفى والديكتاتورية مريعاً على المبدعين عامة وبالذات الشعراء، وبعد العمالقة كالجواهري والسياب وحسب الشيخ جعفر، جاء جيل انحاز بدونية للحداثة، بحيث نسي الخصوصية العراقية. فليس نادراً أن تصادف شعراء لا يذكرون النخلة والفرات، بل يتحدثون عن الآبنوس ووحيد القرن والهندباء والبتولا والنبيذ والقداس الجنائزي، وهم لم يغادروا قراهم ومدنهم إلا بالكاد. كذلك ظهرت جوقة المداحين للبعث وصدام، يسكنون البلاط والمهرجانات، تلت موجة لعقود يغلب عليها شعراء يساريون مطاردون. ولذا نجد أن الاضطراب ساد أجيال الشعراء، وحار فيها المتلقي غير المطلع، بحيث صار يخلط بين شعر متمرد مخلص لضميره ناقد للمجتمع والسلطة والجور والظلم، وشعر البلاط، فغدا معيار فنية القصيدة هو المعيار المطلق، وكأن ضمير الشاعر ليس هو المعيار الأسمى. فيما يخص السرد؛ يوضح الجعفر، تجارب العراقيين باهتة بحيث لم تؤثر في الذائقة العامة، مع وجود استثناءات كمحمد خضير وفهد الأسدي ومحيي الأشيقر وسنان أنطون وحميد العقابي، وهي أسماء لا تشكل ظاهرة كي تستطيع أن تصيغ الذائقة والفكر والذاكرة. الاضطراب ديدن الوضع العراقي منذ عقود وبذا ينعكس الأمر على الإبداع عموماً وبالذات الشعر والسرد.

شوائب الإبداع

في حين يرى الروائي راسم قاسم أن الأدب العراقي كانت له خصوصية مميزة في كل المجالات، ولاسيما الشعر الذي أفرز مدارس حديثة غيرت مجرى تاريخ الشعر، وكان للأدب العراقي القدح المعلى في رسم خريطة جديدة ومدرسة فرضت واقعاً ورؤية لم تكن معروفة سابقاً، ليس في الشعر وحده، بل تعداه إلى فنون أدبية أخرى، كالمسرح والسرد… الأدب العراقي لم يكن هامشياً في يوم من الأيام، إلا أن ظروفاً سياسية فرضت واقعاً محدداً وسيرت مسار الأدب في أوقات معينة، وفق أطر سياسية وتعبوية أضرت بمستوى النتاج الذي كان يخضع لأدلجة تخدم أغراضاً بعيدة عن النهج السامي للأدب، وأطّرته بأطر ذات محددات خاصة. ويؤكد قاسم أن هذه المحددات عطلت الأدب العراقي، لكنها لم تنههِ، وبعد أن تخلص البلد من الضغوط بدا طريق جديد ومسار يختلف عن السابق، بدأت مرحلة الحرية المطلقة غير المحددة بأي ضوابط فنية أو أخلاقية، وبدأت مرحلة الطرح غير المدروس تغطي الساحة الأدبية، ما أدى إلى ضياع الجيد بالرديء، إذ لا ضوابط ولا حدود لما يطرح، وهذا ما نطلق عليه «الهامشي»، وهو حدث عطّل سير العطاء المثمر، فأصبح الأدب العراقي يزخر بالكثير من المكتوب الذي لا يمت للأدب بصلة. ويضيف قاسم: هذه الفترة ستستمر لمدة زمنية قد تطول أو قد تقصر، إلا أنها فترة مخاض سيتم من خلالها عودة أدبنا إلى مرتكزاته وثوابته، لأن ما يبقى هو الأصيل وسيذهب اللغو إلى الغيب.. هذا التهافت على الكتابة حق مشروع بعد فترة كبت وحرمان وأدلجة ومسارات مفروضة، لكنها لن تستمر إلى ما لا نهاية، ومن ثمَّ، لابد أن يعود بأطر راسخة، لأننا نمتلك تاريخاً قديماً وحديثاً مميزاً في طرحه، كذلك سيعود دور النقد البنّاء في تشخيص وتقويم مسار الأدب العراقي ويخلصه من المعطلات وينقيه من الشوائب.

تخبُّط التقاليد

ويوضح الناقد أحمد حمادي، أن السؤال عن التقاليد الثقافية التي تترسخ داخل البنية المجتمعية والثقافية سؤال كنّا نحتاج إلى طرحه والالتفات إلى أهميته منذ فترة طويلة انطلاقاً من أن لا ثقافةَ راسخة بدون تقاليد، ولا تطور ولا تحديث من دون تقاليد، فالإبداع يظل فردياً ولا يحقق أهدافه من دون تقاليد تسمح له أن يتغلغل داخل النسيج الثقافي والاجتماعي للجماعة التي يولد داخلها، لذا ترى أن كل جيل يعيد الأسئلة نفسها التي عاشها الذين سبقوه، وكذلك يبقى مرتهناً لأفق الحلول التي ابتكروها ويصعب عليه تجاوزها، وإن تم تجاوزها فسيكون بشكل فوضوي اعتباطي بلا سياقات صحيحة، إنما بشيفرات إبداعية فردية ستقع بعد فترة في غياهب الإهمال والنسيان لانعدام التقاليد الثقافية التي تحولها إلى سياقات وأنساق مؤثرة ومنتجة داخل البنية الثقافية. ولعل أكثر المجتمعات والبيئات الثقافية التي تفتقر إلى تقاليد ثقافية هي بيئة الثقافة العراقية، فَلَو قارنا المئة سنة الأخيرة من الثقافة العراقية مع الثقافة المصرية نجد الفرق واضحاً، فأمام أسماء فكرية بارزة وقامات ثقافية عالية مثل (طه باقر، علي الوردي، مصطفى جواد، جواد علي، أحمد سوسة) والقائمة تطول، أقول هذه الأسماء كان يفترض أن تتشكل منها مدارس فكرية ثقافية، كما حصل مع أقرانهم المصريين، فنجد مدرسة الأمناء التي هي امتداد لفكر أمين الخولي ومدرسة طه حسين ومدرسة العقاد ومدرسة لطفي السيد وسلامة موسى وغيرها من الأسماء التي استمرت من خلال تلاميذهم الذين تبنوا منهجية أساتذتهم وطوروها، لكن بالمقابل أين مدرسة علي الوردي الاجتماعية؟ وأين تلاميذه؟ وأين مدرسة جواد علي التاريخية وتلاميذه؟ وأين مدرسة طه باقر الآثارية وأين تلاميذه؟ إن افتقار الثقافة العراقية للتقاليد الثقافية وعدم قدرتها على ترسيخ تقاليد لها في نهضتها الحديثة منذ نشوء الدولة العراقية في العشرينيات، هو السبب الأكبر في هذا الخراب الثقافي والفوضى الفكرية، ما انعكس على تشكُّل الهوية الثقافية العراقية، وبالتالي أفقدها سماتها ومميزاتها التي يمكن من خلالها تبين ملامح هذه الهوية، فالثقافة العراقية بلا هوية محددة أو مائزة في أي مرحلة من مراحلها بسبب افتقادها للتقاليد الثقافية التي تشكل الهوية الثقافية لمجتمع ما.
وهو يبين أنه كانت هناك محاولات لتشكيل تقاليد ثقافية، لكنها سُرعان ما تتكسر على حجر الارتكاز في الشخصية العراقية، الذي هو فردانيتها الفائقة الوضوح التي تأبى الاندماج ضمن تقاليد أو نمط محدد، وبالتالي ترفض الثبات والاستقرار، فهي شخصية قلقة لا تعرف الاستقرار، شخصية لا تقبل الطاعة ولا تتحمل النظام، لذا تجدها ميالة للتغيير، حتى إن جلب الفوضى معه، رافضة للتقاليد حتى إن كانت تنتج ما يفيدها. من ذلك يمكن أن نعرف أن سؤال التقاليد الثقافية سؤال راهني ومركزي في الثقافة العراقية الآن، حتى نستطيع أن نعي الإشكالية الحقيقية لعدم وجود تقاليد ثقافية عراقية، وكذلك لننتبه لنوع الأسئلة والحلول التي يمكن أن تساعد في إنتاج تقاليد ثقافية يمكن تساهم في إخراجنا من حالة (التخبط والعشوائية).

صور متناقضة

في ما يشير الناقد علي سعدون إلى أن نظرة فاحصة لمعظم الاشتغالات الأدبية طوال العقود الماضية ستكشف نوعاً من النخبوية والنرجسية الأدبية التي أفرغت الأدب من محتواه، وجعلته منظومة تفكير وإنتاج ثقافي خارج أي تأثيرات اجتماعية أو فكرية، الأمر الذي تسبب في نهاية المطاف بضياع فرصة تاريخية للارتقاء بمستوى الأجيال اللاحقة بسبب التهويمات والرمزيات التي مثلت ارتكاسات فنية غير مجدية وغير نافعة.. مثلما يمكننا أن نشخّص اليوم حالة من التنوع اللافت في الأدب العراقي الذي تجاوز منطقة النخبة إلى منطقة التواشج الاجتماعي ومكاشفاته مع أعقد وأهم مشكلات الإنسان العراقي. مضيفاً أن الأدب اليوم يحفر في أشد مناطق التفكير المجتمعي وعورة وصلادة، فيتصدى للتخلف والنكوص والخرافة المجتمعية. يجري ذلك من خلال التصاعد الملحوظ في إنتاج رواية عراقية مهمة للغاية على سبيل المثال، أخذت على عاتقها مهمة ذلك البوح الكبير والهائل وقدمت مكاشفات عظيمة في التراث والاجتماع والدين والسياسة، فيما يعمل الشعر اليوم على التخلي عن تهويماته القديمة ويقترب كثيراً من الهموم الاجتماعية والثقافية.
وهو يعتقد أن الأدب العراقي اليوم يمكنه أن يصنع أجيالاً ثقافية منتجة لما هو حيوي وفاعل في حياتنا. ما يعني أننا أمام صورتين متناقضتين للأدب نفسه. أدب استرسال لغوي ولفظي غير منتج، وأدب جديد يعمد إلى الكتابة النافعة التي تعمل على ترسيخ تقاليد عمل ثقافي مهم وفاعل. أما في ما يخص صنع التقاليد الثقافية التي تنشأ عليها الأجيال الجديدة، فيرى سعدون أننا نفتقد إلى المشروع الثقافي الذي يؤسس لمثل هذه (الخصيصة)، المشروع الثقافي لا يصنعه الأفراد بنرجسيتهم العتيدة. المشروع الثقافي تتبناه مؤسسات ثقافية رصينة وراسخة، تمتلك برامجها التي غالباً ما تناهض السلطة والبلادة والتخلف المجتمعي، وهو ما يمثل الحلم الذي لم يتحقق إلى اليوم.

شروخ ثقافية

ويختتم القاص محمد الكاظم حديثنا، قائلاً إن الأدب العراقي المعاصر ما زال يعيش حالة اكتشاف الذات ويجرب مخاضات عصيبة في ظل وجود خمس عقبات تحد من حركته وتمنعه من إيجاد تقاليد ثقافية منتجة قابلة للارتقاء وفق التطور الطبيعي الموازي لروح العصر، فهناك نزعة إذعانية لمقولات وممارسات وفعاليات ومؤسسات هرمة، أوجدتها ديناصورات ثقافية تستمر في تغذية صنميتها لقربها من دائرة صناعة القرار الثقافي، ونجاحها في لعبة العلاقات العامة. وهذا مناخ يخنق كل باحث عن المغايرة والخروج عن النسق.
العقبة الثانية؛ من وجهة نظره، غياب النزعة التأسيسية التي تعي حركة الزمن وتهيئ للمستقبل وتكتشف مناخات جديدة للإبداع والعمل الثقافي، بعيداً عن سطوة المؤسسة الرسمية. وهذا ناجم عن وقوع الكثيرين أسرى لتراث المنظومة الثقافية التي اعتادوا عليها قبل التغيير، إذ كانت المبالغة في تسييس الأدب والفن وتوظيفه والتخطيط له جزءاً من الأمن القومي، لدرجة أفقدت المثقف العراقي القدرة على الفعل المنتج، حتى بعد زوال ذلك المؤثر. فبقي يدور في دائرة فعاليات وتقاليد عتيقة عاجزة غير منتجة.
أما العقبة الثالثة فهي الإصرار على اعتبار الأدب ساحة صراع سياسي وواجهة من واجهات العمل الحزبي، لدرجة أن الأدب أصبح خاضعاً للتصنيف الحزبي في العراق، وصارت توجهات الكاتب السياسية تأخذ أولوية على إبداعه، وهذا من أخطر المزالق، فأصبح المناخ الثقافي مسمماً شأنه شأن المناخ السياسي.
العقبة الرابعة؛ حسب الكاظم، هي النزعة الاستهلاكية التسويقية التي غزت عقل المثقف بعد ظهور الإنترنت، ما عزز فردية الأديب، فاكتفى بمواقع التواصل الاجتماعي بعيداً عن السجال الثقافي العميق، وأبعده قليلاً عن المؤسسات والفعاليات الثقافية وقلل دوره فيها، فانعدم الحوار الذي يقود لإنتاج تقاليد ثقافية.
غير أن الكاظم يبين أن النقطة الأخطر في هذه المعادلة هي جهل المؤسسة الرسمية بأهمية الثقــــافة ودورها في بناء المجتمعات، فنحن أنتجنا أطر الدولة عبر عملية سياسية، ولم ننتج ثقافة الدولة عبر عملية ثقافية.
وبعد 14 عاماً من التغيير في العراق بدأت الشروخ الثقافية تظهر بوضوح في العقل العراقي… وكل هذه مقدمات تقود إلى نتيجة واحدة هي أن الأدب العراقي سيبقى يعاني طويلاً ما لم يجر التعامل مع هذه الحالة بجدية ومسؤولية.

Share on Facebook

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى