لورنس العرب الأمريكي في اليمن

صبحي حديدي

عدد شهر آذار (مارس) 2019 من شهرية «سيمثسونيان»، التي تمثل المؤسسة التراثية والمتحفية الأمريكية الأبرز، حمل على الغلاف رسماً يصوّر الآثاري ورجل النفط الأمريكي وندل فيليبس (1921 ــ 1975)؛ مرتدياً العقال الأسود والكوفية البيضاء، مع نصّ على الصورة يسير هكذا: «الإرث المعقد للورنس العرب الأمريكي: الآثاري المارق الذي تتبّع أثر ملكة سبأ». لا مناسبة خاصة تفسّر موضوع الغلاف، ما خلا حقيقة أنّ فيليبس عاد إلى الأضواء، بعد أن غاب عنها، أو تعمّد الغياب ذاتياً، بعد معرض حافل أقامته «سميثسونيان» ولا يزال يستقطب الاهتمام، لأسباب ليست دائماً آثارية.
ذلك لأنّ صاحبنا، وإلى جانب اللقب الذي حمله بوصفه أوّل أمريكي يحمل صفة «شيخ» ويرتدي العقال والكوفية في جزيرة العرب، على غرار البريطاني الأشهر، ت. إ. لورنس؛ حُمّل لقباً ثانياً، أكثر دغدغة لاستيهامات الأمريكي القياسي، وأكثر تماشياً مع هوليود: إنديانا جونز الأصلي، أي ذاك الذي ألهم (حتى دون سند أو دليل!) شخصية الرحّالة المغامر كما جسّدها هاريسون فورد في سلسلة أفلام ستيفن سبيلبرغ وجورج لوكاس. وليست شعبية فيليبس المتجددة، أو المستجدة بالأحرى، سوى إعادة إستثمار، أو إعادة تدوير ربما، لذلك التوق الأمريكي الجارف نحو شخصية جوّاب الآفاق، المستكشف، الغازي، الظافر في صراعاته مع العوالم البعيدة…
صاحبنا يؤجج النوستالجيا الأمريكية إلى هذا كلّه، فكيف إذا كان أيضاً يستثير شغفاً خاصاً، عارماً وجارفاً، إلى شخصية المنقّب في باطن أراضي الآخرين، بحثاً عن الآثار الغابرة أوّلاً؛ ثمّ ما يتيسّر ضمنها من ذهب ومعادن ثمينة، تالياً؛ وإذا عزّت هذه، أو قلّت مردوداتها، فلِمَ لا ينتقل إلى ثروة أخرى كبرى: الذهب الأسود! وبالفعل، وقبل أن تتناول هذه السطور شخصية فيليبس الآثاري، تجدر الإشارة إلى أنه رحل وفي ثروته 150 مليون دولار من أرباحه عن قطاع النفط في جزيرة العرب وليبيا، قبل فنزويلا وأندونيسيا وكوريا الجنوبية؛ وكان، خلال سبعينيات القرن الماضي، الرجل الأكثر حيازة على امتيازات التنقيب عن النفط في العالم!
في سنة 1942 حصل فيليبس على إجازة في علم المستحاثات من جامعة كاليفورنيا، ولا أحد حتى اليوم يملك تفسيراً لنجاحه في إقناع يان كريستيان سموتس، رئيس وزراء جنوب أفريقيا يومذاك، بمنحه إذناً بالتنقيب عن المستحاثات؛ وكيف، كذلك، أقنع جامعة كاليفورنيا بتمويل البعثة. في أعقاب الحرب العالمية الثانية وفي محمية سيرينغاتي، شمالي تنزانيا، شاءت المصادفة أن يلتقي مع الآغا خان الذي كان في رحلة صيد، فنصحه بالتوجه إلى جزيرة العرب. وهكذا ابتدأت مغامرته في «محمية عدن» أوّلاً، سنة 1951؛ ثمّ أصابه هوس البحث عن ملكة سبأ، فحصل على إذن من الإمام أحمد بالتنقيب في مأرب. مغامرته انتهت هناك، سريعاً في الواقع، لأسباب أولى تخصّ عقلية الغطرسة وسوء معاملة السكان؛ ولأسباب أخرى تتصل باعتراض الفريق الآثاري اليمني على سلوك النهب وسرقة الآثار ونقلها خارج البلد؛ إلى درجة أنّ سوء التفاهم انتهى، ذات ليلة، إلى زجّ البعثة في السجن.
حصيلة فيليبس من الآثار كانت ضيئلة في نهاية المطاف، أشهرها رأس امرأة من المرمر يعود إلى أواسط القرن الأوّل، لكنّ بعثته استخرجت عدداً من الرقيمات التي تلقي الأضواء على حضارة المنطقة، وخاصة في منطقة قتبان ومعبد القمر. وهكذا، لأنّ الذهب لم يظهر خلال التنقيب، ولا آثار سبأ التي سوف تجتذب شعوب التوراة بصدد سرديات سليمان وبلقيس، نفض فيليبس يديه من المشروع الآثاري وتوجّه إلى عُمان، بحثاً عن الذهب الآخر، الأسود هذه المرّة. ورغم أنّ السلطان منحه رخصة التنقيب، لم يعثر فيليبس على ما يشفي غليله، لكنه اكتشف المهنة التي ستدرّ عليه ملايين الدولارات خلال فترة زمنية قياسية.
درس فيليبس كان استشراقياً بامتياز، لجهة العلاقة مع أبناء البلد أصحاب الثروة، بادئ ذي بدء؛ ثمّ مفهوم الاستكشاف القائم على النهب ونقل الآثار على مبعدة بحار ومحيطات من مواطنها الأصلية، ثانياً؛ وكذلك، ثالثاً، الإسقاط القسري للرواية الغربية، التي تزعم انتهاج التاريخ ولكنها لا تتوسل سوى الرواية التوراتية، على حضارات محلية تمتلك حكاياتها الاصلية والأصيلة الأكثر مصداقية وتوثيقاً. ولم يكن غريباً، والحال هذه، أنّ الكتاب الوحيد الذي وضعه فيليبس حول تجربته اليمنية حمل العنوان التالي: «قتبان وسبأ: استكشاف الممالك القديمة على طرق التوابل التوراتية في جزيرة العرب»!
«الزمن نام هنا، وقشور الحضارات القديمة دُفنت في أعماق الرمال، محفوظة مثل زهور داخل صفحات كتاب. بدت الأرض منيعة، لكنها كانت غنيّة بغنائم الزمن، ورغبتُ في قلبها بحثاً عن تلك الثروات»؛ كتب فيليبس، في فقرة بين الأشدّ إفصاحاً عن طبيعة مشاعره إزاء ما يستكشف. وفي مقال يعود إلى سنة 1955، اعتبرت صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ فيليبس جمع «سمات الرؤية والشجاعة والفضول، مع صلف المغامر المتهور وبرودة المقامر ودهاء الأمريكي الانعزالي الفظّ». ولو كانت مفردة الاستشراق رائجة يومئذ، كما باتت بعد سنة 1978 حين صدر كتاب إدوارد سعيد، فالأرجح أنّ المقالة كانت ستضيف الصفة هذه إلى لائحة سجايا صاحبنا.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى