«فتاة في مقهى كوستا» لأمجد ناصر.. لا نهائية الشعر… الحلم

باسم المرعبي

أُنموذج جديد للقصيدة

تحقق قصيدة «فتاة في مقهى كوستا» للشاعر أمجد ناصر، إنجازاً جمالياً متقدماً، يُحسب للقصيدة العربية إجمالاً، وليس لتجربة الشاعر الخاصة، فقط. والقصيدة تلفتُ، من بين مزايا عديدة أُخرى حازتها، سيعرض لها المقال لاحقاً، بتساوق الشكل والمحتوى، فهما يتحدان في تقنية محسوبة متأتية من وعي الشاعر بطبيعة المحتوى الذي يستولد شكله المناسب، الملتصق به، إن لم يكن المشتق منه، بالضرورة. وعند هذه النقطة هناك ما يتطلب الوقوف عنده، فالمتابع لتجربة أمجد ناصر الشعرية، وما واكبها من آراء وتنظيرات للشاعر تخص هذه التجربة، يعرف مدى التحوّل الذي طرأ منذ حوالي عقدين على «فلسفته» الشعرية، الآخذة بالالتفات إلى النثر، والسعي لاكتشاف أو التقاط كوامن الشعر فيه، حتى إن بدا أنّ ثمة تعمّداً لمحو الفاصل بين الاثنين (الشعر والنثر) وهو ما ترجمه ديوانه ـ مشروعه «حياة كسرد متقطّع» ـ 2004، كما في نصوص لاحقة، أمعنت في السرد وكأنّ الشاعر أراد للشعري، هذه المرة، أن يتحقق عبر نقضه، لكن بما أنّ الهاجس الشعري هو الموجِّه، كما هاجس تحطيم النمط، كحاجة، فإنّ مغامرته، وكل مغامرة هي تَحرّر، أرتنا مناطق جديدة ذات طبيعة شعرية، بصرف النظر عن الشكل الذي اتخذته قصيدته. وفي انتباه وتنبيه لطيفَين من الناقد صبحي حديدي، فقد أشار في مقدمته لمجموعة «حياة كسرد متقطع» إلى أنّ قصائدها لم تكن تسعى لكتابة «نص مفتوح»، وإجناسياً، لم تكن هي في وارد منافسة «القصة القصيرة جداً». ولعلّ في ما قاله الشاعر لوكالة رويترز، لمناسبة صدور طبعة جديدة من أعماله الشعرية ـ 2011، ما يُجمل ويحسم بإيجاز ملامح تجربته الجديدة «رؤيتي ومفهومي للشعر تغيّرا، فقصائدي الأخيرة تميل الى الكتلة النثرية، إلى السطر الطويل والجملة التي تشبه جملة النثر، بل إن هناك ميلاً متصاعداً للنثر نفسه. ما أكتبه الآن من سرديات فيها كل توتر الشعر لكنها ليست شعرا بالمعنى المألوف».

وشأن أي مشروع تجريبي لا يكون صاحبه مطمئناً إليه أو واثقاً من نتائجه، آنياً، بل يكون الرهان في ذلك على الزمن، أي أنّ الإقرار به والأخذ به شكلاً شعرياً جديداً هو رهن المستقبل، كما هو الحال مع القصيدة المتحررة من الوزن، التي شاعت خطأً، تحت اسم قصيدة النثر، وما جابهته بدءاً، لتصبح بعد تاريخ من الانتشار والممارسة، وقد كرّساها، أمراً واقعاً. في هذا الصدد يقول الشاعر ضمن لقاء أُجري معه عام 2007، «لا أعرف أصلاً إن كنت على الطريق الصحيح المؤدي إلى الشعر»، وهو جواب إضافة إلى ما يتبادر إلى الفهم منه ظاهرياً، فإنه ضمناً، يتمثّل حيرة الكتابة أمام العالم، ويشير إلى انكفاء على الهواجس الداخلية لها، بوصفها نشاطاً خاصاً لا يحسب سوى مقدار استجابتها ووفائها، أي الكتابة، لمشاغل وأسئلة الذات، سواء في تفاصيلها أو في تلك المتصلة بما هو وجودي مصيري. ولا يبدو هنا مهماً الاسم أو التجنيس الذي يُعنْونها، أو حتى صدى تلقيها أو مدى قبولها، فذلك يعد همّاً ثانوياً لاحقاً. فالهمّ الأساس يتمثّل في، وفقاً لقراءة الناقد صبحي حديدي، في مقدمته لمختارات من شعر أمجد ناصر بعنوان «وحيداً كذئب الفرزدق» ـ 2007، والفقرة مستعادة من مقدمة «حياة كسرد متقطع» لكن بتكثيف أشد من قبل الناقد (أنه يجهد للانتقال بشكل قصيدة النثر العربية المعاصرة إلى مصاف أخرى أشدّ رقيّاً، وأكثر مشقة وتعقيداً وأعلى قدرة على تخليص الشكل من سكونيته وجموده، وبناء تعاقد صحي مع قارئ لا يضل طريقه إلى الشعر الحقيقي). إن منطلق الشاعر في تجريبه الراهن يتأتى من الشعور باستنفاد الشكل الوحيد «المتبقي» من الأشكال الشعرية العربية المتاحة «هما شكلان في الحقيقة» والمعنيّ به هنا ما عُرفَ بـ«قصيدة النثر» في شكلها العربي، وقد أصبح الحديث عن شعر التفعيلة كشكل أو خيار آخر، أمراً نافلاً، على الأقل بالنسبة لتجربة شاعر كأمجد ناصر. انّ الحديث عن استنفاد إمكانات الشكلين الشعريين لا يعني ذلك فقط على صعيد الممارسة الشعرية عموماً، بل حتى على صعيد تجربة الشاعر الواحد ذاته، فكان لابدّ من مقترحات جديدة تحرك الدماء في العروق الآخذة في التخشب. لكن ما يجب الإشارة إليه، هو انّ النزعة النثرية ـ السردية لم تكن جديدة بالكامل على انشغال الشاعر وتطلعه الفني، فقد شفّ عن ذلك منذ البدايات، كما في مجموعته الأولى «مديح لمقهى آخر» ـ 1979، التي يمكن النظر إليها، هنا من المنظور النثري ذاته الذي أفضت إليه تجربة الشاعر، ففضلاً عن تضمنها ثلاثة نصوص نثرية ناضجة، كمؤشر إلى مقبل هذه الكتابة، فقد كان الإيقاع الذي حكم قصائدها الموزونة، وهذا شيء مهم، إيقاع أقرب إلى النثر.
من هنا فإنّ ديوان «حياة كسرد متقطع» والعنوان في حد ذاته رسالة، يدشّن مرحلة جديدة في التحولات الفنية للقصيدة العربية، بوصفه مشروعاً لإرساء شكل جديد لها، بدون إغفال ما كُتب بالطريقة ذاتها، من قِبَل أكثر من شاعر، هنا وهناك، لكن بدون الاضطلاع بالمهمة كمشروع، كما لدى أمجد ناصر. وفي تنبّه الشاعر للمدى الذي بدا جديداً عربياً، وهو استثمار ما تتيحه قصيدة النثر في شكلها الأوروبي، بنزوعها إلى السرد وشكلها السطري، بالتتابع، وهما من بين أبرز مميزاتها، الذي عرّف به، بدايةً، الشاعر عبد القادر الجنابي وسعى إلى نشره وتعميمه، يكون ناصر قد عثر على المفتاح المؤاتي لفتح المزيد من الأبواب، التي بدت موصدةً وقد راوحت أمامها طويلاً تجربة القصيدة العربية عبر تجسدها في شكليها المعهودين، على أن المسألة لدى أمجد ناصر لم تكن مجرد بحث عن شكل جديد آخر، أو عثور مفاجئ عليه، فالجذر النثري، وكما سلفت الإشارة، بدا قائماً في صلب اشتغال الشاعر، ففضلاً عما تَمثّل عبر مجاله الأول أو أداته الأولى، الشعر، فقد أعلنت عن هذا الانحياز إلى النثر والاشتباك به أجناس أُخرى، قاسمها المشترك هو السرد، كما في منجزه من كتب الرحلات والسيرة والرواية، وعناوين هذه مجتمعة توازي، إن لم تكن تفوق عناوينه الشعرية. وقصارى القول في ذلك إنّ الأُنموذج الذي بلوَرته تجربة الشاعر وتجتهد لتكريسه، منبثق من قلب تجربته الكتابية ذاتها، وهو تطور حتمي لها لأنها لم تكن تجربة ساكنة، راكنة إلى ما هو مسلّم به من سائد شعري، وقد انتُهك استهلاكاً وتقليداً حدّ الابتذال، فـ(الباب الوسيع الذي كان بإمكان قصيدة النثر أن تفتحه أمام تطور النص الشعري العربي، انهدم تحت سيل عرِم من تفاهة المسطّر المجاني، غير ذي العلاقة بالحياة وأشيائها، واللغة وأفيائها). كما في التشخيص البليغ، الساخط للشاعر سعدي يوسف، الذي سنشير إلى مصدره لاحقاً.

 

اليوتوبيا: مقهى وفتاة
لا يمكن تجاوز واقع أنّ مفردة المقهى، إجمالاً، هي مفردة عضوية في شعر أمجد ناصر، ولها مركزيتها منذ عنوان مجموعته الأولى، فـ»المقاهي أكثر رسوخاً من الأظافر»، كما يقرّر في تلك المجموعة. في «فتاة في مقهى كوستا» يعود المقهى «بطلاً» يكاد يكون معادلاً، لشخصية القصيدة الرئيسة، الفتاة الحاضرة ـ المنتظرة، يشاطرها الدورَ الشاعر. يمثّل كل من المقهى والفتاة، نوعاً من يوتوبيا، فكلاهما ملاذ. والمكان كثيف الحضور بالتوازي، كحاضن لأداء «مشهدية» القصيدة. والمقهى يُتخذ مسرحاً أو في الأدق ستوديو لأفلَمَة واقعة حضور الفتاة «واقعاً» ومتخَيّلاً، فالقصيدة أقرب إلى المعطى السينمائي، لخصوصيتها البصَرية «وهي تغري كثيراً بتجريب إخراجها في شكل مرئي». في المقهى يستعيد الشاعر الذات المطارَدة في شتات المدينة الحديثة، في استثمار لواحدة من مزاياه، وفي سعيه لترسيخ مفردة المقهى تأكيد انتماء للمدينة وفي الوقت نفسه إشهار لملمح حيوي من ملامح حداثتها، بلْه مدنيّتها، كما أنّ في تحديده للمقهى بالاسم «كوستا» يعزز أكثر، فأكثر الصورة «الوثيرة» للمكان، بوصفه معطى حداثياً ذا سمة عالمية. عبر هذا الجو الذي يهيئ به الشاعر متلقيه منذ عتبة العنوان، وباقتران أو تزامن الفتاة والمقهى، يتوثب الحدس على أنّ ثمة مغامرة ستتحقق في هذا الفضاء، الذي بدا مهاداً سحرياً لواقعة حُلمية ـ يُراد لها أن تبقى كذلك ـ تأخذ بفكر وقلب الشاعر وقارئه على السواء، وإضافة إلى ما ذُكِر عن تساوق شكل ومحتوى القصيدة، في القسم الأول من المقال، فإنها امتازت بالبناء الدائري، كصفة فارقة لها، وقد اعتمد الشاعر هذه التقنية، في أجزاء من قصيدة «نجوم لندن»، وفي جزء من»محاكاة مارك أنطونيو»، في المجموعة ذاتها، وهي بنية لها علاقة بطبيعة الكتابة الحلمية، أو الساعية إلى الأسطرة، عموماً. في البناء الدائري تكون القصيدة مغلقة كالدائرة وذات نواة أو مركز، وموضوعها ينطلق من نقطة ويعود إليها، بل يبدو أنه في حركة دائرية مستمرة، تكراراً وتأكيداً في نوع من التداخل، كلازمة وطبيعة لتقنية الدائرة، وهي تلتقي مع ما عُرف بالقصيدة المدورة، بفارق الوزن، في امتداد الجملة فيها لعدة أسطر، بدون وقف أو فاصلة. وهذا هو المنحى الذي اتخذته قصيدة «فتاة في مقهى كوستا»: «كنتُ أفكّرُ في قصيدةٍ فيها فتاةٌ تأتي وتجلسُ أمام شاعرٍ يحاولُ أن يكتبَ قصيدةً عن فتاةٍ تأتي وتجلسُ أمامه في مقهى خالٍ من الرواد»، وهي تقنية نادرة، عربياً، في قصيدة النثر. وللتمثيل، ثمة مقطع في قصيدة «آلام بودلير وصلت» لسركون بولص، مع الإشارة إلى عدم اعتماده الشكل السردي طباعياً، فأسطره جاءت في القصيدة كما في قصيدة التفعيلة: «الجمرةُ في اليد/ في نفس الوقت هي في اليد وأنا فيها/ رجل يحمل جمرة في يده تحتوي رجلاً يحمل جمرة». أما عالمياً، هناك قصيدة «حلم» لبورخِس، ويمكن أن تصلح أنموذجاً متكاملاً لتجسيد تقنية البناء الدائري المُتضامّ، الذي لا يمكن الفصل بين مكوناته، شكلاً ومحتوى، لذا كان من الضروري إيراد القصيدة كاملة، هنا، والترجمة لصاحب السطور، من مجموعة «الرقم»: «في مكان قفر من إيران ثمة برج حجري ليس على ارتفاع كبير، بدون باب أو نافذة. في الغرفة الوحيدة (أرضيتها ترابية وشكلها دائري) توجد طاولة خشبية ودكّة. في هذه الزنزانة الدائرية رجل يبدو شبيهاً بي يكتب بحروف لا أفهمها قصيدة طويلة عن رجل في زنزانة دائرية أُخرى يكتب قصيدة عن رجل في زنزانة دائرية أخرى… عملية لا نهاية لها وليس بوسع أحد قراءة ما يكتبه السجناء». وبالعودة إلى الجملة الأولى في «فتاة كوستا»، «جاءت وجلست أمامي»، الممحوّة بقوة التخيّل والإيحاء التالي الذي يشرع به الشاعر، مما ينتج عنه تغييب فعل مجيء الفتاة في الواقع، أو في الأقل تناسيه، بهذا تكون القصيدة قد استولت على حواس القارئ، ونحَت به منحى حلمياً فانتازياً. فالخلط، عادةً، هو من طبيعة الحلم، وهو الذي ساد جوّ القصيدة، بحيث أن ما ستقدم عليه الفتاة بعد مجيئها وجلوسها، من أفعال، كتأكيد لحضورها، لن تزيد القارئ إلا ارتباكاً، فلا يعرف إن كانت هذه التفاصيل تعود إليها، واقعاً، أم إلى تلك التي تخيّلتها القصيدة. على الرغم من الوصف التفصيلي لدخول الفتاة، ومن ثم وصف ألوان ونوع ملابسها وحتى مادة صناعة سترتها، أو وصف حركاتها مع عدم إغفال حتى قطرات المطر التي تتساقط من شعرها، ولهذه الأخيرة صلة ببداية القصيدة، التي تحدثت عن سماء لندن الطلساء، إذ أنّ الغيوم التي حجبت هذه السماء وأعتمتها، أمطرت في القصيدة عبر شَعر البطلة.

ومع تسقّط التفاصيل «الناعمة» للفتاة، كتسوية شعرها، ارتجاج نهديها، النظر بطرف العين، المنديل الورقي المبقع بأحمر شفاهها وسوى ذلك، لا تدع القصيدة مجالاً للشك بأن ما تتحدث عنه ليس سوى الحقيقة. لكن أي حقيقة؟ إنّ اختفاء الفتاة، بشكل غامض، في نهاية القصيدة هو ذروة «اللعبة» فيها، وهو ذاته ذروة بناء القصيدة وهندستها وحسم لثيمة حلميّتها، ومن ثمّ ذريعة لإعادة وصفها عبر ظهورها في الملصق الكبير في مكان مشابه، هو المقهى، أي ذاته، في حلقة مَتاهية تذكّر بمتاهة المرايا، حيث التكرار إلى ما لا نهاية ولا مخرَج، واللّاتيقّن هو السائد. وهو ما يناسب التساؤل هنا عن «حقيقة» تجسد صورتها في الملصق، أهو سابق على التفكير بها، أم العكس؟ أي أن ذلك حدث بدافع من نشدانها وتخيلها؟ وهل «ارتقت» الفتاة، بعد غيابها، إلى الملصق؟ أم كانت قد نزلت منه، بدايةً وجلست أمام الشاعر؟ أم أن الملصق لم يكن سوى محض وهم، أي ليس ثمة من ملصق؟ وهنا تتوجب الإشارة إلى أن القصيدة وعلى ما بدت عليه أو أوحت به من بساطة، إلا أنها ليست كذلك، فهي قصيدة ذات مستويات وبؤر متعددة، قصيدة تعتمد التضاد والنقض، الإثبات والنفي في استلهام لثنائية الحضور والغياب، الحلم والواقع، فضلاً عن الغموض الذي شاب بعضها، ليتبلور في الأخير معطى أقرب إلى الأسطوري. وفي هذا الصدد تفيدنا قراءة الناقد فخري صالح في تقديمه لمختارات من أمجد ناصر ـ 1999، الذي قال بما دعاه (الإفشاء والإخفاء) الذي «تراوح» بينهما قصائد أمجد ناصر وتعلّل غموض صورها. وقد كان لهذه الجدلية حصتها في قصيدة «فتاة كوستا» وإليها يمكن، أيضاً، ردّ بعض الملامح السيريالية فيها، وهي سيريالية متحصّلة لدواعٍ مجازية وليس نشداناً لغرابة. على انّ مقاربة هذا القصيدة لا تستقيم من دون المضاهاة أو إقامة الصلة بين إمكانات الفن، وهو هنا الشعر، ومعطيات الحلم كطاقتين خلاقتين لا تعرفان حدوداً ولا تعترفان بالعلاقة التي تحكم موجودات وعناصر الواقع وحركاتهما، بمنطق رياضي بارد. وأمجد ناصر استطاع في هذه القصيدة الناجحة بكل المقاييس أن يستثمر ببراعة ممكنات الحلم والشعر لإبداع أُنموذج الفتاة التي أضحت حقيقة حية نابضة بالسحر في القصيدة، وفي ذهن القارئ لاحقاً، بالضرورة. هذا الأُنموذج الذي يمثّل توق الفنان الأبدي إلى صناعة مثاله الخاص الحي من الجمال، ولشدّ ما بذل من طاقة في تشكيله وما حققه تالياً من نجاح، لم يبق له سوى أن يقول له: انطق، باستعادة «أمر» مايكل أنجلو الشهير لتمثال موسى! فعبر هذه القصيدة يُدخل أمجد ناصر إلى صالة النماذج «الخالدة»، فنياً، عربياً وحتى عالمياً لو أُتيح لها الانتشار، «فتاة كوستا» بوصفها مثالاً، معا مع رموز مبتدعة لشخصيات تناقلتها ذاكرات الأجيال، كما في المسرح والرواية، وهو صنيع قلّما يحدث في الشعر العربي، الحديث منه بشكل خاص. والسبب الرئيس لنجاح هذه القصيدة، يعود لتمكن الشاعر من معالجة موضوعها باحترافية عالية وهو موضوع لا نهائي، مؤبّد بطاقة الحلم والتطلّع، فالفتاة ستبقى منتظرة، وسيبقى الشاعر يهمّ بالقول بدون أن يفعل، كذلك الفتاة، فكلاهما على حافة الشيء، عند اللحظة الموشكة على التحقق، لكن دونه. هذا هو الفن، إنه الهمّ الأبدي بالقبلة، كما في قصيدة لشيللي، وقد رصد نقش عاشقين على إناء فضي، وهما يهمّان بالقبلة، وسيبقيان إلى الأبد عند هذه اللحظة، ليمجد الشاعر هذه اللحظة، ففي المسافة إلى الهدف تكمن المتعة لا في بلوغه، فالوصول/ التحقّق انطفاء، أما التطلّع فهو توهج دائم، خالد. وحسب شيللر فإنّ «كل شعر لابد أن يكون ذا محتوى لا متناهٍ فعلاً، وذلك وحده ما يجعل منه شعراً». ونختتم هذه القراءة التي لا تني تعلن عن شغفها بالقصيدة بكلمات لا تكتم شغفها بها هي الأخرى للشاعر سعدي يوسف، وهي تُضيء في الوقت، ذاته اشتغالاً مهماً فيها أو خصيصة فنية «علامة» هي من صُلب وجودها وتفرّدها، وكان الشاعر قد كتب هذه الكلمة ـ الشهادة عند صدور «حياة كسرد متقطع» وأاستعيدت لاحقاً كمقدمة لـ«شقائق نعمان الحيرة»، ومنها أيضاً استقيَت الفقرة في نهاية القسم الأول من المقال. الكلمة بعنوان، «الفنُّ متمكّناً»، يقول سعدي: قصيدة «فتاة في مقهى كوستا» يحق لها أن تتباهى بأنها قصيدة صورة. ليس ثمة من كلام في النص. أعتبر «فتاة في مقهى كوستا» إنجازاً فنياً باهراً، عنوانه التخلّي عن الكلام.

فتاة في مقهى «كوستا»
من المفيد هنا الإشارة إلى أنّ هذه القراءة اعتمدت نسخة القصيدة المنشورة ضمن مختارات «شقائق نعمان الحيرة» ـ 2016، والتي أغفلت ذكر موقع المقهى في منطقة همرسمث اللندنية، كما في نسخة المجموعة الأصل «حياة كسرد متقطع»، وهذا الإغفال جاء لصالح فنيّة القصيدة.
في مقهى «كوستا» جاءتْ وجلست على الطاولةِ أمامي مع أنّ المقهى خالٍ من الرواد في ضُحى يجاهدُ عبثاً لانتزاع شعاعٍ من سماء لندن الطلساء. كنتُ أفكّرُ في قصيدةٍ فيها فتاةٌ تأتي وتجلسُ أمام شاعرٍ يحاولُ أن يكتبَ قصيدةً عن فتاةٍ تأتي وتجلسُ أمامه في مقهى خالٍ من الرواد. وضعتِ الفتاةُ كتبَها على الطاولة وحقيبَتها على الأرض ونَضَتْ عنها سترةً عنّابيّةً من الجلد الصناعيّ فتساقطتْ قطراتٌ من المطر واندفع نهداها القاسيان إلى الأمام وارتجّا خلفَ بلوزتها. مالتْ على حقيبتها فتهدلَ شَعرُها فلمّتهُ بحركةٍ سريعةٍ إلى الخلف، أشعلتْ سيجارةً وأخذتْ ترشفُ قهوتَها وهي تنظرُ إليّ بزاويةٍ منحرفةٍ من عينيها. أكثر من مرةٍ همّتْ أن تقولَ شيئاً ولم تفعل وأكثر من مرةٍ هممتُ أن أتحدث إليها وأتراجع. ببلوزتها الزرقاءِ نصفِ الكمّ التي تكشفُ زنديها المبرومين وبكتفيها اللتين تنطُّ منهما فهودٌ صغيرةٌ وبقدمها التي تتحرّكُ تحت الطاولة على شكلِ مروحةٍ كانت تشبهُ فتاةَ القصيدة. كلُّ الإشارات تدلُّ عليها. كان وزنُ الهواءِ وحركتُه يتغيران تحت الطاولة. أوقعتُ قلمي، كما لو سَقَطَ عَرَضَاً، على الأرض لأرى ما الذي يجري وما إن التقطتُه ورفعتُ رأسي حتى اختفت الفتاة. كان على الحائط أمامي ملصقٌ إعلانيٌ كبيرٌ لفتاةٍ تجلسُ وحيدةً تدخّنُ وتحتسي قهوةً وتنظرُ بزاويةٍ منحرفةٍ من عينيها في مقهى يشبه هذا المقهى.
………………………..
دوامةُ الهواءِ الماتزالُ تحتَ الطاولةِ
فنجانُ القهوةِ الساخنُ
السيجارةُ المُدَخّنةُ على حافّة المنفضة
المنديلُ الورقيّ المبقّعُ بأحمر الشفاه
قلبي الذي تُسْمَعُ دقاتُه من بعيد.
القصيدةُ التي فكرّتْ بقصيدةٍ أخرى وكتَبَتْها.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى