فورة روائية سورية وأسماء تتنافس على سرد المأساة بجذورها وتفاصيلها

الجسرة الثقافية الالكترونية

*نبيل سليمان

المصدر: الحياة

ما لم يفعله الشعر في سورية، فعلته الرواية هذه المرة. ففي سنة واحدة (2014) صدرت ثماني عشرة رواية*، نصفها للكاتبات، وست منها هي باكورة أصحابها (محمد العطار – جهينة العوام – راتب شعبو – فخر الدين فياض – غسان الجباعي – سميرة المسالمة). وفيما عدا روايتي لينا هويان الحسن ومها حسن، فقد تعلقت باقي الروايات بالزلزال الذي ما فتئ يضرب سورية منذ 15 آذار (مارس) 2011، وهو الزلزال الذي تعلقت به أربع روايات مما صدر قبل 2014. وفي علمي أن ثلاث مخطوطات روائية لأسامة الفروي وأسرار حداد وروزا ياسين حسن، تتعلق أيضاً بالزلزال إياه، ومن المأمول أن تظهر رواية روزا ياسين حسن «الذين مسهم السحر» في الأسابيع القليلة المقبلة.

هكذا، وبخلاف المألوف من اندفاعة الشعر إلى مثل سنوات الزلزال السوري، جاءت اندفاعة الرواية، ربما لتربك اليقين الرائج في حاجة الرواية إلى سنوات التخمر قبل أن تغامر بكتابة الزلزال الذي يعيشه الكاتب – الكاتبة. ولعل للرواية في سورية عضداً في ذلك، بما قدمته الرواية في لبنان أثناء الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة وعنها، أو بما قدمته الرواية في الجزائر أثناء العشرية السوداء الأخيرة، وعنها، ومثل ذلك كثير في تاريخ الرواية بعامة.

في إضاءة عاجلة على الفورة الروائية السورية، تعاجلك (السيرية). ففي رواية «مدن اليمام» لابتسام تريسي تتكاثر الإشارات السيرية، ومنها أن الراوية كاتبة، وأهمها هو حضور الناشط نور حلاق في الرواية وهو ابن الكاتبة. وفي رواية خليل صويلح «جنة البرابرة»، وكما في رواياته السابقة، لا يتخفى الكاتب في أي جلباب روائي، فإما أن يحمل الراوي اسم الكاتب، أو يكتفي بضمير المتكلم، من دون أن يتسمّى. وفي رواية «قميص الليل» لسوسن جميل حسن، تكون الراوية حياة كاتبة. وفي رواية سميرة المسالمة «نفق الذل» تعمل الراوية منى صحافية وتتولى رئاسة تحرير جريدة، وتقال بسبب افتتاحية كتبتها بعد الزلزال، كما جرى للكاتبة التي كانت رئيسة تحرير جريدة تشرين الرسمية. أما راتب شعبو فقد جعل لروايته «روزنامة المسجون» عنواناً فرعياً هو (سيرة سورية)، ولكن بينما، أراد أن تكون الرواية واحدة من سير البلاد، إذا بها قد جاءت سيرة ذاتية روائية، كما بات عدد من الكتاب يجنّسون رواياتهم – واسيني الأعرج وعبده وازن وقبلهما محمد شكري – لسنوات الكاتب في السجون السورية، بخاصة في سجن تدمر. وهذا ما تلاقيه رواية غسان الجباعي «قهوة الجنرال» بما هي سيرة الكاتب الذي كابد ما كابد أعواماً في السجون السورية.

 

سؤال التاريخ

مثل «السيرية» يعاجلك سؤال التاريخ. ففي الشكل الرائج للسؤال، أي باعتبار التاريخ ما كان، ومهما تكن مخاطبته لزماننا، تتقدم رواية لينا هويان الحسن «ألماس ونساء» التي يترامى زمنها بين مطلع القرن العشرين وسبعيناته. وقد رسمت الكاتبة بمهارة وحذق بالغين الأجواء الخاصة لشخصيات الرواية، على اختلاف الأجيال والبيئات والتكوينات، من دمشق إلى باريس وبيروت وساو باولو والقاهرة. وقد توسلت الرواية كثافة السرد، ولذلك ندر الحوار – ومن ألقه مثلاً الحوار بين كارلوس وبرلنت – وكان للوثيقة حضورها – النقل من الصحف مثلاً – وللمعلومات التاريخية حضورها، كالذي يتعلق منها بالأكراد. وعلى رغم كثرة الشخصيات فقد توافر لكل منها تميزها وثراؤها، من البطلة ألماظ وصنوها الكونت كرم إلى جيل الآباء والأجداد – والجدات – إلى جيل الأبناء في الجزء الثاني من الرواية، والموقوف على ما بعد استقلال سورية.

فيما عدا «ألماس ونساء» يكون لسؤال التاريخ شكله غير الرائج، حيث هو (التاريخ الجاري) بعبارة محمد جمال باروت، أي حيث هو التاريخ الذي يتشكل، وفي كتابته الروائية يقوم التحدي الأكبر وتقوم المغامرة الكبرى. وفي مثل ذلك قد يكون للتاريخ الأول والأكبر (ما كان) حضوره، ولكن بمقدار ما يتعلق مباشرةً بالتاريخ الجاري، وقل بالراهن إن شئت، وهذا ما نجده في رواية خليل صويلح «جنة البرابرة» عبر التعالق بين كتابة البديري الحلاق لليوميات الدمشقية في القرن التاسع عشر، وما يعيشه الراوي في دمشق التي تتناهبها منذ ثلاث سنوات القذائف والانفجارات والتظاهرات… وعلى نحو مماثل، ولكن بدرجة أقل، هو الأمر في رواية غازي العلي «ليلة الإمبراطور»، ابتداءً من عنوان الرواية المتعلق بزيارة الإمبراطور الألماني غليوم دمشق، إلى قتل الجنرال كليبر. أما رواية محمد برهان «عطار القلوب» فقد انبنت من الوقائع الدمشقية إبان حرب 1860 المترامية من بيروت إلى دمشق، ومن الوقائع الدمشقية أيضاً إبان الزلزلة، من حي الزاهرة إلى مخيم اليرموك إلى…

في الروايات الأخرى جميعاً يتسيّد الحاضر – الراهن – التاريخ الجاري، حيث تنتأ استراتيجية الخبر كمحاولة لتغطية الأحداث الكبرى والصغرى، وبسبب ذلك تنتأ الملخصات السردية، وينتأ ضغط السياسي على الفني، حيث تفعل الثأرية والهجائية والعصبوية والخطابية أفعالها، وكل ذلك يأتي بدرجات متفاوتة، ربما بلغت أقصاها في رواية فواز حداد «السوريون الأعداء». وقبل أن نتابع ذلك، تذهب الإشارة إلى روايتي مها حسن «نفق الوجود» و «الراويات». فإذا كانت الرواية الثانية تلوح لـ (الربيع العربي) في مصر، فالرواية الأولى تعمّق وتقلّب اشتغال الكاتبة على الموت، مما سبق في روايتها «حبل سري»، بينما تكون الميتارواية هي الشاغل الأكبر لرواية «الراويات». وإذا كان الزلزال السوري قد غاب عن هاتين الروايتين، فقد سبق لمها حسن أن افتتحت الفورة الروائية السورية التي جاء بها الزلزال، وذلك في روايتها «طبول الحب».

 

جماليات

في جماليات هذه الفورة الروائية تتميز رواية «قهوة الجنرال» بتجريبيتها، وبتفاعلها مع المسرح – والكاتب كاتب ومخرج ومسرحي – وهكذا يجتمع في جمالية هذه الرواية المشهد المسرحي والغرائبية وانثيال الذكريات والتفكيك وجنون المخيلة والالتباس الذي يبلغ أحياناً حد الغموض. وفي هذا السياق تحضر «ست الكل» شهرزاد. ففي رواية «ليلة الإمبراطور» يكون لسعاد لسانها الشهرزادي، وتحضر من «ألف ليلة وليلة» حكاية حمال بغداد، وتنشبك بحكاية سعيد وسعاد من يومنا السوري الذي تسقط فيه حواجز الزمان والمكان، وتقوم فيه حيونة الإنسان، بينما تستعير الرواية اللسان التراثي، وبه ترسل السخرية الدموية، فيختم سعيد الرواية بحلمه – والرواية مبنية على أحلامه وكوابيسه أيضاً – بأن العماد ابن عم حبيبته (المستحيلة) سعاد قد عاث في البلاد، فخرجت حشود غفيرة تهتف غاضبة: الشعب يريد إسقاط العماد ابن عم سعاد. كما تحضر شهرزاد في رواية مها حسن «الراويات» فيما تبوّب فيها على أنه (الرواية الثالثة) وعنوانها «مقهى شهرزاد». وشهرزاد هنا كما هي دوماً، صاحبة الحكايا وبئرها، وبهذا تورث الكاتبة وروايتها نعمة الحكاية ونقمتها.

تطل الكلاسيكية بقوة في رواية «السوريون الأعداء» وفي رواية حسن صقر «شارع الخيزران»، وهذا هو ديدن الكاتبين بعامة. وتتكرر في الرواية الثانية لعبة أن بطلها يكتب رواية، فيكتب سيرته – الماضي، وهو يحيا الراهن. وتبدو الطائفية عنواناً رئيسياً لما تصور رواية صقر، ومعها رواية حداد، من الراهن – الحاضر – التاريخ الجاري. سوى أن هذا العنوان يهيمن على الخطاب الروائي في رواية حداد، بينما يظل حضوره محكوماً بالموقف النقدي في رواية صقر. ومثل هذا الموقف النقدي من الطائفية، نجده في روايات سوسن جميل حسن وراتب شعبو وابتسام تريسي، وكذلك في رواية وجيهة العوام «تحت سرة القمر»، بينما تجري رواية فخر الدين فياض «رمش إيل» مجرى رواية فواز حداد، أحياناً، وهذا ما آذى جمالية الروايتين. ولئن كان الأذى قد مضى إلى بناء الشخصيات في رواية حداد، فقد نجا من شخصيات رواية فياض من توافر لها عناصر ملحمية، بخاصة في الجزء الأول حيث ملحمية الأحداث أيضاً. وقد أوجعت هذه الرواية بالنقد تنسيقية السويداء. كما كان لنقد المعارضة، والمعارضة المسلحة الإسلامية بخاصة، حضوره في روايات سوسن جميل حسن وخليل صويلح وابتسام تريسي، ومن قبل في روايتي عبدالله مكسور «أيام في بابا عمرو» و «عائد إلى حلب».

تتسم هذه المدونة الروائية (18 رواية) بالمعارضة، بعامة. وبعبارة أخرى، ليس لها من «الموالاة» نصيب، حتى ما حاول منها أن يقف محايداً، كما في رواية ربى منصور «هكذا عاد بفستان أصفر ومتغيرات». وتتسم غالبية المدونة الروائية بالنظر اليائس إلى المستقبل. وإذا كان لبعض هذه المدونة إنجازه الجمالي – روايات محمد برهان وغازي العلي ومها حسن وخليل صويلح وسوسن جميل حسن مثلاً – فقد افتقدت روايات أخرى، وبالطبع بنسب متفاوتة، مثل هذا الإنجاز، كما في روايتي فواز حداد وسميرة المسالمة، مثلاً. ومن اللافت أنه من النادر أن يتناول النقد غالبية المدونة الروائية. أما حين تتوافر الالتفاتة فنقدية أو للتغطية الصحافية. لهذه الرواية أو تلك، فإن العصبوية تنبق، ومثلها الاصطفاف السياسي غير المعني البتة بفنية الرواية، حيث يشهر الناقد الموالي ساطوره على الرواية التي تشتم منها رائحة المعارضة، أو تشتم من مواقف كاتبها رائحة المعارضة، والعكس صحيح، فالناقد المعارض يشهر ساطوره على الرواية التي تشتم منها أو من مواقف صاحبها رائحة حياد. والساطور المعارض بالمرصاد أيضاً للرواية المعارضة 100 في المئة، ما إذا كان له رأي سلبي بصاحبها. وليس كل ذلك إلا أهون الرجع الثقافي للزلزال السوري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى