مراجعات في أدب الاستشراق.. عبد الرحمن بدوي و(موسوعة المستشرقين)

 

الجسرة الثقافية الإلكترونية –خاص- 

* د. غسان إسماعيل عبد الخالق

* مقدّمة ثابتة

مع أن إدوارد سعيد قد وجّه للاستشراق ضربة مؤلمة وتحت الحزام مباشرة، عبر كتابه الأشهر (الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء) الذي صدر بالإنجليزية في عام 1978 ونقله إلى العربية كمال أبو ديب في عام 1981، إلا أنه لم يفعل -في الواقع- أكثر من أنه أيقظ مارد الاستشراق الذي استغرق في النوم منذ العقد السابع من القرن العشرين، في سرير العلوم الإنسانية والاجتماعية. وعلى قلّة ما كان يعرفه مثقفو العرب في الثمانينات، من الاستشراق وعن الاستشراق الذي توارى عن الأنظار منذ الستينات -بفعل تصاعد المد القومي واليساري والإسلامي – فقد تكفّل كتاب إدوارد سعيد بالإجهاز على ما تبقى من هذه المعرفة لأسباب عديدة منها:

1- اقتصاره تقريبًا على المضمون الاستشراقي السياسي (الخفيف) الخاص بعدد من كبار مسؤولي الإدارات الاستعمارية والرحّالة والمغامرين الغربيين، وافتقاره إلى الاشتباك مع المضمون الاستشراقي الفكري (الثقيل) الذي يمثل جوهر وصلب الاستشراق.

2- اتجاه التيارات القومية واليسارية والإسلامية العربية، لتوظيف الكتاب توظيفًا أيديولوجيًا وسياسيًا واسع النطاق، ضد الغرب الأوروبي والأمريكي.

3- أسطرة الكتاب والكاتب، بوصفهما اختراقين معرفيين تاريخيين، لخطاب ومؤسسات الغرب الأوروبي والأمريكي.

4- أطلق الكتاب سيلاً جارفًا من الكتب والدراسات والمقالات العربية حول الاستشراق، اتسم معظمها بالسطحيّة والتسرّع والسعي لقطف ما يمكن قطفه من ثمار هذا (البزنس) المعرفي الذي أعاد كتاب إدوارد سعيد إحياءَه.

ما تقدّم، قد يتسبّب بصدمة عنيفة لكثير من المثقفين العرب الذين سلّموا تسليمًا يكاد يكون تامًا بأن الاستشراق هو (الاستشراق) الذي وصّفه وعاينه إدوارد سعيد. ويستوي في ذلك من قرأ الكتاب مع من لم يقرأه! لكن الاستشراق -في الواقع- يكاد يكون كيانًا مختلفًا تمامًا عن (الصورة الثابتة) التي رسّخها إدوارد سعيد في أذهان الأجيال الجديدة من المثقفين العرب، لأن مقولات هذا الاستشراق، في معظمها وفي حد ذاتها، قد ترددت بطريقة أو بأخرى لدى بعض المثقفين العرب (قديمًا وحديثًا) في سياق مراجعاتهم ونقوداتهم للتاريخ العربي والفكر العربي والأدب العربي وللشخصية العربية (ابن سلام الجمحي وابن جبير وابن خلدون والكواكبي والوردي… على سبيل المثال لا الحصر) فبدا ما قالوه ضربًا من ضروب النقد الذاتي البنّاء، فيما بدا ما قاله بعض المستشرقين ضربًا من ضروب التحامل والتشكيك والتجريح. وقد أسهمت المواجهات التاريخية الممتدة –عسكريًا وسياسيًا وعقائديًا وثقافيًا- بين الشرق والغرب، في إظهار مقولات المستشرقين بمظهر الطعون المتعمّدة الهادفة لتحطيم وتدمير الشخصية العربية، ما أدى إلى تغييب الاشتباك مع (ماذا وكيف قالوا ما قالوا؟) لصالح الاشتباك مع (لماذا قالوا ما قالوا؟)!!! اي أن معاينة خطاب الاستشراق قد ظلّت في الغالب خارج سؤال (المعرفة) وداخل سؤال (التأويل). علمًا بأن إدوارد سعيد قد أقر إقرارًا لا مجال للشك فيه بأن كتابه (الاستشراق) قد تم توظيفه على نحو مخالف لما أراد في الوطن العربي، وذلك في معرض تقديمه النسخة العربية من كتابه (الثقافة والاستعمار)! ومع ذلك فقد تصدّى مترجم الكتاب الدكتور كمال أبو ديب للتقليل من شأن هذا الإقرار المدوّي! 

وبغية التدليل عمليًا على ما ذهبت إليه، فسوف أعمد إلى القيام بعدد من المراجعات النصيّة في أدب الاستشراق من منظور عربي، وسوف تتكشّف للقارئ المدقّق حقيقة أن المعرفة العربية بالاستشراق، قد ظلت تتآكل كلّما تقدّمنا في الزمن من جهة، وكلما قلّ التواصل المباشر مع الاستشراق والمستشرقين من جهة ثانية.

وقد قادني التدقيق في سلسلة المعرفة العربية بالاستشراق، إلى ضرورة الانطلاق من جهود جرجي زيدان، وليس من جهود عمر فاخوري الذي عدّه خيري منصور في كتابه (الاستشراق والوعي السالب) الذي صدر في عام 2001، رائد الاستشراق العربي المعكوس، استنادًا إلى حقيقة أن عمر فاخوري قد أصدر كتابه (آراء غربية في مسائل شرقية) عام 1922. كما قادني هذا التدقيق إلى ضرورة إنصاف نجيب عقيقي باعتباره الحلقة الثالثة في سلسلة المعرفة العربية بالاستشراق، بعد جرجي زيدان وخير الدين الزركلي. وسوف أتصدى في هذه المقالة لتقييم ونقد الحلقة الرابعة في هذه السلسلة ممثلة بموسوعة المستشرقين للدكتور عبد الرحمن البدوي.

* عبد الرحمن بدوي تحت المجهر

ولد عبد الرحمن بدوي في دمياط عام 1917، وتوفي في القاهرة بمصر عام 2002. وهو من أغزر المثقفين العرب تأليفًا وإنتاجًا إلى درجة أن هناك من يزعم بأن منشوراته قد بلغت 200 كتاب مؤلّف أو مترجم أو مُحَقَّق. وقد بلغ المعروف أو الموثق منها 150 كتابًا. ولا ريب في أن إتقانه للعديد من اللغات إلى جانب لغته العربية الأم قد أسهم إلى حد بعيد في سعة اطلاعه وغزارة إنتاجه. كما أن حماسة أستاذه الدكتور طه حسين له وقطعه بأنه (لأول مرة يشاهد فيلسوفًا مصريًا) –وذلك في أثناء مناقشة أطروحته للدكتوراه وعنوانها “الزمان الوجودي” عام 1944- قد أسهم أيضًا في تكوين تلك الهالة الكبيرة التي أحاطت به ولم يدّخر هو وسعًا لتعزيزها عبر إكبابه على التأليف والتحقيق والترجمة في حقول الفلسفة والتاريخ والأدب. 

إلا أن هناك من شكّك بقوة في أصالته الفلسفية، غربًا وشرقًا؛ فقد جاء في السيرة الذاتية للدكتور هشام شرابي “أيام الجمر والرّماد” أنه ذكر في عام 1948 للدكتور فال –وهو أحد أساتذة الفلسفة في جامعة شيكاغو آنذاك- أن للفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي كتابًا في الفلسفة الوجودية بعنوان “الزمان الوجودي” فأبدى اهتمامًا به واقترح عليه أن يدير بحثه لذلك الفصل حول الكتاب، وبعد بضعة أسابيع قدّم البحث عارضًا فيه الخطوط الأساسية مشفوعة ببضعة مقاطع مترجمة منه، فاستدعاه الدكتور فال إلى مكتبه بعد قراءة بحثه وقال له: (الكتاب عادي، المقاطع المترجمة وأفكار بدوي تبدو مستقاة في معظمها من كتاب هيدجر “الوجود والزمان” وليس فيها شيء جديد)!

وأيًا كان حظ الدكتور عبد الرحمن بدوي من الأصالة الفلسفية، فهو مثقف موسوعي دون شك، لكن سوء ظنه بالدنيا والناس جرّ عليه كثيرًا من وجوه الاضطراب في مسيرته العلمية والشخصية. وقد تسلل هذا الاضطراب إلى غير قليل من كتبه المنشورة، فخيمت عليها طوابع العجلة وضيق الصدر والانفعال رغم غزارة المعلومات وسعة الاطلاع. وقد قيض لي أن أحرّر ملحق موسوعته الفلسفية في عام 1995 بتوصية من أستاذي الدكتور فهمي جدعان وبتكليف من الأستاذ ماهر كيالي مدير المؤسسة العربية للدراسات والنشر، فهالني ما وجدت في الملحق من تشويش وأخطاء عزوتها لنمط حياته الفوضوي وتقدمه في العمر، إلى درجة أنه قد يكتب بالعربية ثم ينتقل للكتابة بغيرها من اللغات دون أن يدري. ولعل كثيرًا مما أريد إيصاله للقارئ بخصوص بنيته الفكرية والنفسية المعقدة سيبدو أكثر تجردًا في ضوء سيرته الذاتية التي أصدرها في مجلدين كبيرين بعنوان (حياتي)!

ما أن نشرع في قراءة السيرة الملحمية الزاخرة التي كتبها عبد الرحمن بدوي حتى نصدم بثلاثة أمور: إقراره بأن الصدفة، والصدفة وحدها، هي ما يقف خلف كل شيء في هذا العالم؛ (واهم من يظن أن ثمّ ترتيبًا أو عناية أو غاية، إنما هي أسباب عارضة يدفع بعضها بعضًا فتؤدي إلى إيجاد من يوجد وإعدام من يعدم)! واستفاضته في سرد تفاصيل العلاقات الغرامية التي ربطته بنساء أوقعن به أو هو أوقع بهن في ألمانيا وهولندا وفرنسا! وإصراره على أن كلا من حزب الوفد وحزب الأحرار المصرييْن هما عميلان نجيبان لإنجلترا!

ومع أن الوجهة العدمية لديه قد خفتت كثيرًا على امتداد صفحات الكتاب حتى كادت تتلاشى وحل محلها كثير من شواهد غيرته على الإسلام والمسلمين، ومع أن حديث العشيقات الغابرات بدا تجردًا تامًا من أي قناع على الصعيد الشخصي، إلا أنّ نبرة الهجاء السياسي قد ظلت تتصاعد وتتصاعد حتى بلغت ذروتها القصوى بإظهار الشماتة التامة بوفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر!

يؤكد عبد الرحمن بدوي، استنادًا إلى العديد من المواقف والشواهد، ضلوع حزبي الوفد والأحرار الدستوريين في التآمر على مصر والمصريين، ولا يستثني من هذا التآمر زعماء تاريخيين مثل سعد زغلول، كما لا يدخر وسعًا لتأكيد أن الشركات الزراعية الأجنبية قد أسهمت إسهامًا حقيقيًا في تقدم مصر والمصريين! وقد أولى القطاع الزراعي كثيرًا من عنايته، وتوقف بوجه خاص عند تجربة التأميم الزراعي، فشن هجومًا عنيفًا على أعضاء مجلس الثورة المصرية بوجه عام وعلى جمال عبد الناصر بوجه خاص، متهمًا إياهم بتخريب وسرقة مصر والمصريين، وبتدمير الشخصية الوطنية المصرية، ومؤكدًا أن الحقبة التي فصلت بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، تمثل مصر الليبرالية، في الدين والسياسة والاقتصاد والثقافة، أفضل تمثيل. 

في موازاة هذا الهجاء السياسي الحاد للثورة المصرية، فقد أجرى عبد الرحمن بدوي كشف حساب عاصف مع الأكاديميين والمثقفين المصريين، فاتّهم كل عمداء كلية الآداب في جامعة القاهرة بالانتهازية والانجرار خلف مصالح حزبية ضيقة لا علاقة لها بالعلم أو الثقافة، وخاصة أحمد أمين! ولم يكد يستثني من هجومه الحاد هذا إلا عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي طالته تهمة الضلوع في أوحال الحزبية على حساب العلم، لكنه لم يقس عليه قسوته على العقاد الذي زعم أنه كان يكتب دائمًا بتوجيه ممن يدفع له أكثر، وخاصة طوال فترة الحرب العالمية الثانية 1939-1945! والغريب أن عبد الرحمن بدوي يقر إقرارًا لا لبس فيه بأنه قد دبّر إقدام مجموعة من (الزّعران) على ضرب العقاد وتهديده بالقتل إذا استمر في مهاجمة (حزب مصر الفتاة) الذي صرّح بانتمائه له فضلاً عن إعجابه الشديد بأدولف هتلر وبالحركة النازية الألمانية! 

وإمعانًا في النكاية، فإن عبد الرحمن بدوي يسبغ على الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات العديد من مناقب العبقرية السياسية والحكمة وبعد النظر مقارنة بجمال عبد الناصر الذي لم يعدُ كونه مغامرًا مندفعًا أنانيًا من وجهة نظره! هذا، مع أنه لم يدع في الكتاب فرصة إلا واهتبلها للتنديد بالحركة الصهيونية وبإسرائيل التي أقدم السادات على توقيع (اتفاقيات كامب ديفيد) معها فأنهت ما كان يسمى (التضامن العربي) وعزلت مصر لسنوات عديدة عن محيطها العربي.

لماذا أقدم عبد الرحمن بدوي على إجراء تسويات الحساب العاصفة هذه بكل هذا القدر من الغضب والمرارة والبعد عن المجاملة؟ ألم يدر بذهنه أن هذه السيرة يمكن أن يستثمرها على نحو سلبي، أعداء مصر وأعداء العرب؟ هل كان سيكتب ما كتب لو أن الثورة المصرية لم تصادر أملاك عائلته ولو أنه عين عميدًا لكلية الآداب في جامعة القاهرة أو جامعة عين شمس؟ لماذا شارك بحماسة شديدة في إعداد الدستور المصري بعيد انتصار الثورة ثم ابتعد كثيرًا بعد ذلك؟ ومن هو المسؤول المصري الأرعن الذي كبّد مصر العزيزة هذه الخسارة الفادحة فاستعدى هذا المفكر العربي على وطنه وعلى شعبه وعلى زملائه، بل وحتى على نفسه؟!!

 

* مرآة عبد الرحمن بدوي تحت المجهر

قبل أن نشرع في إيراد ملاحظاتنا بخصوص (موسوعة المستشرقين)، فقد يكون من المفيد أن نورد نموذجًا للترجمات التي خص بها عبد الرحمن بدوي أعلام الاستشراق، وقد وقع اختيارنا على ترجمته لجولدتسيهر حيث كتب:

جولْدتسيهر (اجْنَتْس)

IGNAZ GOLDZIHER

(1850-1921)

“يشاء الله أن يهب الإسلام من الأوربيين من يؤرخون له كسياسة فيجيدون التأريخ؛ ومن يبحثون فيه كدين وحياة روحية فيتعمقون هذا البحث ويبلغون الذروة فيه أو يكادون، ومن يقبلون على الجانب الفيلولوجي منه فيظفرون بنتائج على جانب من الخطر كبير. فكان له على رأس هؤلاء الأخيرين نيودور نِلدكه، وعلى رأس أولئك الأولين يوليوس ﭬلهوزن. وكان سيد الباحثين فيه من الناحية الدينية خاصة، والروحية عامة، اجتنس جولدتسيهر.

ليس في حياة جولدتسيهر الظاهرية شيء يستحق التسجيل. فهي حياة هادئة لم تخرج عن دائرة الحياة العلمية الخالصة. ولم تتعدها إلى الحياة العامة، أو إن تعدتها فبمقدار هين قليل. أما حياته الباطنة فكانت خصبة حافلة بالنشاط والحركة، نمت سريعًا وكانت مبكرة في هذا النمو شديدة التبكير، واستمرت قوية وثابتة، سائرة نحو غايتها دون توانٍ ولا انقطاع، ولهذا فلن نحدثك عن حياته الأولى إلا حديثًا قصيرًا، وبالقدر الذي يفيدنا في تفهم حياته الثانية.

كان ميلاده في الثاني والعشرين من شهر يونيو سنة 1850 بمدينة اشتولـﭬيستِبُرج في بلاد المجر. وأسرته أسرة يهودية ذات مكانة وقدر كبير. فهي ليست من تلك الأسر اليهودية الشديدة الإملاق المنتشرة في أوروبا الوسطى، إملاقًا يجعل البعض منها جاهلاً ممعنًا في الجهل، فطريًا ساذجًا أو شبه فطري ساذج؛ ويفضي بالبعض الآخر، وغالبية هؤلاء من المستوطنين لا المواطنين، إلى أن يكون تربة خصبة لإنبات الآراء الهدامة في الحياة الاقتصادية.

ولهذين العاملين: عامل انتمائه إلى بلاد المجر التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية النمساوية، وعامل انتمائه إلى أسرة إسرائيلية هذا حظها من المكانة في الحياة الاجتماعية، أثر كبير في تحديد خصائص جولدتسيهر. فالعامل الأول لم يكن من شأنه أن يجعل جولدتسيهر يشارك في الحياة السياسية العامة كما هو شأن بكر، أو أن يقوم بدور في السياسة الخارجية لوطنه كما هي الحال بالنسبة إلى الكثير من المستشرقين. وكان العامل الثاني هو الذي طبعه بطابع العالمية، وأشاع فيه الروح الدولية التي تعلو أو تتخلص من الروح القومية. ثم كانت مكانة أسرته ووضعها الاجتماعي العامل في تشكيل نظرته إلى الحياة العامة. فإن من شأن هذا النوع من الأسر أن يقف موقفًا هو خليط من المحافظة، والوطنية المحدودة طبعًا؛ ولهذا نراه ذا نزعة وطنية فيها من التحفظ الشيء الكثير، كما نراه لا يرضى عن الحركات الثائرة، حتى لو كانت هذه الحركات في صالح الطائفة التي ينتسب إليها. ومن هنا نجده غير راضٍ عن الثورة التي قام بها بيلاكون، مع أنها أفضت إلى ازدياد نفوذ اليهود ورفع مكانتهم في الحياة العامة في المجر”.

قد يتكفّل ما تقدم من سيرة عبد الرحمن بدوي ومن ترجمته لجولد تسيهر التي طالت حتى بلغت صفحات، بتفسير كثير من مآخذنا على (موسوعة المستشرقين) التي صدرت في طبعتها الأولى عام 1981، ثم صدرت في طبعتها الثانية عام 1984، ثم صدرت في طبعتها الثالثة عام 1993، وهي الطبعة التي سنتناولها بالوصف والتعليق والنقد.

تقع الموسوعة في 640 صفحة من القطع الكبير، وتشتمل على (291) ترجمة طويلة أو متوسطة أو قصيرة. وقد ذُيِّلت بفهرس أبجدي بلغ خمس صفحات للمستشرقين الذين ترجم لهم. لكنها (الموسوعة) تشتمل على العديد من المآخذ التي يمكن تلخيص أبرزها على النحو التالي:

هجم الدكتور عبد الرحمن بدوي على ما يريد، وباشر بالترجمة للمستشرق الإنجليزي آرثر آربري (1905-1969) دون أن يكلّف نفسه عناء التمهيد لموسوعته بمقدمة تليق بها وبه، وكان يمكن لهذه المقدمة أن لا تقل أهمية عن الموسوعة نفسها لأسباب كثيرة منها: إتقانه لكل اللغات التي كتب بها المستشرقون، باستثناء الروسية. وسعة اطلاعه على ما كتبه هؤلاء المستشرقون ومبادرته للكتابة عن الاستشراق والمستشرقين قبل إصدار الموسوعة كما تجلى في كتابه (شخصيات قلقة في الإسلام) وفي كتابه (دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي). وثقافته الفلسفية الواسعة التي تؤهله لوصف وتحليل ونقد الخطاب الاستشراقي. لقد فوّت الدكتور عبد الرحمن بدوي على نفسه وعلى قرّاء الموسوعة مأثرة ذهبية لن تعوّض. والغريب المدهش أنه لم يبادر لاستدراك هذه المثلبة في الطبعتين التاليتين، رغم أنه في الطبعة الثالثة (الجديدة والمنقحة والمزيدة) قد بادر لرفد الموسوعة بثمانين مادة جديدة!

خلت الموسوعة من قائمة المصادر والمراجع التي اعتمد عليها. وإذا كانت المصادر العربية التي يمكننا الحدس بأنه قد اعتمد عليها قليلة جدًا ولا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة –مثل كتاب “المستشرقين” لنجيب عقيقي وكتاب “الأعلام” لخير الدين الزركلي- فإن المصادر الأجنبية التي اعتمد عليها، ولم ينوه بها، قد ظلت ثروة مرجعية احتفظ بها لنفسه. وكان يمكن لقائمة المصادر الأجنبية وحدها أن تمثل دليلاً استثنائيًا للباحثين والدارسين.

خلت كل ترجمة من ترجماته على حِدَة، من توثيق المصادر التي اعتمد عليها في إنجازها، إلى الحد الذي لا يمكننا معه أن نميز الحدود الفاصلة بين آرائه هو وآراء غيره من مؤرخي المستشرقين. ومما زاد الأمر تعقيدًا على هذا الصعيد، اتجاهه إلى الاستطراد في كثير من الأحيان.

لم يحافظ على اطراد قالب الترجمة أو اطّراد أدوات التعريف بالمستشرقين، فهو يعنى بتوثيق سنوات الولادة وسنوات الوفاة بوجه عام، لكنه يسهو عن ذلك أحيانًا. وقد يستهل الترجمة على نحو تقريري وقد يستهلها باستطراد شخصي.

لم يحافظ على وجود المسافة ذاتها بينه وبين كل المستشرقين الذين ترجم لهم، وأقحم مواقفه وآراءه وعواطفه الشخصية في تقييم المنحنى العام لحياة كل مستشرق على حِدَة، وقد تجاوز في هذا الإقحام الحد المعهود بين الباحثين؛ فنراه مثلاً يكيل المديح لماسينيون وجولدتسيهر وينقضُّ على مرجليوث، إلى الحد الذي قد يقلل من مصداقية ترجماته.

استخدم بدوي لغة سهلة وواضحة في صياغة ترجمات موسوعته، لكنها إلى لغة من يتحدث ويحاضر أقرب منها إلى لغة من يكتب ويحرّر. وقد رانت عليها –لهذا السبب- مسحة من الركاكة أحيانًا. وربما أدى به الاستعجال وغزارة المعلومات، إلى تقديم دافع الانتهاء من الموسوعة ونشرها على دافع المراجعة والتنقيح. علمًا بأن الطبعة الأولى من الموسوعة قد صدرت في العام نفسه (1981) الذي شهد صدور الطبعة العربية الأولى من كتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد!

رغم كل ما تقدم من مآخذ، فإن (موسوعة المستشرقين) لعبد الرحمن بدوي ما زالت تعد المرجع الأضخم والأوسع انتشارًا في الوطن العربي والأكثر تعاطفًا مع الاستشراق والمستشرقين، مع أن بعض الباحثين المرموقين –مثل سالم يفوت- يعدّها قاموسًا! ومع أن بعض الباحثين –كما سنرى لاحقًا- سوف يبني على ما بنى عليه عبد الرحمن بدوي، ويبادر إلى إنشاء معجم خاص بالمستشرقين، ويستند على “موسوعة المستشرقين” بوجه خاص، دون أن يصرّح بذلك في التقديم أو الترجمات، ولسان حاله يقول: اتهموني إن استطعتم، فقد سبق لعبد الرحمن بدوي أن نشر موسوعة ضخمة ولم يصرّح فيها بمصادره، فلماذا أصرّح أنا بما أخذت منه أو من غيره! فهل كان سبب إحجام عبد الرحمن بدوي عن كتابة مقدمة لموسوعته يعود لعدم رغبته في الإفصاح عن مصادره؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى