شكير نصرالدين: من عيوب النقد العربي الاكتفاء بالقشور

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

نورالدين بازين 

 

يجمع عمل شكير نصر الدين بين النقد والترجمة، صاحَب لمدة طويلة أعمال المفكر الروسي ميخائيل باختين، وقدم للمكتبة العربية ثلاثة من مؤلفاته المؤسسة: «جمالية الإبداع اللفظي» و»أعمال فرانسوا رابلي والثقافة الشعبية» و»الفرويدية»، فضلا عن كتابي «النقد الأدبي» لجيروم روجي و»القراءة». 

حول صعوبات العمل الترجمي في المغرب والبلاد العربية عموماً، يفصح لنا صاحب ترجمة «صمت الآلهة» في هذا الحوار عن علاقته المثيرة للاهتمام بالمفكر الروسي ميخائيل باختين، وعن الأسباب الكامنة وراء هيمنة ترجمة الأعمال النقدية على حساب الأدبية منها.

 

■ لكل فعل ثقافي قصة وبداية، ما هي قصتك مع الترجمة وكيف كانت البداية؟

□ كثيرا ما يلتف الغموض محكي البدايات. ربما نشأت العلاقة بالترجمة منذ مرحلة ما قبل المدرسة العمومية، داخل حجرة الدرس وعلى سبورة واحدة في جهة اليمين درس بالعربية، وفي الجانب الأيسر حروف وجمل بالفرنسية؛ تعايش اللغتين في حيز واحد كان دائما مثيرا لدهشتي. وكانت العلامات التجارية للمحلات وأسماء الشوارع المكتوبة بلُغَتَيْ «الجاحظ» و»موليير» تسليني خلال جولاتي في أنحاء المدينة كلها؛ فكنت كلما استهوتني جملة أو فقرة حاولتُ نقلها إلى العربية وأنا بعد تلميذ في المرحلة الإعدادية. إلا أن العلاقة المباشرة بالترجمة بوصفها عملية واعية ترقى إلى أيام الجامعة منتصف الثمانينات، حيث نشرتُ نصوصا نقدية مترجمة لكل من لوسيان غولدمان وغريماس وفوكو وبارت وغيرهم من النقاد والفلاسفة.

■ الحركة الترجمية في المغرب منذ فجر الاستقلال حتى الثمانينيات من القرن الماضي ظلت باهتة ولم ترق إلى المستوى المطلوب الذي يؤهل المغرب لدخول المشهد الثقافي العالمي فعليّاً. ماهي أسباب هذا الغياب؟

□ بالفعل، كان لضرورة بناء الدولة الوطنية فجر الاستقلال اكراهاتها السياسية والفكرية المعروفة، وعرفت المرحلة بتجاذب اللغتين لغة المستعمِر واللغة االوطنية المُتفق على كونها ذات الصفة العربية. علمَاً أنّ المرء لا يمكنه بخس عمل جيل الرواد الترجمي الذي كان نضالياً بالأساس وتطوعيّاَ بامتياز، المشكل أن حركة الترجمة لزمت هذا الوضع، ولم تتجه الدولة ممثلة في الهيئات والوزارات ذات الصلة إلى الارتقاء بالترجمة من وضعها الهاوي، إلى الوضع المؤسسي العلمي المعهود في بلاد العالم، التي عانت الاحتلال والاستعمار ثمّ تخطّت هذه المرحلة وغدت رائدة في مجالات عدة من ضمنها الترجمة، كاليابان على سبيل. 

كذلك كان للجامعة دورها الفاعل في ترجمة الكثير من الأعمال في مختلف فروع العلوم الإنسانية، وإن لم تنشر هذه الأعمال على نطاق واسع، وظلت أبحاث وأطروحات أكاديميّة حبيسة محفوظات الجامعة المغربية. أمّا المعاهد المُتخصصّة فتنقصها آليات التواصل الثقافي، أي تعميم المنجزات في شكل كتب موجهة للعموم أو الطلاب، مثلما هو متعارف عليه في الجامعات التي تتعامل مع دور نشر وازنة وتخلق بمعيتها منشورات وطبعات تستهدف فئات بعينها. في ظل غياب استراتيجية ثقافية إحدى رافعاتها هي الترجمة، ظلت هذه الأخيرة رهن محاولات وجهود فردية يتكبدها منتسبون للجامعات المغربية أو من خارجها، فانحسر دورها في ما عرفته فترة الثمانينيات من فورة ووفرة لا ترقيان إلى الآمال التي عقدها المترجمون على مبحث جديد رأوا فيه لبنة أساسية داعمة للمشهد الفكري والثقافي مغربياً وعربياً.

■ إلى ماذا تعزو غياب النصوص المؤسَّسة في النقد والفلسفة والآداب؟ 

□ عطفاً على ما سبق، شهدت ثمانينيات ما يشبه النهضة الترجمية، بالتأكيد كان السياق الأكاديمي الجامعي تحت تأثير الحاجة إلى الدفع بالنقد على الأخص نحو آفاق جديدة، متأثّراً من تطوّرات العلوم الإنسانيّة، فرنسياً بشكل خاص، في تجلياتها الشكلانية والبنيوية. فكانت التربة خصبة لبذر ثمرات جديدة، إلا أنّ هذه البذور لم ترافقها العناية اللازمة، فبقيت المجهودات فردية «تناضل» لوحدها. كان المطلوب حينها مساءلة حركة الترجمة وبسط أسباب استمراريتها، لكن المتتبعين رصدوا انحسار تلك الصحوة في الزمان، وامتدادها في المكان فنال المنجز الترجمي المغربي الاستحسان عربياً. وانكفأ المترجمون على ذواتهم، ومنهم من هاجر إلى أجناس إبداعية أو اهتمامات أكاديمية أخرى.

لا يعني هذا وجود فراغ بعد تلك الفترة المشرقة، وإنما كانت النتائج والمنجزات ستكون أفضل لو ذهبنا في خط الاستمراريّة لمشروع ترجمي مُعقلن، له موارده البشرية ذات الكفاءة، وشروط العمل الضرورية كما تحت سموات أخرى لا تبعد عنا (اسبانيا نموذجا)؛ إنّ غياب الرؤية الاستراتيجية هو ما يُفَسِر عدم التصدي لنصوص مؤسَّسة، وإن كانت المحاولات في هذا الصدد معدودة، وحده العمل الترجمي المنتظم المدعوم بكل وسائل الانتاج يستطيع ذلك، واليوم نرى جهات عربية بمقدرات مالية معروفة، تشتغل في هذا المنظور. 

■ يأخذ النقد والدراسات الفكرية النصيب الأوفر من الترجمة في المغرب في حين تبدو ترجمة الابداع محتشمة. ما السبب في ذلك؟

□ لعل الحاجة كانت مُلحة لترجمة الأعمال النقدية بالأساس أو المنتمية تخصّيصاً لحقل العلوم الانسانية للأسباب المشار إليها سابقا، وربما للذهنية المغربية لسكان المغرب الأقصى الذين عُرَفَ عنهم تاريخياَ أنهم أصحاب فقه وتبحّر في علوم اللغة والقرآن والتاريخ.

■ أين ترى القارئ المغربي اليوم من عمليّة الترجمة؟

□ تغذّى القارئ المغربي المُحِب للأدب والدارس له على انتاج المشرق العربي إلى أنّ عرف هذا الواقع ما يشبه الانقلاب، حيث نشهد اليوم غلبة الأدب المترجم على الأصناف الفكرية الأخرى، لكن المطلوب في المُنجَز المُترجَم هو التكامل بين الآثار المنتمية للعلوم الانسانية بمختلف فروعها، وكذا العلوم الحقة، وإلاّ فنحن إزاء ترجمة عرجاء. 

■ شكير نصر الدين، ما هي الآثار التي خلفتها الترجمة في طبيعة لغتك النقدية وأنت تمارس النقد وتنشر المقالات النقديّة؟

□ أنتسب زمنياً لفترة منتصف الثمانينيات ـ بداية التسعينيات، فترة عرفت حراكاً ترجمياً ونقدياً كانت له انعكاسات على الوضع الاعتباري للنقد مغربياً، بل على الصعيد العربي حتى؛ في ذلك الإبان كان ما يشبه مرحلة التأسيس لنقد أدبي جديد، السمة الغالبة عليه هي الجديّة في نقل المفاهيم والمقولات من حقول معرفية جديدة، ولعل القارئ يذكر جيدا أنّ النص المترجَم كان يضج بالمفاهيم المكتوبة باللغتين معاً، حرصاً على توحيد المصطلح، كأن يكتب الواحد منا السارد ويجعل بمحاذاتها كلمة narrateur، ومرد ذلك كون المترجم يطأ قارة جديدة، ويبتغي الوضوح والاقتراب أكثر من مقصد النص الأصلي. 

أظنّ أنّ لغتي النقدية لم تكن انطباعية، كما أنّ مرافقتي الطويلة لأعمال ميخائيل باختين حمتني من الانغلاق الذي فرضه النقد المتشبع بالمرجعية البنيوية والشكلانية، سواء ما تعلق منها بعلم السرد أو السيميائيات السردية، إذ أنّ التحليل النصي الدقيق للنصوص، لم يمنعني من الانفتاح على السابق منها، في الزمنية الصغرى والكبرى (هذان مفهومان أساسيان عند «باختين») ضمن مفهوم الحواريّة المخصب. وقد يقف القارئ عند هذا الطرح النقدي الحواري في كتابي النقدي «أبحاث نقدية» الصادر مؤخراً عن دار «دال للنشر والفنون» السورية، وفيه دراسة نصوص تنتمي لأجناس الرواية والقصة والشعر، نشرت بين عامي 1986 و2013 والمواكبة النقدية لها إبان نشرها، ممّا يجلي انتصاري للنقد الحواري الجمالي منذ البداية. 

■ بالحديث عن علاقتك بفكر الناقد الروسي ميخائيل باختين يلاحظ المُتتبع لمشروعك الترجمي تخصّصك في أعماله ما الذي دفعك لهذا، وهل ترى أنّ أفكاره النقدية ما زالت راهنيّة؟

□ ما ينظر إليه على أنه تخصص، لم يكن كذلك عن قصد. اكتشفت أعمال المفكر الروسي باختين على يد أستاذ اللغة العربية آنذاك مولاي عمر البداوي، إذ مدّني بكتيب «الملحمة والرواية» بترجمة الناقد والمترجم السوري جمال شحيّد، وهو في الأصل دراسة من بين ست دراسات ضمّها كتاب «جمالية الرواية ونظريتها». في الجامعة انصرف اهتمامي إلى كتاب آخر هو «جمالية الإبداع اللفظي»، الذي كان برأيّي جديراً بالترجمة لأسباب عديدة أجملها هنا في اعتبارين اثنين: كون الكتاب يحتوي تجربة فكرية تغطي أكثر من خمسين سنة من الإنتاج الفكري الرصين للمؤلَّف بين 1920 و1974. ولأنّه ضروري لتصحيح نظرة اختزاليّة، تبسيطيّة حد التعسف، انتشرت في الدرس النقدي العربي، هي اختزال باختين عن خطأ في طرح أيديولوجي، ماركسي، مادي تاريخي مبسط، أو جعله شكلانياً روسياً، وهذه قمة تضييّق أفقه الفكري في النقد السوسيولوجي أو غيرها من الخانات التي تلزمه بالاصطفاف ضمن مدرسة أو تيار، والحال أنّ باختين هو مفكر يبني أفكاره ومقارباته على الانفتاح، والصيرورة والتخوم، وتكامل المعارف والحواريّات. 

من عيوب النقد العربي الاكتفاء بالقشور، أي الركوب على المفاهيم والمذاهب، والنسج على منوالها من دون تعميق وإنعام للنظر، مقابل الاكتفاء بالمُلخصات ومُلخصات الملخصات، من دون بذل جهدٍ في فحص وتأمّل النصوص. بخلاف تلقي باختين في فرنسا مثلا أو أمريكا الشمالية، حيث ما يزال النقد ينهل من هذا المعين الذي لا ينضب، وأضرب لذلك مثلا مفردا، ألا وهو الباحث الفرنسي الرصين جان ميشيل آدم الذي لا يتوقف في تدعيم بحثه حول اللسانيات النصيّة وتحليل الخطاب عن الإفادة من «جمالية الإبداع اللفظي» على الخصوص، ونجد أثر باختين في كتابه «أجناس المحكيات: سردية النصوص وأجناسيتها»(2011) على سبيل المثال لا الحصر.

من جهتي وإيماناً بالحاجة المُلحّة في الفضاء الثقافي العربي للتزود من معين باختين الفكري عمدت إلى ترجمة كتابه «أعمال فرانسوا رابليه والثقافية الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة» (منشورات الجمل،2015) وكتابه «الفرويدية» (دار رؤية،2015).

■ إذن، كيف كان رد الفعل حول الكتب التي ترجمتها عنه؟ وكم تأثّر النقد العربي بإنجازات باختين؟ 

□ لا يمكن القول إنّ النقد العربي لم يأخذ من منجز باختين، بل أنّ مفاهيمه الأساسية صارت على كل لسان أكاديمي في ربوع العالم العربي، لكن وقف الأمر عند حدود التطبيق العملي للمفاهيم، وأحيانا بكثير من الخلط والفوضى، من دون استثمار الرؤية الفلسفية والجمالية التي ينبني عليها فكر الرجل، أي الذهاب بأسئلتنا النقدية أبعد من النصوص التي بين أيدينا، لمُساءلة تاريخنا الأدبي والفكري عموماً، وحتى المغامرة بل والمخاطرة في مساءلة نصوص مؤسّسة لعقيدتنا وذائقتنا الفنية والجمالية المفتوحة على كل الاحتمالات التأويليّة. أما عن تلقي ترجماتي لباختين، فأنا لا أملك معطيات ملموسة لإطلاق هذا الحكم أو ذلك، باستثناء الأصداء من هنا أو هناك على امتداد الوطن العربي، وإن كنتُ أعتز بشهادات من وثقوا لآرائهم تلك كتابة مثلما فعل النقاد محمد أبي سمرا وعباس بيضون ووفيق غريزي وهاشم ميرغني والمترجم ثائر ديب. 

■ بالإضافة إلى عملك على مؤلفات باختين ترجمتَ في مدونتك النقديّة كتبا نقديّة أخرى مثل «النقد الأدبي» لجيروم روجي و»القراءة» لفانسون جوف بمعيّة صديقك محمد أيت لعميم. ما هي الروابط بين هذه الترجمات؟

□ كل ترجمة هي اختيار نقدي في حد ذاته، ولعلّ الصوت الداخلي الذي حملني منذ أكثر من ثلاثين سنة على ترجمة دراسات نقدية منفصلة هو نفسه الذي يتردد بداخلي إلى اليوم، فكرة تقديم خدمة نبيلة للقراء كانت دائما المحرّك الأساسي للإقبال على الترجمة وبإمكانات ذاتية. 

ربط خيطٌ رفيع بين عشرات الدراسات النقدية على امتداد ثلاثة عقود، هو الإسهام قدر المتاح في الدفع بعجلة النقد والإبداع مغربياً وعربياً؛ وإذا كنتُ اليوم أشتغل على كتب، فإنّ الانحياز النقدي للرصانة هو المُتحكّم دائما في مشروعي الترجمي المتواضع. ويكفي أن أشير هنا إلى الترجمة المشتركة لكتاب «القراءة» بمعيّة محمد أيت لعميم، فهذا كتاب نقدي لا محيد عنه لكل من ابتغى إلى نظريات القراءة والتلقي سبيلا.

■ ترجمتَ «أليس في بلاد العجائب، فتاة من ورق، صمت الآلهة، الأيادي الموهوبة»، مزاوجاً بين ترجمة النقد والأدب، أين تجد ذاتك أكثر؟

□ أستحب النظر إلى النقد والإبداع من زاوية الوصل وليس الفصل، إن الجامع بينهما هو وضعي بصفتي قارئ يؤول السياقات اللغوية والفكرية والثقافية. المترجم في نظري قارئ موسوعي بامتياز، إذا كان فهمنا للرواية يصدر عن اعتبارها جنسا أدبيا منفتحا غير مكتمل، قابل للتعبير عن مختلف الخطابات، فإنّ المترجم لا يسعه التعامل معها بصفتها جسدا لغوياً صرفاً. من الناحية العملية، يصادف المترجم الصعوبات نفسها التي تنتصب أمامه في ترجمة كتاب في النقد الأدبي أو الفلسفة. 

كذلك ينبغي للمترجم أن يكون ناقداً إلى حد ما، أو ملما بالنظريات والمرجعيات النقدية، وتاريخ الأفكار والأدب واللسانيات وغيرها، كما يجب أن يكون متصلا على الدوام بثقافة العصر، وثقافة الكتاب الذين يترجم أعمالهم. فالترجمة ليس قضية لغة فقط، تكتب من الشمال إلى اليمين، أو العكس. هكذا فإنّ الناقد والمترجم فيَّ يجعلني أقبل على الصنفين معا، أستفيد منهما معا لخدمة النص المترجم.

 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى