أسادور مستعاداً في متحف سرسق.. نهاية الأزمنة

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

محمد شرف

بالرغم من تعدد المعارض وكثرتها في الصالات اللبنانية في هذه الفترة، يُعدّ المعرض الاستعادي للفنان أسادور، المقام في متحف سرسق، والذي يضم مئات الأعمال العائدة إلى مراحل زمنية مختلفة، حدثاً مميزاً استحوذ على اهتمام الخليقة، على اختلاف اهتماماتها ومشاربها، أكثر من أي تظاهرة فنية أخرى. ليس في الأمر ما يدعو إلى الاستغراب، فنحن في صدد فنان حفر خطوطاً عميقة في صفحة الفن التشكيلي اللبناني، منذ أواخر ستينيات القرن الماضي وحتى اللحظة الحاضرة، ولو أن حضوره في لبنان كان نادراً، بعدما آثر العيش والعمل في فرنسا منذ عقود كثيرة.
شفيق عبود كان سبق أسادور إلى «عاصمة النور»، ولم يعد منها إلاّ محمولاً في نعش، بعدما سطّر بدوره مآثر في عالم التشكيل، جعلت منه أحد أبرز فناني النصف الثاني من القرن العشرين. اختار الإثنان العمل في مدينة لا تفتقد إلى التجارب الجديدة، لا بل تفيض بها، وتزيد عن الحاجة أحياناً، ما قد يضع الفنان في دوّامة، ليجرفه تيار من هنا وآخر من هناك، لكن هذه المرحلة، وكما رأينا في حالات عديدة، تكون متخمة بالاستكشاف، إلى أن يحين وقت الخيارات الذاتية، التي لا تكون سهلة في غالب الأحيان، ويعتمد بلوغها على جهد الفنان ومثابرته.

الموهبة ودراسة الفن
ولد أسادور في بيروت، العام 1943، في منطقة برج حمود، من عائلة أرمنية، ويبدو أن بوادر الموهبة كانت تفتحت لديه باكراً، وهو في العقد الثاني من حياته. فقد كان ينال علامات مرتفعة في مادة الرسم لم يستطع نيلها أحد سواه، ما دفع أستاذه إلى الاعتراف بكون أسادور الصغير يرسم أفضل منه. تعلّم الرسم، في شكل احترافي، لاحقاً على يد بول غيراغوسيان وجان خليفة، في المركز الثقافي الإيطالي، لينال بعد ذلك منحة لدراسة الفن في إيطاليا. استمرت هذه الدراسة سنوات ثلاث، وعاد بعدها إلى لبنان ليقيم معرضه الأول في بيروت، العام 1964، وليستحصل بالنتيجة على كتابات نقدية أشادت بموهبته الاستثنائية، وذلك في زمن كانت بيروت خلاله تعيش فترة «ذهبية» في مجالات الثقافة والفن، كما يتفق على ذلك كل من عايش ذاك الزمن الآفل. على أثر هذه التظاهرة الفنية الناجحة، نال الفنان منحة دراسية أخرى، ولكن هذه المرة إلى فرنسا، لدراسة الفن في معهد الفنون الجميلة بباريس، ولتصبح هذه المدينة مقر عمله الدائم، حيث شكّل له العيش في المدينة الكبيرة مناسبة للاطلاع عن قرب على التيارات الفنية العديدة، التي طالما كانت العاصمة الفرنسية إما مهداً لها، أو مكاناً مناسباً لتطورها، نظراً لموقع باريس الثقافي المعروف، وعلاقتها الوثيقة بالاتجاهات الفنية الحديثة
الناظر إلى الأعمال المعروضة في متحف سرسق (ونعني هنا الناظر العارف في طبيعة الحال)، سيلحظ تنوعاً واضحاً في عملية التشكيل، وكأننا في صدد مقطوعات شعرية كُتبت في مناسبات مختلفة، وتعكس كل مقطوعة منها المزاج الشخصي للكاتب – الشاعر في لحظة معينة، مع ما يمكن أن تجرّه خلفها من انعكاسات إبداعية قد تختلف عن سابقاتها، وعن ما يمكن أن يخلفها. لكن الهم الإنساني كان جليّاً في أعمال أسادور، منذ البدايات وحتى اللحظة الحاضرة، ولو أن هذا الهمّ هو أقرب إلى الحلم المرسوم مقاطعَ متخيّلة، منه إلى الحقيقة. وبما أن الصور في الحلم، كما هو معروف، وكما تفيد نظريات التحليل النفسي، لا تلتزم نظاماً منطقياً أو عقلانياً، لكونها مزيجاً من إفرازات اللاوعي، كذلك حملت أعمال الفنان ذاك المزيج الغريب الذي تختلط فيه الذكريات الماضية بشعور العيش في المدن الاستهلاكية، وبأشلاء الأمكنة وشظاياها، والأشكال والكلمات والأرقام، وبكتابات تفوح منها رائحة الأساطير والحكايات. وغني عن القول إن منابع الهجرات والذكريات وبقايا الأمكنة ليست بغريبة على الفنان، كفرد من أفراد الشعب الأرمني، الذي مر بمآس وعذابات، وعمليات هجرة قسرية، تركت لديه ندوباً عميقة لم تمحها الأيام حتى اللحظة.
في أعماله العائدة إلى حقبة ثمانينيات القرن الماضي يمكننا أن نلحظ تلك العلاقة الشعورية مع أمكنة تبدو وكأنها خارجة من صفحات الأساطير، وهي مفعمة بالبحث عن لحظات لم ترد في الحلم، وعاد الفنان كي يفتش عنها في حكايات الهجرة الأرمنية، لتنعكس هذه الهواجس في لوحاته مدناً مسكونة بمشاهد الرعب الوجودي. هذه الأجواء لم تغب، في الواقع، عن أعمال أسادور في مراحله اللاحقة، وحتى في الأعمال التي سبقت الثمانينيات، والمتمثلة، مع فوارق تفصيلية في عملية التعبير، عن علاقة الإنسان بالأرض وبالمدينة، من دون الأخذ في الاعتبار الفوارق الزمنية، والفواصل القائمة ما بين الماضي والحاضر. على أن استعادة المشهد من الذاكرة، أو من الحكاية والأسطورة، كان يتم عبر إشارات لمدينة أو لحضارة، أو لأجواء ذات علاقة بالتاريخ في شكل عام، القريب منه والبعيد. هذه الاستعادة التصويرية لم يكن في إمكانها رسم الأمكنة في ذروة بهائها المعماري، بل على العكس من ذلك احتوى التمثيل التصويري مجموعة أشياء متراكمة، متفسّخة أو خربة، وكأن الفنان كان يسعى إلى تصور عالم يشوبه تكسر الأشكال، والانهزام أمام حالة الضياع الممزوجة بمشاعر الغربة والاقتلاع والهجرات، وضياع الأرض والأحلام.
وكأن قصة الهجرة التي جاءت على عقب المجازر الأرمنية لم تكف، إذ إن حرباً أخرى تركت أثراً عميقاً في نفس الفنان، ونعني بذلك الحرب اللبنانية وما التصق بها، أو نتج منها، من دمار ومآس ومجازر، فصار أسادور كمن يعيش الحكاية مرتين، مع الفروقات الموضوعية القائمة ما بين الحالتين. «تركت الحرب اللبنانية أثراً واضحاً في أعمالي»، يشير الفنان، ويتابع «كان الزمن الذي أرسمه أشبه بنهاية الأزمنة، كما لو أنني أرسم الإحساس ذاته الذي عاشته روما منذ آلاف السنين. وكما لو أننا نعيش المرحلة الأخيرة من نهاية الإمبراطوريات، لذا، فإن الشعور الذي أجسده في لوحاتي هو زمن مضطرب».
هذا الاضطراب الشعوري ترافق أحياناً، لدى أسادور، مع خيارات لونية تتماثل مع الاهتزاز والانكسار الحاصلين في الأشكال. فاللون الأخضر الذي نراه في أعماله لا يشبه الأخضر الذي يمكن أن يميّز مشهداً طبيعياً في حالة السكون والاستقرار، أو العاكس لأطياف لونيّة تتعلّق بفصل من فصول العام، بل هو أخضر صدئ، كمعدن من المعادن المدفونة في أرض رطبة. أما الأزرق فيبدو، بدوره، مجبولاً بحجارة مطمورة ومنسيّة، وكأن هذه الألوان، في شكل عام، قادمة من بقايا العصور المعدنية القديمة. «اللون الذي أثبته في المشهد، يقول أسادور، هو تعبير عن زمن مستعاد لأرض محروقة أُصيبت بالزلازل والحروب وتراكم الحضارات». بيد أن الألوان المتفجّرة لا تغيب تماماً عن أعمال الفنان، ولو أنها تُختصر في مواضع معينة، جنباً إلى جنب مع الأشكال المبهمة والمعقّدة والأحاجي والخطوط البسيطة.
وباختصار، فإن المعرض الاستعادي الغني، المقام في متحف سرسق، يشكّل مناسبة للتعرّف على نتاج أسادور في مجمله، إضافة إلى ما يشتمل عليه من أرشيف الفنان الشخصي إلى كاتالوغات ومطبوعات وصور فوتوغرافية أصليّة، ويعكس ذلك كله حياة فنان ونتاجه الذي يُعتبر جزءاً مرموقاً من الفن التشكيلي اللبناني.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى