موال للطرق المنسية ..للقاص ابراهيم سليماني

الجسرة الثقافية الالكترونية-خاص-

 

“أيـها المسافر لا تبـحث عن طريق فلإن الطرق يصنعـها المشيء”
مثـل إسـباني
ضوءٌ ضئيـلٌ لاح على أقطاب طريق مراوغ وخفوت حيـاة عجيبة صارت مدادا لرحلته.. مجبـرًا على الترحال يستعصي عليه التمـهل.. الطريق أمامه في تعرج لا تنـتهي والكون من حوله في صمت رتيب.. اللـيل الجميـل مرّ بحـصاره من بين يـديه.. غطّى التفـاصيل وتبرعم في التضاريس.. كلّ الكائنـات أوت إلى بـيوتها.. ووحـده كان مشرئبـا إلى خطى الألف حلم.. لم يؤنـس وحـدته سوى لمع البرق.. كلّمـا لاح له بـارقا سار فيه.. كبـوة المسار لم تثـقل خـطوه.. لعـلها اجترحت الصّبر لـديه أو تكون ألقـمته تميـمة الأجـداد :
صابرة عزّامة، يـا عيني كوني صابرة عـزّامة
الصبر حكمة والفرج قـدّامة يـا عيـني…
لطـالما اعتـنق ذلك واختزن بحـور الدمع في مقـلتيه لزمن يُصيّر الدمع خمرة يغتـسل بها ولا يحسوها في الأقداح، تُطهّر سواد قلبه وتُصيّر القتـامة إشراقا والكـدر نقـاوة في عسر فـاقته.
كلّـما طفـت الأحـداث في ذاكرته، بغـتة، ركل الاسفـلت بعقب حـذائه واحتمى بالأمل :
– “محسوب برّا ماعنـديش فـلوس”.
ثم لا يلبث أن يستطرد : “معلوم… الدنيـا يوم بيوم، نهيّـر شمسو لهّابة ونهار شويّـة غيوم”.
متأبّـطا أحلامه يظلّ واقـفا لثـوينيـات ومن ثمّـة يدرك الطريق… سحنة سائق سيّـارة الأجرة ما فتئـت تمثـل أمام عينـيه، أنّـى له أن ينكر أنّه انتـشله من أدنى الدرب.. أنى له أن ينكر أنه في غمرة يأسه، جزعـه وتعبه، ركنت سيارة أجرة إلى ضفة الاسفـلت ودعـاه سائقـها للركوب.. هل ينسى لحظة الزّهو وشعور الطمأنينة الخـاطف ؟ جاحـد لو ينسى، كم آمن بذلك، وما كان ليصدّق أحيـانا.
مرهقـا جـدّا كان كيانه، الروح ذابلة وجسـده بات يخـون… كلّ ذا كان ينـأى به عن باقي المسافرين.. تذهلـه الصّدف وتعبـث به الأغـاني… للسـفر أغـانيه أيضا وله أن لا يهـدأ قبل أن يتـذكر ما يحفـظه منـهـا.. ما ينسـيه تعب سـاعات مشي كثيرة.. مرّ على التعـويذات الزاهية وترنـم في عمق.. الإرث الأصيل ملأه عينيه غبطة وأنقض ظهره.. لم يشأ يوما أن يحييه، بل كان إلى حدّ العظم متشعبـا في أدق خـلاياه.
ترك الأفق وراءه يغيب والشمس تنـحدر في وله.. ترك الأشجار تجري إلى الخلف، تمرّ مرّ السحاب.. اجتـاز القرى سريعا وما انتبـه إلى خضرة الأرض ويبـاسها.. كان في بله عميم..
صوت السائق وحـده كان كفيلا بإيقـاظه وهدم أحلام الرّمـل، قصور الوهم لديـه..
– خـويا تخلّصـني.
بـدا حزينـا يداري احتـدام الخجل على محيـاه، صوته الممزوج بالحسرة كان ينتـقي مفرمداتٍ أقلّ وطأة وأخفّ احتـقانا.
– ما عنـديش…
لم يمهـله السّـائق الغضبـان كثيرا.. ركن السيّـارة بسرعة وألقـى به إلى الخارج بفضاضة.. ألفى نفسه وحيـدا، يولّي وجهه عن الأعين وعن غبـار السيّـارة تنطلق كرصاصة.
بدا كلّ شيء كحلم بغيض.. ليس شهيّـا أن يهـبط اللّيل في الشتاء، بلا نجوم في أرض قفر… وأمام درب ملـتو كأفـعوان قد تلتـهمه المخاوف سريعا..
غـذّ السير وحيـدا عازفـا مواويل الرّحيل برغم قـدميه المتعبتين. هـاله الصمت المطبق والجوّ المبرق فتيـقّن وجود بهـجة أكثر في نفسه… تحت أحد الجسور قرّر المبيت.. جمع بعض الحطب وهيّـأ نار مجلسه.. قدّم رغيف خبز بين يـديه ومثـلثات جبن صغيرة.. تـذكّر اللّيـالي الخوالي أيـام كان للكرم بعض نخوته.. قـال في نفسه “لا أمل لي بضيف هـذه الليلة”.. وهَمَّ بالأكل، غير أنّه جاء من عمق الوادي رجل جلس إلى جنبـه ولم يسلّم.. المطر النـازف زاد هيـبة اللّيل.. قـال للرجل الذي لم يأكل “لليـل وحشة وظلام ولنا أنس النار وهسهسـات الرّيح”.. بـدا أنّ الرّجل لا يهـتمّ لتـداعيـاته فاختـار الصمت.. قال في فكره : “لعل” في صمته حكمة”.
تـودّد له بسيـقارة عساها تفتـح شهية البوح فيـنام على صدر أحـجية تفر من الانقـراض.. تلقـفها الرّجل وقلبـها بين يـديه ثم سرعان ما ألقـاها في النار..
وحـدها كانت ألسنة اللّهب تعبث بالحطب اليـابس، كلما همّـت به أسْمـعتْ قـرقعات صغيرة وبعثت الدخـان… كان يدني يديـه كلّما شعر بالبرد، أمّـا رفيق ليـلته فبرنسه حتـما كان يكفيه غيـلة هـذا الطقس. كذلك خمّن الفتـى وعنّ له أن يكسر حصار الصّمت فاستـأنس إلى صوته المبـحوح..
تنــاثر صدى غنائه في الأنحـاء فكادت تـؤمّ إليه طوارق الليل… قال للرجل الذي لم يسلّـم :
– شـاركني الغنـاء
أجـابه للمرّة الأولى بصوت ضعيف مقـهور :
“يـا خيل سالم بـاش روّحتـولي
بـانا وجـوه تقـابلو قـولولي”
بـدا على سحنة الفتى بعض الرضى فكال له سؤالاً جـديدًا :
– هل تخـاف الليل مثـلي ؟
أجـابه بعـد طول صمت :
– عنـدما كنت حيّـا كنت أخـاف…
ابـراهيم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى