«المنبعث».. ماذا لو كانت الأنتروبولوجيا جوهر السينما؟

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

محمد بنعزيز

من أين انبعَثَ؟ من مملكة الأموات. من التراب والجليد وجوف جثة، بعد أن تركه رفاقه وحيداً يواجه الموت بوسائل بدائية فقط.
هكذا عاد المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو بالمتفرّجين إلى مرحلة الإنسان البدائي الوحيد في مواجهة الطبيعة. يأخذهم المخرج إلى مكانٍ معزولٍ لزيارة كهوف وعيهم، قبل إخراج الطعام من الثلاّجة.
في «المنبعث»، هناك غلاس (ليوناردو دي كابريو)، يهيم جائعاً في محيط عدواني. حين يعثر على جثة متعفّنة، يمضغ لحمها بفرح. يسكن الكهف والكوخ، ويرتعش من البرد وهو يحاول إشعال النار. يشعر المتفرّج باطمئنانٍ تامٍ، لأن غذاءه وأمنه مضمونان. لذا، يستمتع بعذاب الآخر البعيد. بدهشةٍ، يكتشف الضرورة الحاسمة للأكل. يتعجّب وهو يرى محنة الإنسان البدائي مع الموقد والمسكن، وهو في حالة فرارٍ دائم. في فراره هذا، يمشي مع التيار مثل الماء، ليبقى حيّاً. هكذا يستخدم غلاس قوى الطبيعة لمصلحته. مع مرور الزمن، روّض الإنسان الوحوش، لكنه لم يتمكّن من ترويض الوحش الراقد داخله.
لترويض الوحش الداخلي هذا، يقف غلاس على إله الهنود، ويسترجع معنوياته تحت جرس الكنيسة الخربة. ولكي يربط المخرجُ الماضي بالحاضر، ينبعث غلاس من جثة رمزية: يُحكى أن الموت جاء يستأذن قارون قبل أخذه، فطلب منه مهلة يوم. حين جاءه، وجده في جوف حصان ميت. لكن الموت اقتحم الرائحة الكريهة، وأخذ روح قارون من وسط العفونة.
في الفيلم، يقفز حصان غلاس في أخدودٍ، ويموت. يمزّق أحشاءه، ويدخل جوفه، مستفيداً من الدفء. في الصباح، ينبعث حيّاً. هكذا يستخدم المخرج حكاية قديمة في سياق جديد.
ماذا عن الفن في الفيلم؟
سرديّاً، لم يقع إيناريتو في مبالغة كوانتن تارانتينو. بطله خيرٌ من «الصعاليك الثمانية». هناك وحدة بصرية كبيرة في «المنبعث»، مع تنوّع فضاءات الغابة، لكي لا يسبِّب بياض الثلج الملل. تمّ التصوير بعيداً عن الشمس، لذا غلبت الكاميرا ضوءها. تمّ التصوير أيضاً من دون إضاءة اصطناعية. تمّ التصوير نهاراً فقط. هكذا، أتيح للكاميرا أن تتحرّر من التركيز على المكان المضاء. لذلك، استخدم المخرج كاميرا محمولة كثيراً، فضمنت له سيولة اللقطات وتواصلها. أحياناً ـ بهدف تقليص دور المونتاج ـ يقطع اللقطة على بياض الثلج أو سواد فروة البطل، ثم يستأنف التصوير بالتركيز على الفروة، قبل تغيير وجهة الكاميرا، فتبدو اللقطتان كأنهما واحدة. بهذا، فاز الفيلم بجائزة «أوسكار» في فئة أفضل صورة، بالإضافة إلى فئتي أفضل إخراج وأفضل ممثل (ديي كابريو)، في دور أميركي أبيض متصالح مع الهنود الحمر، وعدوّه أبيض آخر.
لينتقم. هو لا يوافق الهندي الذي يعتبر الانتقام شأناً إلهياً. الهندي صاحب الشعار مخطئ. لذا، قُتل، وكتب قاتلوه على جثته «كلنا متوحشون». هل يستوي القاتل والمقتول في التوحش؟ يطارد غلاس عدوّه بالساطور، لأن الانتقام عن بُعد لا يشفي الغليل. حتى الجبناء يمكنهم الانتقام بالمسدس، الذي سبّب تحوّلاً كبيراً في طبيعة الحروب. «دون كيشوت» سيرفانتيس (1605) يُدين استخدام البارود، لأنه مكّن الجبناء من القضاء على الشجعان. بدّل المسدس مفهوم الشجاعة. زاد من المسافة بين الجندي وعدوّه. قلّصت التكنولوجيا الحربية من أهمية عامل الشجاعة في الحرب. بينما يحتاج المتوحّش الكامن في الإنسان إلى انتقام بدائي بالسكين والساطور (هذا ما أدركه كوبريك في فيم «بريق»). كان للون الدمّ على الثلج حمولة جمالية، تقنّع فعل القتل الشرس. ستبقى اللقطة في ذهن المتفرّج الآمن. لن يتذكّر فيلماً تكون مقدّمته أفضل من خاتمته.

 

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى