«ألف نون» أول صالة بعد الحرب.. ألغاز نباتية

الجسرة الثقافية الالكترونية

سامر محمد اسماعيل

تجاهلَ اتحاد التشكيليين السوريين بزوغ أول صالة خاصة للفن في بلادهم؛ بعد ما يربو على خمس سنوات من حربٍ أغلقت معظم محترفات التشكيل ومتاحفه الصغيرة والمتوسطة في العاصمة دمشق.
التجاهل الرسمي لم يثنِ كلاً من الفنانين بديع جحجاح وفؤاد أبو عساف وسراب الصفدي عن إقامة معرضهم المشترك «جدل ثلاثي»، (غاليري ألف نون 26 آذار- 15 نيسان) مستعيدين ألق المحترف السوري النازح إلى صالات الجوار؛ فعبر ما يقارب مئة عمل تنوّعت بين النحت والرسم بالزيت والأكرليك، جاءت هذه الفعالية على مقربةٍ من ساحة «الشهبندر» التي لطالما ضمّت مؤسسات فنية عريقة تراجع دورها في سنوات الأزمة من مثل معهد «أدهم إسماعيل للفنون التشكيلية» ومرسمي «ناجي العلي» و «مصطفى الحلاج».
«الإنسان غلطة والعالم خُلق للأشجار». هكذا استعاد الفنان بديع جحجاح قول الشاعر الإسباني «ماكس أوب» في لوحاته «شجيراتي» التي اعتبرها بمثابة استراحة للدرويش الذي عمل عليه كرمز صوفي وكمفردة كونية في مشروعه الفني السابق «دوران – مشروع تفكير»، حيث تتوضح في أعمال هذا الفنان تلك الرغبة في ابتكار غاباتٍ لونية تتخلق فيها الإشارة من تجاورات البرتقالي والأزرق وتدرجات الأرجواني والأصفر؛ مبرزةً إحالاتها اللونية تلك على اللحظة الوجودية التي ينشدها «جحجاح» كخلاص من عبودية الشكل ونزقه؛ فلا أشكال إلا ما يمليه هوس الفنان وتوقه للانعتاق من مفردات تمّ اجترارها في تجارب سابقة.
نباتية اللون عند «جحجاح» تركت جسراً للتواصل مع حجارة البازلت لدى الفنان «فؤاد ابو عساف» الذي غدا اليوم من أبرز المشتغلين على كتل نحتية تستلهم الأسطورة لكنها لا تكررها، بل تصبها في سياقات جمالية جديدة؛ جاعلةً من القطة والعصفور والسمكة والمرأة «أحلاماً من حجر». ألغازٌ يفككها الصخر البركاني ويرصفها كشريط من رُقمٍ حجرية تنهض ارتفاعاتها الصغيرة والمتوسطة على سطوح ليّنة واختزال لافت لكائنات تلتمع أجسادها الخفيفة في تقمصات حيوانية مدهشة؛ حيث لا أثر لضربات الإزميل على جسد المنحوتة؛ بل تآلفٌ يعكس ضجيج المثّال وغليان عالمه الداخلي؛ ونزوعه إلى جعل الفضاء أكثر تجريداً من حوله؛ وصولاً إلى رنين للكتلة المنشودة في ذاكرة المتلقي إذ تقول له: «كيف عرفتَ أنني داخل تلك الصخرة؟».
هذا العناق بين التصوير والنحت ترك المساحة لنساء «سراب الصفدي» بمثول تشكيلي بين الشجر والبازلت؛ عبر لوحاتٍ حملت طابعاً تسجيلياً عن المرأة السورية في ظل الحرب؛ متقمّصةً بألوانها الترابية دور الزوجة والعذراء والأم؛ لتلتقط ريشة هذه الفنانة مشاهد الهجرة وحقائبها وموت الطفل إلى جانب دميته على أرصفة الشوارع وفي ثلاجات المشافي العامة. صدامية عالية ونقلات دامية بين الكوادر الملتقطة للضحايا الصغيرة، تخبرنا «الصفدي» عبرها عن الحصيلة الفعلية للكارثة؛ فالأطفال الموتى الملفوفون بأكفانهم القماشية، والنسوة المرتجفات في عراء الدم والخراب تكاد صرخاتهم تنفر من سطح اللوحة بقمصانهم المدمّاة وأيديهم الصغيرة المطوية داخل أضرحتهم الصامتة.
هذه المبادرة في انحيازها إلى «الفنون الروحانيات» – كما يُخبرنا ملصق المعرض – تبدو اليوم أكثر شجاعةً في المجاهرة والبوح نحو تجاوز آثار الكابوس على المحترف التشكيلي للبلاد؛ بعيداً عن معارض «خان أسعد باشا» السنوية؛ فثمة من يريد أن يشطب حسابات السوق والسياسة لمصلحة الحياة.

 

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى