الجنوبي المصري المهزوم يبحث عن «باب رزق»

محمد السيد اسماعيل

لتنوع هو السمة الواضحة في أعمال الكاتب المصري عمار علي حسن الروائية، فهو لا يتوقف عند نمط إبداعي واحد، بل جرَّب توظيف كرامات الأولياء والمتصوفة، صانعاً بذلك ما تمكن تسميته بالعجائبية العربية. وكتب الرواية السياسية، ولا سيما بعد ثورة 25 يناير. ومع ذلك يظلّ لدى حسن ملمح أساسي يُميّز أعماله، ويتمثّل في تصوير حياة الفقراء والمهمشين، سواء في القرى أو المدن. بدأ هذا الجانب بالظهور في أعماله الأولى، وها هو يعاود الظهور بقوة في روايته الأخيرة «باب رزق» (نهضة مصر). والعنوان يوحي بدايةً بتعدّد أشكال السعي إلى الرزق، والتي يقوم معظمها على التحايل الذي لا تملك الطبقات المعدمة سواه.
يرحل بطل الرواية، رفعت عبدالحكيم، من جنوب مصر إلى القاهرة بغية إكمال دراسته ما بعد الجامعية في محاولة للارتقاء بمستواه الاجتماعي، فيضطر إلى السكن في منطقة شديدة الفقر تسمى «تل العقارب»، وينكب على الكتب، وعِشق سميرة، ابنة صاحب البيت الذي استأجر إحدى غرفه. وتبقى سميرة هي الاستثناء في واقع قبيح، ولعلّ بيعها الورد للعشاق يوحي بذلك، فتبدو للسارد طيفاً جميلاً عابراً على نحو ما يظهر في قوله: «رأيتها ومددت يدي لأقطفها في لهفة وافتتان نافخاً في لحظاتي البسيطة معها لتصير وكأنها عمراً بأكمله» (ص36).
هذا التعلق الذي بدأ روحياً سيتحول إلى علاقة حسية بفعل المكان العشوائي المفتوح، حيث تتكشف خصوصيات بيوته، الأمر الذي كان يشعل رغبة السارد في الإشباع الإروتيكي، وهو ما يضعنا أمام نمط البطل الإشكالي الذي يرغب في تجاوز هذا الواقع البائس. لكنه يظلّ واقعاً في أسره وتحت وطأته، سواء عن رغبة في البداية -بسبب وجود هذه الفتاة- أو رغماً عنه في نهاية الأمر، حين تدبر الأسرة كلها –بالخديعة– أمر زواجه منها بعد اعتداء سعد سلطة (بلطجي المنطقة) عليها.
وتتعمق إشكالية هذا البطل في عشقه الفلسفة التي يراها أبناء بلدته شيئاً عديم القيمة والجدوى، ويراها عبدالشكور –والد سميرة– نوعاً من الفذلكة. ولا شك أن هذا راجع إلى النظرة التقليدية لرجل الفكر العائش في تجريداته وبرجه العاجي، وهي النظرة التي غيّرها أحد أساتذة الفلسفة حين شرح للسارد وزملائه «فلسفة التحايل» على الرزق التي تميز المصريين.
وعبر إسقاط هذه الفلسفة على أسرة عبد الشكور، سنجدها شديدة التطابق، فأبو عوف –أحد أبناء عبدالشكور– يصف تحايله على الأثرياء بقوله: «أثبِّتهم لكن بطريقة محترمة»، حين ينافقهم ويداعب كبرياءهم الزائف حتى يأخذ «جزءاً قليلاً مما في جيب من يقصده وهو راض» (ص21)، ما يعكس الحس الطبقي الذي يتم التعامل معه بالتحايل لا الصراع، فالصراع كما تعكسه الرواية يتم داخل هذا المجتمع الفقير المهمش الذي يتسلط عليه «سعد سُلطَة» –ولنلاحظ دلالة الاسم– وعصابته التي تأتمر بأمره وتثير الرعب في الجميع بتواطؤ من الحكومة التي تأخذ من سعد «ثمن سكوتها عن كل ما يفعله». ويلخص السارد هذه المفارقة بسخرية مريرة حين يقول: «رجال شرطة يبلطجون وبلطجية يحكمون… سيان». فنحن أمام طبقة تتآكل من داخلها ويحكمها قانون القوة في ما بينها، وقانون التحايل في علاقتها مع الطبقات الأخرى التي مثَّلتها أسماء، زميلة رفعت في الجامعة وابنة أحد الأثرياء، وهي جميلة الجسد والعقل، كما يصفها السارد، الذي رآها جديرة بأن تكون حبيبة فيلسوف. وعلى رغم بارقة الأمل التي أعطتها أسماء له بأن يجد عملاً عند أبيها بعدما سُدَّت أمامه أبواب العمل في الصحافة، فإن الأمل سرعان ما يتبدد حين ينكشف أمر تسوله أمام زميلة جامعية. وهو ما يعني استمرار وقوعه في أسر هذه الحياة التي اختارها عبد الشكور له حين عمل منشداً في الموالد، وتحول بذلك إلى متسول صريح.
منطق عبدالشكور هو الذي يتغلب في النهاية، على رغم محاولات السارد في الهروب منه. ويمثل الزواج الذي تم بالخديعة، رباطاً دفعه مضطراً إلى ضرورة الاستجابة حين امتدت يد عبد الشكور بمبخرة مكتوب عليها «ومن شر حاسد إذا حسد»، قائلاً له –في نهاية الرواية–: «اسع على رزقك».
ومما سبق، يتضح توزع شخصية البطل بين طبقتين استطاعت الدنيا أن تقيد تطلعاته وتأسره داخلها. وتمثل سميرة وأسماء رمزين لهاتين الطبقتين، وتوحي النهاية بانسداد أفق الحراك الاجتماعي الذي كان التعليم وسيلته الأساسية. وظلت حياة رفعت أشبه بحياة «طائر جائع حبيس يرى الحَبَّ أمامه أكواماً لكنه عاجز عن الذهاب إليه». ويأتي التضمين مؤكداً هذه الفروقات الاجتماعية الحادة بين أناس يعيشون تحت خط الجوع، وآخرين يهرولون إلى سياراتهم الفارهة. هذه الحالة يؤكدها قول المتنبي: «نامت نواطير مصر عن ثعالبها/ فقد بشمن وما تفنى العناقيد». وهي آلية مستمرة على مدار الرواية. ويعكس تضمين بعض المدائح النبوية والآيات وتاريخ بعض الأماكن جانباً من شخصية السارد، لكنه يظل –شأنه شأن الجماعة التي يعيش بينها– يتحايل على إشباع احتياجاته الأساسية ورغباته المكبوتة ولو من طريق استراق السمع أو التلصص.
ولا تختلف حياة البطل في قريته الجنوبية عنها في مكان إقامته في القاهرة، ونفهم ذلك من خلال تقنية الاسترجاع: «أنا في قريتي الراقدة بين الجبل والماء تتحسس صدرها الضئيل تحت الشمس البهية. لي أصدقاء قليلون وأعداء كثيرون جداً، بحكم ما أتيه به عليهم». وما يتيه به هو حب الفلسفة والمعرفة التي كان من المفترض أن تكون الوسيلة الوحيدة للارتقاء الاجتماعي، لكنها أصبحت في مثل هذه الأماكن سبباً في اغتراب أصحابها ومعاناتهم إلى الدرجة التي يمكن أن نقول فيها إننا إزاء شخصية مهزومة لم تستطع أن تهرب من قدر المكان أو ترتقب فوقه.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى