حليب أسود لآليف شفق…للكاتبة لنا عبد الرحمن

خاص (الجسرة)

تبدأ الكاتبة التركية أليف شفق كتابها ” حليب أسود” بالحديث عن زلزال هز اسطنبول عام 1999، وانطلاقا من مشهد الزلزال الذي اعتبرته الكاتبة من ضمن أكثر مشاهد حياتها تأثيرا تمضي في ذاكرتها، أو تحديدا تشرع في فتح بوابات التساؤل عن الحياة والكتابة، والواقع بينهما. لكن ما علاقة الزلزال بمثل هذه الأسئلة، ربما لأن شفق ترى أن كتابة القصص، أو الرواية الجيدة قادرة على أخذنا من مناطقنا الداخلية التي أصابها عطب ما سواء عبر زلزال واقعي أو متخيل، وهذا ما تسعى إليه شفق كتابة عمل روائي ممتع وجذاب، فيه نوع من العمق لا يغيب عنه الرغبة في الانتشار والوصول لأعلى نسبة من القراء.
يمكن القول عن كتاب أليف شفق ” حليب اسود” المصنف ضمن المذكرات بأنه يناقش صراع فكرة الأمومة والكتابة، من وجهة نظر كاتبة أرادت التفرغ طوال عمرها للكتابة فقط، وترى أن أي حياة اجتماعية أو أسرية كفيلة بتحطيم الصورة المثالية عن حياتها ككاتبة. المتابع لأعمال شفق الروائية يلاحظ ان الأجواء الأسرية تشغل حيزا كبيرا منها، ولا يبدو أبطالها متوحدين أو متفرغين لذواتهم، بل على العكس ثمة تفاعل كبير مع المجتمع، وحاجة للاندماج الأسري تتمظهر في مواقف بطلاتها بشكل عام.
في “لقيطة أسطنبول”، تناولت شفق حياة أسرتين، واحدة تركية، والأخرى أرمنية، أحداث الرواية تبدا مع ” زُليخة” التي تنتمي لأسرة تركية محافظة لكنها حملت بطريقة غير شرعية، وفكرت في اجهاض الجنين لكنها تراجعت في اللحظات الأخيرة بعد أن دخلت عيادة الطبيب وكانت على وشك الإقدام على قرار صعب، لا تلبث أن تلغيه تماما لتنجب طفلة تتربى وتكبر وسط جوقة من نساء العائلة. ولعل اللافت للانتباه أن أليف شفق كتبت لقيطة أسطنبول قبل أن تنجب ابنتها الكبرى ” زيلدا” ، وتعرضت وهي حامل للمحاكمة بسبب بعض الجمل الواردة في الرواية التي اعتبرها الأتراك أنها تدافع عن الأرمن وتدين أهل بلدها.

أما روايتها الأشهر ” قواعد العشق الأربعون”، التي راوحت بين زمنين، القرن الثالث عشر، والقرن الواحد والعشرين فإن شخصية البطلة المعاصرة إيلا، تجسد الأم المتفانية في تقديم السعادة لأسرتها، وتغاضيها عن أسباب تعاستها الشخصية لسنوات طويلة، حتى حدوث تحول كامل في حياتها بعد عملها كقارئة للكتب في احدى دور النشر، ثم قراءتها لرواية ” الكفر الحلو” التي تتناول حكاية جلال الدين الرومي مع شمس الدين التبريزي، وهنا تبدأ شرارة الأسئلة والرسائل المتبادلة مع كاتب الرواية، ثم مشهد دراماتيكي مضطرب، حين تجهز إيلا الغداء لأسرتها، وتغادر البيت بهدوء لتختار حياة أخرى مختلفة عما عاشته، هنا لا تبدو اختيارات إيلا منسجمة مع المساق العام لشخصيتها، إيلا التي بدت شخصية نمطية على مدار الرواية، تنقلب حياتها بشكل غير منطقي ولا يقدم اشباعا للقارئ.

في العودة للحديث عن “حليب أسود”، حيث اعتبار الكتاب يتناول مرحلة اكتئاب ما بعد الولادة ليس دقيقا تماما، بل يمكن القول أن البؤرة الحقيقية لما أرادت شفق قوله في “حليب أسود” ينقسم إلى مرحلتين من حياتها : الأولى ترتبط بما سبق قرار الزواج والإنجاب، مرحلة حافلة بالتساؤلات والانشطار الذاتي الذي لا توارب عن كشفه قائلة : ” ربما تعيش كل امرأة وفي داخلها حريم صغيرات..مر وقت لا بأس به قبل أن أتعرف إلى حريمي الست الأنمليات وأحبهن، وهذا الكتاب هو قصة مواجهتي لتعددي الداخلي وكيف تعلمت أن أتحد وأصير واحدة”.
أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة ما بعد الإنجاب ومواجهة اكتئاب الولادة وتبعاته، وهذا الجزء يشغل الثلث الأخير من الكتاب بدء من الفصل المعنون بـ ” أنتِ ولورد بوتون”. إن صراع الاكتئاب الثلاثي الأبعاد الذي عانت منه شفق لم يمنعها من رؤية إشراقات الأمومة وتأثيرها عليها، فبعد إنجاب طفلتها الأولى بثمانية عشر شهرا أنجبت ابنها ” الزاهر”، تقول : ” في كل شيء كتبته وقمت به كنت ملهمة بزيلدا وزاهر، بجماليات الأمومة وصعوباتها”. لعل الثلث الأخير من الكتاب الذي يتناول الاكتئاب وكان من المفترض أن تقدم فيه شفق تجربتها الواقعية
الدقيقة، إلا أن التفاصيل تغيب عن أكثر المناطق إثارة للتساؤل والجدل، ويحل مكانها سرد عابر لا يستوفي ما طرحته من تساؤلات في بداية النص.
تكتب أليف شفق بسلاسة، وبروح حكاءة مرحة وخفيفة حتى في أكثر المواقف مأساوية، تصر على الاحتفاظ بالحكاية الأصلية مع دمج ثقافي واجتماعي لكثير من التفاصيل الأدبية والحياتية، ولعل هذا ما يميز كتابتها ويجعل رواياتها ترتحل عبر العالم، وتحقق مبيعات أعلى، لكن بالتوازي مع هذه المميزات الأدبية الناجحة والجماهيرية، يظل نصها الأدبي منقوصا في تسطيح كثير من المواقف والحالات الإنسانية، وهذا لا يتبدا عند القراءة، بل عقبها، مع الشعور بوجود فراغات كثيرة كان لابد من مَلْئها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى