ويليام فولمان يهدم تاريخ أميركا الحديث

أنطوان جوكي

لا نبالغ إن وصفنا الكاتب ويليام ت. فولمان بـ «سيزيف» الأدب الأميركي نظراً إلى إثباته قدرة نادرة على دحرجة كتب ضخمة كثيرة أمامه، نذكر منها «مركز أوروبا» (832 صفحة) وخصوصاً «كتاب العنف» (800 صفحة) الذي هو نسخة مختصرة من كتاب «الارتفاع إلى الأعلى والارتفاع إلى الأسفل» الذي يتجاوز 3300 صفحة وتطلّب من الكاتب 25 عاماً من العمل والطوفان في مناطق مختلفة من العالم لإنجازه.
طالب جامعي سابق في جامعة «كورنيل»، أوقف فولمان دراسته عام 1982 للالتحاق بالمجاهدين الأفغان والكتابة عن نضالهم («عرض مصوّر عن أفغانستان، أو كيف أنقذتُ العالم»، 1992). ولدى عودته إلى وطنه، تسجّل في جامعة «بيركلي»، قبل أن ينطلق في العمل كمبرمج في شركة كمبيوتر ويسهر معظم لياليه في مكاتب هذه الشركة للكتابة. هكذا تمكّن من إنجاز روايته الأولى «أنتم، أيها الملائكة المتألقون والمنبعثون أحياء» (1987) التي وضع فيها أسس عالمه الروائي. رواية ضخمة (750 صفحة) صدرت أخيراً ترجمة فرنسية لها عن دار «أكت سود» الباريسية، أنجزها الكاتب الفرنسي كلارو، وتشكّل رائعة أدبية وفيها يخلط صاحبها أساليب وأنواعاً أدبية مختلفة، وخصوصاً بقراءته الملحمية الفريدة لتاريخ أميركا الحديث.
العنوان الأصلي لهذه الرواية يتضمن كلمة «كارتون»، وصحيح أن نصّها الملهَم بقدر ما هو جنوني، المتعِب بفيضه بقدر ما هو مثير، يستحضر، بطبيعته والقصة المسرودة داخله وطريقة سردها، الرسوم المتحركة أو ألعاب الفيديو الحديثة أكثر منه روايات الخيال العلمي. وفي هذا السياق، نشير أولاً إلى أن ثمة راويين: الكاتب وشخصية غريبة وكلية القدرة تدعى «بيغ جورج». راويان يتنافسان على مرّ الصفحات على سرد حربٍ شعواء يتواجه فيها طرفان: طرف رجعي يعمل على نشر الكهرباء والتقنيات الحديثة في مختلف أنحاء المعمورة بهدف إحكام سيطرته على العالم، ويقوده ملياردير كلي الحضور يدعى السيد وايت ويتمتع بنفوذ كبير في دوائر السياسة والعسكر والمال، وطرف يتمثّل بحشرات ذات ظاهر بشري تعمل أيضاً على احتلال الكرة الأرضية بقيادة خنفسة عملاقة وبمساعدة بعض الأشخاص الثوريين. لكن السلطة الحقيقية في هذا العالم، الذي يستحضر إلى الأذهان عوالم جيروم بوش وويليام بوروز ودايفيد كرونونبرغ، يمسك بها طرف ثالث هو عبارة عن كائنات غريبة تدعى «الكريات الزرقاء».
نقطة الانطلاق الهلوسية هذه للرواية سمحت لفولمان بخطّ فصولٍ غنية بالألوان وبصقل استعارات سياسية منيرة حول وضع أميركا وعالمنا ككل. لكنّ هذا لا يعني أن كل الوسائل والمناورات الخيالية والأسلوبية التي استعان الكاتب بها لوضع هذه الرواية ناجحة كلياً، فالمظاهر الفظة لبعض الشخصيات تخنق أحياناً الانفعال والإثارة فيها، وبعض المقاطع والصفحات زائدة عن الحاجة، والمواجهة بين الراويين توقع القارئ أحياناً في حالة التباس وضياع. ومع ذلك، نستشفّ في هذا النص الأول لكاتب في سن السابعة والعشرين قوة ابتكارية مذهلة وغنى سردياً ينبئان بتلك الخصوصية التي نستشفّها في روايات فولمان اللاحقة، ونقصد تلك القدرة الفريدة على تشييد نصوصه على شكل «دغل» يغرق القارئ حتى العنق في وحوله، منذ الصفحة الأولى، ولا يجد وسيلة أخرى لتخليص نفسه إلا بالمضي حتى الصفحة الأخيرة… البعيدة دائماً.
وفي هذه الرواية تحديداً، ينتظرنا سفرٌ مدوخ في أدغال أميركا الجنوبية ومناطق ألاسكا الجليدية وسهول وسط أميركا وشوارع سان فرانسيسكو، حيث نتابع على مدى قرن من الزمن تلك الحرب بين الرجعيين والثوريين التي يدير معاركها الرهيبة السيد وايت، وهو نموذج كاريكاتوري للإنسان الأبيض المهيمن والعنصري والإمبريالي والمحافظ والمبغض للنساء، بمعاونة دكتور دودجِر الذي يعمل على ملء أسواق العالم بابتكاراته التي لا تحصى، المعيبة والمضرّة، بدءاً بالمكانس الكهربائية، مروراً بالبوظة، وانتهاءً بالأسلحة المتطورة وآلات التعذيب.
باختصار، بشرية بشعة تبدو سجينة ملامح ومُثُل كاريكاتورية داخل نص لا يتبع أي قاعدة ولا يحترم أي حدود أو منطق. وبالتالي، على القارئ أن يبقى حذراً ويقظاً طول الوقت، فـ «الدغل» الذي يتقدّم داخله قادر على ابتلاع السفن التي تعبر أنهاره، وأفاعيه «المرصّعة بنماذج زهرية زرقاء» قادرة على عقد هدنات مع التماسيح حين تتطلب مصلحتها ذلك، وفي المياه العكرة والنتنة لمسابح المدارس التي لا قعر لها تتحرك غواصات وأسماك قرش خطيرة…
وفي حال أضفنا الشخصيات المؤثّرة أو الرهيبة أو غير المحتملة الغزيرة التي ينافس الراوي «بيغ جورج» الكاتب في فن التلاعب بمصائرها، والاقتباسات السياسية التي تتصدر كل فصل، والفهرس المغشوش الذي تمتد داخله عملية السرد، والرسوم التي تتخلّل النص… في حال أضفنا كل ذلك، لتبيّن لنا بعضٌ من ثراء هذه الرواية الذي يصعب محاصرته ويكمن أيضاً في تلك اللغة الدقيقة والملوّنة والمتعددة الأساليب التي تتنافس صورها ومجازاتها الكثيرة على إثارة حواسنا.
وفعلاً، حرّك فولمان لكتابة هذا العمل كل الترسانة التعبيرية: مفردات مألوفة أو علمية، بوح شفهي، جُمل نارية مُسكِرة في تأنّقها، حكايات فولكلورية، الدراما النفسية، وأحياناً مشاهد ملحمية على طريقة أفلام الويسترن. وهو ما يمنح نصّه طابع سديمي يفيض عمداً بالكلام والثرثرة من أجل تصوير تلك الأرضية التي انبثقت أميركا منها. بعبارة أخرى، يمسك الكاتب بوطنه «التنين» من ذنبه، في هذا النص، ويدهس كليتَيه لإفراغه من وحشيته. ولذلك، علينا أن نتقبّل ونتآلف مع نثره المتعِب بترسّباته وطابعه الاجتياحي كي نقدّر قوته ونتمتّع بالدوّار الناتج حتماً من قراءته.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى