“بيت العنكبوت” أدونيس بين المأزق والأفق

عبد الحفيظ بن جلجولي

رسالة إلى الصديقين أحمد دلباني وعبد القادر رابحي.
قرأت مقال الأستاذ دلباني بروية كما قرأت رسالة الدّكتور عبد القادر رابحي، ولعلّني جعلت ممّا أفاضا في التّعبير عنه بعد صدور كتاب أدونيس “الإسلام والعنف”، كلّ من وجهة نظره أفق الدّراية في قراءة الأفق الأدونيسي الذي هو الآخر يشهد أفوله كما كل النّهايات في “البيت العربي” الخرب في سقفه التّفكيري، أدونيس بكى على مشارف النّهاية لأنّ كل أصدقاءه رحلوا ولم يبق سواه في مواجهة سؤال التخلف والتقهقر العربيّين، لكن هل كل ما ذهب إليه أدونيس استطاع أن يفكّك به ورطة “الجلاّد” في تكريسه لـ”ميتافيزيقا” السّوط؟
أدونيس يمتلك رؤية شعرية للعالم تنفر من تحديد السّقف الذي يخرّب فيه نسق الشّعر أبنية العالم والتّاريخ والواقع، وخلال هذا المعراج الشّعري تأبّط إيديولوجيا كان على الدّوام يستنكرها على من ينتقدهم، ترتبط باليقينية، أي يقين الاعتقاد في علاقة التخلف بثبات النص، وبالتّالي إحالة كل مظاهر الارتباك في المشهد العربي إلى ارتباط العقل بسلفية التفكير، أي تَحكّم منظومة النص في أركيولوجيا التّفكير والنّظر في الطّارئ على الحياة المتجدّدة على الدّوام والصّائرة إلى نهايات أكيدة.
لقد قدّم الأستاذ أحمد دلباني قراءة في كتاب أدونيس الأخير “العنف والإسلام”، والتي لا شك وأنّها لامست الجوهري في رؤية أدونيس لــ”بيت العنكبوت” المليء بالفتنة، وناقش أدونيس في حفرياته لمسألة العنف وارتباطه بعقيدة ما، وأضاء الأستاذ رابحي الجوانب التاريخية في انتقال الأوربي ما بين مطارق العنفية في المركزيات المغلقة، وسندانات التوجّه التي تفرض على الموضوعية الغربية في أحايين وجوديتها هامش الانسياق خلف حراسة التّنوير وقلاع “المركزية”.
هل نتّفق أم نختلف حول الموضوعة الملتبسة في تحديد كينونة الأدونيسية ومركزها بالنّسبة لنقد النّسق الإسلامي في ارتباطاته “الماضوية”؟ يبدو لي أنّ النّقاش الدّائر ليس مردّه إلى الاختلاف وإن كان جذره الرّئيس، ولكن جوهره يكمن في ترميم فجوة الفراغ الرّؤيوي، لأنّ أدونيس يبقى ككينونة عارفة تعالقت شروطها بالعقل وامتدّت رؤاها نحو “فتنة” التطهر على مشارف الجسد المتطاير، وهي لحظة ولاشك أنّها أخذت من جهد العقل ما حاول به أن يفسّر اللحظة العنفية بكل تجاوزها للمنطق، ولكن أيضا بكثير علاقتها بالواقع المعقّد وشبكات الخيبة في أنطولوجيا الكينونة المبعثرة على قارعة الشّتات الوجودي والمأساة الحضارية، ولهذا فالقراءة السوسيو- ثقافية التي وردت في تحليل كل من الأستاذين أحمد دلباني وعبد القادر رابحي تخرج عن كونها مجرّد اختلاف، لتندرج في هامش استدراك العقل للحظات تراجعه وانتصارا للفعل المعرفي في أفق الدّراية النّقدية التي تمهّد للاستمرار ونبذ القطيعة وفتح أقواس السّؤال عند المفاصل الحسّاسة للسّيناريوهات الحاسمة في مسلك الوجودية الإسلامية.
ضمن هذا المسلك الرّؤيوي ألا يليق بنا كأمّة، أو كوجدان إنساني يمتلك عراقة المسلك الحضاري وأشواق الكفاية في رسم مدار المخيال التّاريخي أن نفكك العلاقة المرتبكة بين المفكر والنص أو “المدوّنة النّاجزة” بتعبير أركون، لماذا يسقط العقل العربي في متاهة الانحراف عن ملامسة النص بالعيون “الأندلسية”؟ إنّ البيت الأندلسي بما يمتلك من جمالية التّخطيط العمراني يحوز أيضا عقلانية الرّأي في تسطير طرائق الرّشاد داخل منظومة النص، فسقف القراءة ليس حكرا على نسق معيّن بل هو ملك الطلائعية القائمة بذاتها والمحكومة بنسق الرّاهن والواقع، لكن لماذا لم يتوجّه العقل إلى منظومة النص والاستدلال بعلاماتها وقراءة أفقها الدال على حيوية البناء في مستوى من المستويات الوجودية المزاحمة للحراك الكوني والعولمة النّاقصة والتّائهة في أفق التّعايش؟
إن الغربي بامتلاكه ذريعتي النّهضة والتّنوير، أحال الفكر المغاير إلى هامش الاختلاف النّاقص في الكينونة واحتكر النّسبة إلى التاريخ، فكانت الهيغلية تأبين للأمم الأخرى في تابوت “اللاتاريخ”، وكان الغرب بعنفيته الضّارية يمثّل امتلاكا حقيقيا لوعي فانوس التاريخ والتحضّر الأنيق، نفيا لكل تحضّر آخر مختلف غير أنيق، ويصبح المنعرج الحاسم في الرّؤية الغربية للكينونة المختلفة ليس مناطه الاحتكام العقلاني للميراث التّاريخي، بقدر ما يعود إلى الرّؤية السّالبة للمعيار الوجودي ذاته، فالوجود محكوم برؤية تستند إلى نص، وبدونه تصبح الشّفاهة تعبيرا عن وجود هلامي ينكسر عند عتبة التوثيق، والتّوثيق لا يرسم سوى مناطق الفهم ومن ثمّة التّفاهم بين الكيانات الوجودية الحاملة لهويات الاختلاف وفضاءات التعدّد، والهوية النّاقصىة تتشبّث بمركزيتها حالمة بأفق التميّز الأسطوري منغلقة في نصّياتها المظفرة.
إنّ العقل المدمج في حلقة المعرفة المتحرّرة من المسبق والدال على التّعالي المركزي تنتصر لشكل التّوادد الحالم بمنتدى اللقاء في فضاء “تاريخ تضامني” وتجعل من “الخطيئة التاريخية” دافعا إلى مرحلة اللجوء الفكري في ضفاف المدى الخالص للعقل والرّوح المندفقة من حلم الشّرق ومرجعياته المخيالية والنصية، فليس هناك في الشرق فقط تلك الكلمة المكلومة وذلك الشّرخ الواسع المفضي إلى هوّة السذاجة والشّعوذة الحابلة بالأسطوري، وإنّما هناك أيضا زمنا منتشيا بالكلمة الدالة على نص مختلف يتأسّس عند ضفاف العقل المدمج في حلقة المعرفة المتحرّرة، وتلك أزمة الغرب التي تكشف عن ازدواجية في التّعامل مع الشّرق الدّافئ.
العقل المتحرّر لا يرى في النص المؤسّس “نصّا عنيفا جدّا” لأنّ الأفق الإنساني المشترك والمنتج “للأندلسية” النّاتئة في الوعي الضال تعيد زمنها المنتصر وتحرّك في التّاريخ شهوة اللقاء المفقود مع النص، باعتبار أنّ النص المسيحي أفضى إلى انغلاق مأساوي على العزلة والانتحار الاجتماعي والثّقافي والسياسي، وهو ما جعل الأفق الإسلامي والإنساني في بعض مستوياته يستطلع وفق أدوات تاريخية وجمالية تتمّات الوجود النّاقص في الجوهر والكينونة واكتشاف خطاب العودة المظفّرة إلى الإنسان، وإلا كيف نفسّر من جهةٍ عنفية النص عند البعض، ومن جهة أخرى جماليته المفتوحة على روح العائد من أصقاع “تراجيديا الجلاّد” عند البعض الآخر.
يتلبّس العنف الكينونة التّاريخية للمسلم، وتتجمهر أحداث الذاكرة في مرتع مخياله الرّابض عند حواف الأحداث الحاسمة في مسار تاريخيته المنتصرة والمنكسرة أيضا، لكن هل الحدث لصيق غريزة التمكن والهيمنة أم إنّه شاهد على انتصاب النص في قهر الذّات على ممارسة العنف؟
تقوم منظومة “النص المؤسّس” بتعبير أركون في ترميمها لفجوة الوجود وإطلاق شرارة التّاريخ على الخطيئة الجرمية القائمة على القتل (قابيل وهابيل)، وهو أوّل ما افتتح به التّاريخ كنمط لحركة الوعي بالذّات، إلا أنّ الضّمير كان حدثا فارقا في تأسيس الكيانية التّاريخية على الغريزة العنفية وردعها في نفس الوقت عن طريق “الخوف من الله”، ولهذا يتحرّر المتطرّف من العلائق الشّريفة بالنص ليكسّر عصمة الآخر في ماله ودينه وعرضه وحياته عن طريق “التكفير” كعنصر يحِلّ به السّفك القابض على عنفه عند عتبة الرّغبة في ممارسة فعل الهيمنة والثأر.
إشكالية الغرب مع الكيان الإسلامي تتكرّس في مضمار “مخيال الهيمنة” الذي يسيطر عليه في مقابل “مخيال المقاومة” النّاشئ في الوعي الإسلامي الرّافض لأشكال التّوجيه والتحكم الغربيين، والقابع أيضا بين مخالب كل أشكال التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثّقافي والسياسي، وعند هذا المنعطف تفجّرت منابع التطرّف في المواجهات العنيفة مع القوى المتسلطة في العالم، لكن الكمون الإنساني يظهر في خلال هذه العلاقات المتوترة عند حدود المراجعات التي يستعيد فيها العقل مناعته ضد “الفتنة النّائمة”، ويتحدّد الوعي بها عند استنارات الذات في لحظة الشّروق المخيالي المتوادد مع العقل وتكبير الرّؤية لزاوية من زوايا الاعتراف بإعادة ترسيم حدود المعنى، ومنها الانتقال من معنى “التطرّف الإسلامي” إلى “أسلمة التطرف” كما هو عند أوليفيه روا.
يتموقع أدونيس بين لحظتين مهمّتين في تاريخ علاقته بالغرب والفكر النّقدي التّغييري، لحظة “الشّعرية العربية” والكوليج دو فرنس الذي منح العقل سياقات الهجرة داخل المنجز التراثي الشّعري، ولحظة المرافقة للعقل الغربي في انزياحاته نحو الهيمنة، وهما لحظتين مختلفتين تماما، لكنّهما يؤسّسان لأفق عميق وممتد في علاقة “الشّعرية” بالعودة إلى الجذور وانفصال العقل عن ذاته في لحظة الخلل القومي العميق الذي أدّى بالذات إلى الاغتراب الأدونيسي والاحتراب العنفي في أفق الذّات المغبونة، فلحظة الشّعرية هي لحظة الغرب الذي يدرك الواقع والحياة والكينونة بجماليات اللامحدود، ولهذا ففكره ولحظته الفلسفية مُساءِلة على الدّوام لأجل شروق اللانهائي، بينما أفق الغير الذي ينتمي إليه أدونيس يعيش لحظة الأفق المحدود، وغياب الشّعري في توتّراته المعرفية والوجودية، فهو يعيش المحدود لفقدانه معنى جمالية الكينونة في المطلق، ولهذا يعيش النّهايات بكل تجلياتها ويعبّر عنها بنهاية الجسد في نسفه كقربان لبلوغ الفراديس المفقودة اللامحدودة.
تبقى هذه مجرّد مقاربة لرؤيتَيْ الأستاذين أحمد دلباني وعبد القادر رابحي في فتحهما النّقاش حول الظّاهرة الأدونيسية في تعالقها التّاريخي مع فضاء أصولها واندماجها الوجودي في حركة العقل “الإنساني” في حتمياته التّحليلية الكبرى وسياقاته التي ليست على الدّوام تشكل مرجعية موضوعية.

خاص (الجسرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى