«البائع المتجول» للإيراني أصغر فرهادي.. بعيداً من السلطة ورموزها

زياد الخزاعي

عنوان جديد مخرج «انفصال نادر وسيمين» («أوسكار» أفضل فيلم أجنبي، 2011) الإيراني أصغر فرهادي، هو اجتزاء محسوب ومأخوذ عن نظير أطلقه المسرحي الأميركي آرثر ميللر (1915 ـ 2005) على نصّه التراجيدي الذائع الصيّت «موت بائع متجول» (1949). بطله العجوز «ويللي لومان» الغارق برهاب فشل محتوم في «تثوير» ولدين شابين والتمكن من الفوز والعلوّ بذاتيهما في مجتمع رأسمالي تنافسيّ لا رحمة فيه، قائم على فردانية بشره وغلاظة أنانياتهم وعنف تنافساتهم، صارخاً في وجهيهما: «اهزما العالم». كاشفاً عن دورة حياة مَنْقُوصة لرجل عصامي سعى الى «اختراق الصفوف» و «كسب الرهان»، بيد أن نطفته لم ترث منه هاجسه بـ «القوّة»، ووصمته بالأحمق والأخرق والكلب الهرم. هذه الثيمة ليست مرجعية مطلقة لفيلم فرهادي بل وردت خطاً درامياً موازياً لآخر أكثر لعنة وأشد روعاً، وُضِع بطلاه الشابان المدرس عماد. إداء قوي من شهاب حسيني حائز عنه «جائزة أفضل ممثل في الدورة الـ69» لمهرجان «كانّ» السينمائي، وزوجته رنا (ترانه عليدوستي) في مواجهة استحقاق أخلاقي مزدوج. حينما تتعرّض الشابة الى هجوم رجل توهمت أنه زوجها، بعد ما ارتكبت حماقة إدخاله الى شقتها وهي وحيدة بكبسة زر باب «لعينة». يتلو ذلك الفعل الوحشي، لن نعرف إن كان اغتصاباً، تراكمات نفوس مريضة سعت الى قصاص، امتلك ضمن عداواته وبغضائها حيزاً من «غفرانه».
انزياح جيل
دار نصّ ميللر حول مفهوم الذلّ الشخصي، وانزياح جيل ظَفَرَ به عناده، فيما راكب فرهادي حكايته وحكمتها البليغة حول عورة جماعية، احتاجت إلى قرار حاسم لا يجرح سُمْعَة، ولا يثير حفيظة نظام، ولا يُقلق أمان جيران وأقارب وعامة. نرى عماد متلبّساً شيخوخة «لومان» فوق خشبة المسرح، وهو يقول بين تهويماته وانتكاساتها: «لا تبخس من نفسك»، ترنّ خلف كلماته ضحكات عشيقة مستهترة هي الآنسة فرانسيس (بلباس إسلامي محتشم، وتحت أضواء نيون صاعقة تُسلّع خمراً وقماراً!)، تقبل منه «هدية» ثمناً لمواقعة جنسية عابرة وخيانة عائلية أزلية. في حياته الحقيقية، نقابل «عماد» كائناً مثقفاً ورزيناً ومعطاء، ورجلاً ذا نخوة. نمتحن إنسانيته، مع «هزّة» ملتبسة تُصدع عمارة يقطنها مع «رنا». عندما فرّ الجميع، لم يهب الشاب المخاطرة وينقذ شاباً معاقاً. لكن ما أن تأتي الهزّة الأخرى الى داخل شقته الجديدة/مكمنه الاعتباري التي يكشف لنا فرهادي لاحقاً أن قاطنتها السابقة هي بائعة هوى، وإن عودة المعتدي الغريب ليست سوى تصفية حساب. يتحول البطل الى مجموعة «دواهي» فردية متتابعة، متحوّلة من حالة حِشْمَة الى مرارة خزي، قبل أن يتلبّس سحنة منتقم لن يلين حتى أمام تهديدات زوجته وعقلانيتها التي ترى في الثأر عاراً مضاعفاً.
شبّه فرهادي «لوثة» بطله بالعقاب والسعي الى تحقيقه، بما حدث للفلاح «حسن» بطل الشّريط الكلاسيكي «البقرة»(1969) لداريوش مهرجوي الذي «تماهى» جسداً وسلوكاً مع بقرته المحتضرة، فهي شريان حياته وسَلوته. نرى «عماد» وهو يعرض على طلبته الشريط ضمن حِصّة فنية، لكنه بدلاً من الشرح يغط في نومه تحت عدسات هواتف طلابه. عندما يستيقظ، يصبح وحشاً عدائياً ضد «معتدين» على سرّه، فعمله المسرحي الليليّ وبروفاته الطويلة ترهقه وتهدّ من طاقته وجسده. فهو موعود للوقوع في «تماهٍ» آخر أشد وطأة مع شيطان وسواس ثأري. تأتي المشاهد الممسرحة، على قلّتها، ضمن توليفة مدروسة تزامنت مع كل تصعيد درامي يُقرّب «عماد» من المعتدي الذي نسي مفتاح سيارته، وهاتفه النقال، وكيساً يحوي مبلغاً مالياً (كديّة وطلب غفران)، اعتبرها الشاب دنساً، وستؤثر على اندماجه في الأداء، وتخرّب لعبه المسرحيّ بالكامل. الى ذلك، أضافت المشاهد تلك سينوغرافيا منمّقة ومُحكمة الترتيب في ديكوراتها (خصوصاً الإطلالات عبر الأبواب والشبابيك) وإناراتها الحمراء، وهي لون الفصل الختامي في عمل ميللر، حيث تشهد ساعات الغروب موت «لومان».
المعتدي الهرم
رسم سيناريو فرهادي، حاز عنه وبجدارة جائزة أفضل سيناريو في المهرجان الفرنسي، مشهد «اقتناص» المعتدي الهرم، الذي سيحتفي بعد ساعات بزفاف ابنته، كموقعة قاتمة داخل شقّة فارغة، أنجزها مدير التصوير البارع حسين جعفريان، ضمن مساحة ضيقة وكاميرا ثابتة، ضاجّة بثورة تفاعلات درامية مكتومة وشجيّة لموت يشبه الزلّة، تسبّبه صفعة مفاجئة وناريّة وصاخبة لوجه رجل متهالك، لتحاصر الجميع مآثم ولوعات فعل مُذلّ وأرعن واستئثاري، ولتُنهي سلسلة من تخمينات حاصر بها صاحب «عن إيلي» (2009) و «الماضي» (2013) متفرّجة على مدى ساعتين وخمس دقائق من بهاء الحكي السينمائي، وأثارت الكثير من غبار التأويلات بشأن غمزات مسيّسة مفترضة لأحوال بلاده. الحاسم، أن سينما فرهادي وموهبته وانتسابه الى نظرة إنسانية عابرة للطائفة والعِرْق والمحلية، متّنت خطاباً إيديولوجياً هادئاً مفعماً بأخلاقية كونية، وبصائر شجاعة ضد ظلم مجتمعي، وفجوات عواطف، وسوء نيّات. «باع» بطل فرهادي رويّته وحكمته، رغم أن فعلته مبرّرة للذوّد عن كينونته الصغيرة، لفعل غير محسوب العواقب، أدى الى قدر أعمى زَلْزَل عائلتين في حيز مسرحيّ نابض، ولم يفسح مجالاً ولو ضئيلاً لتواجد السلطة ورموزها، والمشاركة في امتحان جرائر بشرية، الأمر الذي حَيّد حكاية «البائع المتجول»، وقلل من عُقدِها الاجتماعية وشدّتها الطبقية التي تجلّت بقوّة لا تضاهى في «انفصال».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى