ليتا كابيلوت.. بورتريهات من الداخل

محمد شرف

يبدو أن ألقاباً كثيرة أُطلقت على الفنانة الإسبانية ليتا كابيلوت، المقيمة في هولندا، والتي كانت ولدت في برشلونة، العام 1961، في مجتمع غجري من والد مجهول وأم كانت هجرتها، فعاشت سنوات اليتم في طفولتها. درست كابيلوت الفن في أمستردام، وتأثرت خلال دراستها بأعمال رامبرانت وفرانسيس بيكون وروحية أنطوني تابييس، لتصبح في الوقت الحالي فنانة معروفة عالمياً، بعدما أقيمت لها معارض في بلدان كثيرة موزعة على قارات عدة، وكتبت الصحافة الفنية بغزارة عنها وعن أعمالها، كما أن صفات مختلفة استعملت للدلالة على تميّز ما صنعته خلال مسيرتها من نتاج تضمّن إشارات ومعاني إنسانية وسيكولوجية وحتى تراثية، وكانت كابيلوت عالجت في أعمالها هذه موضوعات عدّة، ولكن، وكما لاحظنا، يبقى البورتريه موضوعاً أثيراً لديها.
في معرضها المقام في الوقت الحالي لدى غاليري «أوبرا»، يطغى هذا البورتريه على سواه من أعمال، مع الإشارة إلى أن الفنانة كانت عرضت لوحاتها غير مرة في مدينة دبي لدى الغاليري نفسها، وكان البورتريه موضوعاً مركزياً حينها. ففي العام 2012، في المعرض المسمّى «ذكريات مغلّفة بورق الذهب»، الذي نظمته غاليري «أوبرا» في مركز دبي المالي العالمي، لم تكن الصورة الشخصية لديها موضوعاً عادياً، بل اقترنت هذه المرة بالحجاب الأنثوي، الذي طغى في مفهومه الشكلي على الموضوع الذي كان من المفترض أن يكون أساسياً، أي الوجه وما يمكن أن يحمله من تقاسيم وخطوط. اعتبرت ليتا كابيلوت في مجموعتها هذه، التي تخطت الأربعين عملاً، الحجاب كحالة جمالية تعبر عن أناقة خاصة، وكجزء من تاريخ الإنسانية في مناطق محددة، مع ما يتعلق بهذا الأمر من خلفية ثقافية. قلنا إن البورتريه يقع في صلب المعرض الذي نحن في صدده، ولا بد أن نضيف أن هذا البورتريه أنثوي حصراً، إذ لم نر رسوماً لوجوه ذكورية، وهذه الملاحظة تنسحب، نسبياً، على مجمل نتاج الفنانة التي يبدو أنها أولت أهمية واضحة للوجه الأنثوي، ما عدا بعض الإستثناءات القليلة، قياساً إلى نتاجها العام. لسنا هنا في وارد تفسير هذا الميل لكونه خياراً ذاتياً قد تكون له أسبابه، وهو قد لا ينطبق على أعمالها العائدة إلى المراحل الأولى من مسيرتها، إذ كانت صوّرت خلالها الأطفال المشرّدين والغجر والموسيقيين، لكن الفنانة تنزع، في ما نراه من أعمالها الأخيرة، إلى تصوير جمال أنثوي مكتمل إذا ما قيس بالمعايير الجمالية المكرّسة، السائدة والمتفق عليها. بيد أن هذه النزعة لم تقتصر فقط على تصوير جمال شكلي، إذ كان يقترن غالباً مع النواحي النفسية، والذكريات الذاتية التي قد تسقطها الفنانة على الموضوع المعالج. ففي مجموعتها المكرّسة لمصممة الأزياء كوكو شانيل، المؤلفة من 35 عملاّ، والتي عرضت في «غاليري أوبرا باريس»، العام 2011، استطاعت كابيلوت أن تترجم بلغة فنية ذكية التعقيدات النفسية لأكثر الرموز شهرة في عالم الموضة والأزياء، وحاولت إلقاء الضوء على الجانب المظلم من شخصيتها، عاكسة، في الوقت نفسه، ميل شانيل وشغفها باللونين الأسود والأبيض، إضافة إلى رصد القواسم المشتركة بين المصممة والفنانة، المتعلقة بتاريخهما الشخصي، فكلتاهما بدأتا حياتهما في حالة من الفقر المدقع وجاهدتا كي تثبتا للعالم موهبتهما بجرأة واضحة.
هذه الجرأة هي من دون شك إحدى مميزات أسلوب كابيلوت التشكيلي الذي يعمل، بداية، على تقميش اللوحة كي يلغي، إلى حد ما، سطحها الأملس، وينصرف إلى معالجة تجتمع فيها الدقة، المستندة إلى معرفة تشريحية، بالعفوية اللونية التي قد تعمد إلى كسر الطوق الكلاسيكي بضربات لونية نزقة وغير متوقعة في مواقع معينة، لتصبح النتيجة عندها ذات مفعول بصري جلي. وكأن الفنانة شاءت ان تقول، من خلال هذا المدخل، إن العمل الفني لا يتم من دون حالة مزاجية متقلّبة، تأخذ من الدرس الأكاديمي تعاليمه الضرورية ثم تعمد إلى تحرير المنتج من كلاسيكيته، كما عمدت كوكو شانيل في عصرها، بطريقتها الخاصة وفي إتجاه مختلف، إلى تحرير أزياء النساء من «مشدّات الخصر» التي تقيّدها وتعيق حركتها.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى