دون ديليلو متأمّلاً في تكنولوجيا الجسد

انطوان جوكي

«وُلِدنا من دون أن نختار الكينونة. هل علينا أن نموت بالطريقة نفسها؟ أما من عَظَمةٍ في رفض قبول قدرٍ ما؟» سؤالان يتسلّطان على رواية الكاتب الأميركي دون ديليلو الجديدة، «صفر ك» الصادرة حديثاً في نيويورك عن دار «سكريبنر»، ويمنحنا هذا العملاق فيها تأمّلاً عميقاً في موضوع الموت، مستعيناً مرةً أخرى بتلك اللغة الباردة والآسرة التي عوّدنا عليها.
مَن قرأ رويات ديليلو السابقة يعرف أن الموضوع المذكور ليس جديداً عليه، فالموت يتربّص بجميع شخصياته، وإن بطرق مختلفة. ولتعزيم خوفها منه، تلجأ هذه الشخصيات إلى طقوس دينية أو دنيوية مختلفة بهدف وضع أكبر مسافة ممكنة بينها وبين واقعه المحتم.
في»صفر ك» ، تسعى شخصيتان مركزيتان إلى هزم الموت، ليس من طريق تجنّبه، بل عبر معانقته، إذ نراهما مصممتين على وضع حد لحياتهما وحفظ جسديهما بواسطة تقنية تبريد الأجساد داخل سائل الأزوت (Cryopreservation)، كي يتم يوماً إنعاشهما بواسطة علمٍ ما زال في بداياته ويقوم على إعادة إحياء خلايا الأجساد المبرّدة بواسطة التقنيات النانوية (nanotechnology).
وبالتالي، بموازاة تفحُّص ديليلو في روايته «الطريقة التي آلت بالعلم إلى التقاطر والتصادم مع الدين داخل عالم يعاني من الإرهاب والحروب، ويرغب بعض قاطنيه في الاستعانة بالتكنولوجيا لإيجاد حلول أو حتى خلاص له»، نراه يخطّ بورتريه للراوي، الشاب جيفريه، تتكشّف فيه شخصيته وطبيعة علاقته المعقّدة بوالده البليونير روس.
في القسم الأول من الرواية، نرافق هذا الشاب إلى مُجمَّع سرّي يقع على حدود كازاخستان وأوزبكستان، وموّل والده فيه مشروع «تقاطُر» الذي يُعنى بحفظ جثث الأموات بواسطة تقنية التبريد، في انتظار اليوم الذي ستمكن فيه إعادتهم إلى الحياة بأجساد منيعة وكفاءات وذكريات من خياراتهم. وداخل هذا المجمّع، يتبيّن لنا أن ثمة جناحاً خاصاً يحمل اسم «صفر ك» وأنه مرصود للأشخاص الذين يقررون اللجوء إلى هذه التقنية قبل موتهم الطبيعي، مثل زوجة روس، الشابة أرتيس المصابة بمرض عضال، وروس نفسه الذي لا يعاني من أي مرض لكنه يرغب في مرافقة زوجته في رحلتها.
التلاعب العقلي
خلال إقامته في المجمّع، نرى جيفريه قلقاً لعدم معرفته إن كان والده وقع ضحية طائفة دينية خطيرة تلاعبت في عقله، أم أن قراره ناتج من سلوك منحرف لرجل شديد الثراء تدفعه رغبته في التحكّم بحياته إلى وضع حد لها. وبسرعة يتبيّن له – ولنا – أن ردّ فعله على قرار والده يخضع أيضاً لعواطفه الملتبسة تجاه هذا الأب الذي تخلى عنه وعن أمّه وهو صغير. أما روس وزوجته أرتيس فلا يريان أي انحراف في محاولاتهما الانقلاب على الموت، بل نوعاً من المشروع الفلسفي الذي يلبّي رغبتهما في تشييد حياتهما كتحفةٍ فنية راديكالية. مشروع يفسّره أحد القيّمين عليه لمجموعة من الأشخاص على وشك الخضوع طوعاً للتبريد، بقوله: «أنتم الآن خارج السردية التي نسمّيها التاريخ. (…) لا آفاق هنا. نحن منخرطون في عملية استبطان غايتها سبر ماهيّتنا وموقعنا» في الكون.
في القسم الثاني من الرواية، ينحسر الجانب المستقبلي والعلمي لمصلحة سردٍ واقعي لحياة جيفريه في نيويورك حيث نراه يبحث عبثاً عن عمل يناسبه ويعاشر امرأة تحاول التوفيق بين علاقتها به وعلاقتها بابنها المراهق الذي يضارعه في سلوكه الاستحواذي، قبل أن يتصل والده به ويدعوه مجدداً إلى المجمّع لتمضية اللحظات الأخيرة من حياته معه قبل اللحاق بزوجته.
ولا يسعنا عدم التوقف عند النصّ الشعري القصير الذي يتوسّط القسمين ووضعه ديليلو على لسان أرتيس بعد تبريدها. نصّ رائع يجعلنا نستخلص أن الدماغ المحرر من الجسد والمحفوظ في سائل الأزوت يبقى حيّاً لكن في حالة تواصُل مع نفسه فقط، ما يستحضر صورة إدراكٍ محرر من الموت لكن مغلق على ذاته ومحروم من أي إحساس، يقبع في حالة انتظار رهيب…
قراءة النقّاد لهذه الرواية استحضرت إلى أذهانهم أعمالاً روائية وسينمائية مختلفة. فحالة الانتظار التي يقبع فيها إدراك أرتيس ذكّرت واحداً منهم بعوالم صامويل بيكيت، وأروقة المجمّع المتاهية قارنها ناقد آخر بالمتاهة التي تتحرك فيها الفتاة أليس في رائعة لويس كارول، ومداخلات المرافقين لجيفيريه داخل المجمّع استشف هذا الناقد فيها صبغةً «كافكاوية»، قبل أن يلاحظ أن عملية تحضير أرتيس وأشخاص آخرين للمرحلة القادمة من رحلتهم – أي حين ستوضع أجسادهم في برّادات صغيرة ومعزولة بعد انتزاع أدمغتهم وأعضاء حيوية أخرى منها لحفظها على حِدَة – تشبه إلى حد بعيد عملية تحنيط الفراعنة لأمواتهم.
«البرتقالة الآلية»
وإذ لاحظ عدد من النقاد تردُّد أصداء فيلم ستانلي كيوبريك «2001، أوديسا فضائية» في صفحات عديدة من «صفر ك»، لم ينتبه أحد إلى أن فيلم الكوارث الطبيعية أو المفتعَلة المعروض في شكل دائري في أروقة المجمّع يحاكي فيلم كيوبريك الآخر، «البرتقالة الآلية». ففي هذا الفيلم الذي يتألف من مونتاج لصور عنيفة يظهر فيها رهبان يشعلون النار بأجسادهم أو أطفال يُقتلون على يد جنود أو نساء يذرفن الدموع، ثمة وظيفة تكييفية أيضاً، علماً أن هدف القيّمين على المجمّع من عرضه ليس حث الزائر على نبذ العنف، كما في فيلم كيوبريك، بل إقناعه بضرورة الانسحاب من هذا العالم العنيف والسبات ريثما تحلّ فرصة الانبعاث مجدداً داخل عالم جديد وأفضل.
يبقى أن رؤية ديليلو في روايته أكثر سوداوية من تلك التي يسيّرها كيوبريك في فيلميه، نظراً إلى شكّ الكاتب بذكاء «أولئك الذي يرون في حياة البشر على الأرض مجرّد مرحلةٍ على سلّم التطوّر»، وبالتالي إلى إيحائه بأن «الأمل في توفير التكنولوجيا حلاً لمسألة الفناء هو هذيانٌ وشرودٌ خطير عن الأحداث المؤلمة لعالمنا اليوم».
لكن هذا لا يعني أن موقف الكاتب من التطور التكنولوجي سلبي في شكلٍ مطلق، ففي خاتمة روايته، يصف جيفريه تقنية حفظ الأجساد بواسطة التبريد كـ «نوعٍ من الفن الرؤيوي». وهو وصفٌ ينطبق بقوة على طريقة كتابة ديليلو بالذات الذي لا يسرد في أعماله قصصاً بل يُسقط رؤى، كما في رواية «لاعبون» التي تنبّأ فيها بأحداث 11 أيلول 2001، أو في رواية «كوزموبوليس» التي صوّر فيها الانهيار المالي لعام 2009 قبل حدوثه.
وفي «صفر ك» يتمكن من توليف عناصر تنتمي إلى الواقـــع بأخرى تنتمي إلى الخرافة العلمية أو الحلم، وبالتالي من إثبــــات قـــدرته على شقّ طُرُقٍ إلى المستقبل، وفي الوقت نفسه، من إظهار فهمٍ عميق للأشكال الغريبة والملتوية التي يتّخذها في عصرنا قلق البشرية الثابت من مرور الزمن والموت. وهو ما يجبرنا على مواجهة طيف محدوديتنا وطرح أسئلة عميقة حول دوافع سعينا إلى إطالة عمرنا على الأرض.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى