أين نحن من الإعراب؟

الياس خوري

كيف نقرأ إعراب الحاضر؟
وماذا طرأ على ركنَي الجملة الفعلية في نحو فلسطين وصرفها؟ وما موقع نائب الفاعل في واقع سياسي التبست فيه المعاني؟
سيكون دليلي في محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة قراءة إحدى قصائد راشد حسين: «دروس في الإعراب» (ديوان «أنا الأرض لا تحرميني المطر»، بيروت، الاتحاد العام للكتّاب والصحافيين الفلسطينيين، 1976)، والتي قدّم فيها المؤسس الأول للشعر الفلسطيني الحديث اقتراحاً شعرياً سمح له بإعادة تأويل النحو، في سياق رؤيته الشعرية.
قدّم راشد حسين في قصيدته «دروس في الإعراب» رؤية شعرية لعلاقة الفاعل بالمفعول به، في الحاضر الفلسطيني. كان ذلك في زمن الوضوح، فالشاعر لم يطرح السؤال عن علاقة الفاعل بالمفعول به، إلاّ ليعلن أن زمن المقاومة قادر على تحويل المفعول به فاعلاً، والفاعل مفعولاً به، أي أن قراءته النحوية لم تكن سوى مدخل لتأكيد ما صار ممكناً على يد الفدائيين.
لم يعالج الشاعر انقلاب الأدوار على المستوى النحوي فقط، بل جعل من علم النحو وسيلته إلى قراءة انقلاب الدور الاجتماعي أيضاً، فصار الطالب أستاذاً لأستاذه، ورضي الأستاذ بوضعه الجديد، بل احتفى به.
بعد يوم دخل الصفَّ المعلم / جاء فرحاناً وسرّيّاً كعطرِ البرتقالْ / كان في سبعينه طفلاً… فحيّانا وقال / «وضعوا عدنانَ في السجن»/ أعربيها يا صبايا / وأعربوها يا رجال / ففرحنا… وبكينا… وهتفنا/ «عدنانُ»: فاعلْ / «السجنُ»: مفعولٌ به/ وحرقنا النحوَ والصرفَ وأغلالَ القواعدْ / وتحولنا نضالْ.
تحويل المفعول به إلى فاعل قد يكون مجرد استعارة شعرية، لكنه يعبّر عن تغير جذري في الحاضر، إذ سبق أن طلب المعلم من تلاميذه إعراب الجملة التالية: «سيدي يحلم بالثورة لكن لا يقاتل»، فأعربها تلميذه عدنان على الشكل التالي: «الثورة لا تجرّها الباء، لا يقاتل هي الحقيقة.» غير أن اعتقال عدنان، «الفلاح البلا أرض»، مثلما تصفه القصيدة، ينجح في قلب المعادلة النحوية بأسرها، ويسمح للأستاذ بأن يتعلم مع تلميذه كيف يعيد تأليف قواعد الصرف والنحو.
هذا الشعور العذب بأن الأيام تعلّمنا أن انقلاب الأدوار هو سمة الوجود، وأن تحوّلنا إلى أبناء لأبنائنا هو تتويج لمسيرة حياتنا، كان ممكناً في قصيدة راشد حسين، لأن الشاعر لم يحجب الفاعل أو يجهّله، فترك ركنَي الجملة الفعلية، بحسب الاصطلاحات التي صاغها النحاة العرب، أي الفعل والفاعل في موقعهما، كما لم يحاول التفاصح بقدرته على اللعب البهلواني باللغة، على ما درجت عليه العادة في الشعر العربي قبل بداية زمن الإحياء الذي مهّد للنهضة الأدبية.
الشاعر الفلاح قلب معادلة الإعراب، واكتشف أن تغيير دلالات النحو يتم خارج علم اللغة، فتصير المقاومة فعلاً لغوياً أيضاً، ويصير السجن مفعولاً به حتى عندما يكون عدد الأسرى الفلسطينيات والفلسطينيين سبعة آلاف.
سمح لي التأمل في قصيدة راشد حسين بأن أطرح أسئلة على البُنى اللغوية التي نعيش فيها ونتنفسها ونعبّر بها. لذا أدعوكم إلى محاولة النظر في البديهيات، لأن إعادة النظر فيها وتفكيكها وإخراجها من موقعها الثابت المتفق عليه، هو في رأيي شرط الثقافة النقدية التي لا حياة للمجتمع من دونها.
قادني راشد حسين إلى أسئلة لا أعتقد أنها خطرت في باله وهو يكتب قصيدته، وتساءلتُ كيف تمت عملية الاستبدال بين الفاعل والمفعول؟ وماذا لو جرى تجهيل الفاعل؟ فبدلاً من أن يكتب الشاعر: «وضعوا عدنانَ في السجن»، كان في إمكانه أن يقول: «وُضع عدنانُ في السجن». الفرق بين الجملتين هو أن الضمير المتصل في الأولى يحدد الفاعل من دون أن يسميه، لذا فإن إعرابها بسيط لأن عدنان سيكون مفعولاً به، وعملية نقله من وضعيته إلى وضعية الفاعل ليست عملية تصحيح للإعراب، بل نسفاً له. أمّا في حالة الجملة الثانية فإن عدنان سيصير نائباً للفاعل، ويفقد اسمه كمفعول به، مع أنه لا يزال كذلك. ويُخيّل لي أن عملية نقله الآن إلى وضعية الفاعل ستكون أكثر صعوبة.
الانتقال من وضعية المفعول به إلى وضعية الفاعل ممكن، شرط قيامنا بتجاوز قواعد الصرف والنحو، وهذا متاح دائماً إذا توافرت الإرادة، أمّا نائب الفاعل فإن وضعيته الملتبسة تشلّ الإرادة لأنها وضعية كاذبة توحي بما ليس فيها.
نائب الفاعل مسألة حيّرت النحاة العرب طويلاً؛ نجح ابن مالك في صكّ هذا المصطلح في «ألفيّته» في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، محرراً نائب الفاعل من الالتباسات التي رافقت أسماءه المتعددة. فسيبويه (القرن الثامن الميلادي) أطلق عليه تعبير «المفعول الذي لم يتعدَّ إليه فعل فاعل»، وسماه الفرّاء (القرن التاسع) «ما لم يُسمَّ فاعله»، لكن النحاة أجمعوا على الاسم الجديد الذي صاغه ابن مالك، وتحوّل إلى ركن من أركان الجملة الفعلية.
وعلى رغم اعتبار نائب الفاعل هو ما ينوب عن الفاعل في إسناد الفعل إليه، لكنه لا يحل مكانه، والتركيز على وجوب حضور نائب الفاعل في حال تجهيل الفعل، فإن نائب الفاعل يحضر في حالات متعددة كالاسم المفعول والاسم المنسوب والمصدر المؤول، لكنني لا أريد الدخول في هذه التفصيلات، لأن بحثي الآن يتركز على علاقة الفاعل بالمفعول به، وعلى الافتراض الأوّلي الذي يعرفه كل ملمّ بلغة العرب، وهو أن المفعول به ينتحل اسم الفاعل في صيغة الفعل المجهول.
من المرجح أن النحاة العرب اضطروا إلى استنباط هذا الانتحال نتيجة افتراضهم أن رُكنَي الجملة الفعلية هما الفعل والفاعل، وبسبب غياب الفاعل أو تغييبه، اضطروا إلى اختراعه.
أمّا عن الحالات التي يجري فيها حذف الفاعل فمتعددة تبدأ بعدم القدرة على معرفته، وتشمل الخوف منه وتعظيمه أو تحقيره.
هذا ما نتعلمه في علم النحو، لكن إذا أردنا إحراق الصرف والنحو على طريقة راشد حسين، فإننا سنكتشف سبباً لم يخطر في بال النحاة من علماء الكوفة والبصرة، وسيقودنا الشاعر الفلسطيني، الذي قضى في نيويورك مختنقاً بالنار التي اشتعلت في غرفته الصغيرة، إلى افتراض جديد هو أن تجهيل الفاعل قد لا يكون هو الهدف الحقيقي، بل ربما يكون انتحال المفعول به لوضعية الفاعل هو الجذر الذي يقود إلى انهيار المقاييس التي تتجاوز مسألة تجهيل الفاعل، وتؤدي إلى تعاون الضحية أي المفعول به مع الجلاد والتنسيق معه، بحجة أنها إذا لم تكن فاعلاً كاملاً، فإنها على الأقل نائب فاعل.
لكن قبل الوصول إلى هذه المسألة التي هي جوهر قراءتي لقصيدة راشد حسين، فإنني أود الإشارة إلى غياب صيغة نائب الفاعل في اللغة العبرية، من دون أن يعني ذلك غياب الفعل المجهول. وأنا مدين بمعلوماتي عن الفعل العبري المجهول لصديقي الروائي المِلفان أنطون شمّاس.
نجد في العبرية صيغة نِفْعال (انفعل بالعربية)، كأن نقول «نِهراج» أي قُتل أو اِنقتل (بالعامية)، ويُستخدم هذا الفعل كثيراً في الأخبار حين يُقتل الفلسطينيون، كأن الفاعل مجهول، كما نجد صيغتين أُخريين هما فُعّال (فُعِّلَ بالعربية) وهوفْعال (أُفعِلَ بالعربية).
لن أتوقف إلاّ عند صيغة نِفعال، لأنها تكشف لعبة تجهيل الفاعل. القاتل معروف، لكنه اختفى خلف ادعاء عدم المعرفة، أمّا القتيل فلا حاجة إلى إخفائه، لأن كشفه يصير مصدر فخر للقاتل. لكن المشكلة تقع حين يكشف القاتل عن وجهه ويتفاخر بفعلته، مثلما هي حال الرقيب في الجيش الإسرائيلي إليور عازاريا الذي أَعدم بدم بارد عبد الفتاح الشريف المصاب والملقى أرضاً في تل الرميدة في الخليل في 24 آذار (مارس) 2016. لقد بقي اسم القاتل محجوباً بقرار قضائي فترة غير قصيرة، على رغم أن الفيديو الذي صوره عماد أبو شمسية كان كافياً للتعرف إليه. أصر الإسرائيليون على صيغة «نِفعال» لا لأنهم يعترفون بالقتيل كنائب للفاعل، وهذه صيغة ليست موجودة في إعرابهم، بل لأنهم أرادوا تأجيل الحقيقة التي مزقت القناع «الديموقراطي» الذي لم يعد التيار القومي – الديني – الفاشي بحاجة إليه.
أكتفي بهذه الإشارة السريعة لأعود إلى مأزق نائب الفاعل في الثقافة الفلسطينية. أستطيع تفهّم الأسباب النفسية لانتحال هذه الصفة، في زمن الغيبوبة التي تجتاح البنى السلطوية بمختلف أشكالها، لكنني لا أستطيع تجاهل الحقيقة النحوية التي تقول إن شرط وجوب نائب الفاعل هو الفعل الذي يُنسب إلى مجهول. وهنا يقع المأزق، فالفاعل معلوم ولا يستطيع نائب الفاعل تجهيله أو تجاهله. وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أن نائب الفاعل لا محل له من الإعراب، وأنه مجرد غطاء لا يخفي، وحجاب لا يحجب.
تخيلوا معي لو أن عدنان (بطل قصيدة راشد حسين) وجد نفسه في هذه الوضعية. هل يرضخ عدنان لقواعد نحوِ الهزيمة ويرضى بأن يكون نائباً لفاعل يقتله؟ أم سيعلن مرة ثانية أنه سيتحول إلى الفاعل ويقود أساتذته إلى إحراق قواعد نحوِ الاستسلام؟

* نظمت جامعة بيرزيت في 24 أيار (مايو) لقاء تكريمياً احتفاء بنيل الياس خوري جائزة محمود درويش للإبداع، وقد ألقيت في اللقاء كلمات لرئيس الجامعة عبداللطيف أبو حجلة، وعميد كلية الآداب مجدي المالكي، واختتم اللقاء بكلمة لوزير الثقافة الفلسطينية إيهاب بسيسو. النص الذي تنشره «الحياة» هو مداخلة الياس خوري التي ألقيت في اللقاء، تزامناً مع نشرها في العدد الجديد من «مجلة الدراسات الفلسطينية» صيف 2016.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى