أسرار القدس في بوح الفلسطينية سند أديب حسين

احمد المديني

هي القدس، في الرغبة والحلم والوجدان. كلما يمّم العربي شطر فلسطين، والفلسطيني بالذات، محلقاً من أريحا أخفض أرض في الكرة الأرضية، إلى رام الله، ثم إلى جنين، قد بعُدت اليوم يافا وتباعدت حيفا، لكنّ القدس مهما بغى الغزاة وأعلوا الحواجز والجدران، كانت وتبقى له هي اليقين. ليس كلامي مغناةً، ولا مفرداتي وشياً لمزيد وهم، قد أتخمنا من الأوهام، وسُقيناها، رباه، لا نعلم كم من دِنان. فالفلسطيني وحده الأدرى بحقه، بالحقيقة، وبمعنى أن تكون في وطنك، في القدس بالذات، أو أنك خارج الجغرافيا، وفلك الزمان. هذا ما ساورني في زيارتي الثانية للقدس كاملة، لن أسقط في لعبة التقسيم، فهي كلها عربية. في الأولى، وأنا في باحة المسجد الأقصى أصابني حال الدراويش، لا أكاد أُصدّقني، قد صرت في هذيان. في الثانية، يقبض الجندي الإسرائيلي بغلظة على مرفقي، وأنا عائد من زيارة السيد المسيح في كنيسة القيامة، أقصد باب المغاربة، فأنتفض في وجهه لا أبالي، لا للهوان. في المرة الثالثة، تخرج لي سند أديب حسين، من حيث أدري ولا أدري، لتريني وتعلمني القدس، وغيري، كما لا ولم يرها إنسان من قبل، ببساطة لأنها بنتها لا شطح حلم، أو أهزوجة في حفل طافح بالحنين البائس، ولا مناجاة من أقاصي شتات الفقدان.
اقتنيتُ كتاب سند أديب حسين من عين المكان، في مكتبة صغيرة محشورة بين عديد متاجر في خان الزيت، في السوق العربية. جذبني عنوانه أولاً «أسرار أبقتها القدس معي» (دار الجندي للنشر، القدس، 2016)، ثمّ اسم مؤلفه، استعدته لما أهداني صديقي الروائي الكبير يحيى يخلف قبل عامين كتباً لأدباء فلسطينيين صاعدين، نصحني بقراءتها، من بينها مجموعة قصصية:» أوراق مطر مسافر» للكاتبة نفسها، قرأتها كلها، ولم أستغرب نضجها المبكر، إذا كان لأقلامها أساتذة، هم منارات هادية، مثل إميل حبيبي ومحمود شقير ويخلف، ومحمود درويش، طبعاً. أنا سليل ابن بطوطة، جوالُ مدن، وهذه المدينة أجوب فيها قدر ما أستطيع، وبعدما استنفدت ما أتيح لي معرفته من مزارات مقدسة ومعالم تراثية واقتحمت ما وراء باب العامود والأسباط، وغيرهما، خارج السور، نحو الأحياء التي استولى عليها اليهود، فيها بيوت منها واحد ما زال شاهداً بفسيفساء مدخله وحديد بوابته الخضراء: بيت إدوارد سعيد، لو تعلمون! لكني مجرد زائر عابر، فكيف لي باكتناه الأسرار، بالغوص في ما وراء قشرة المكان، بخاصة مدينة غُصِب ترابها، وأُخرج أهلها من ديارهم، وبتّ «ترى الفتى العربي فيها/ غريبَ الوجه واليد واللسان»، على ما قال جدنا المتنبي.
لكل كاتب لعبته، أو هو نسّاخ، كما سماه بارت، والفلسطينية الشابة سند أديب حسين تختار لعبتها وتنسيقها سلفاً وبالتدريج. مقتضاها الأول، استبعادها الأول للتناول الصحافي، حتى باستخدام أدواته، والتمهيد ثانياً لصنع، نسج كتابها على منوال أدبي، ما يدفعها، وهذا حافزها (الشعري) إلى جعل الذات بؤرة وبوصلة، ومن هذه الذات ينسرب كل شيء، المرئي والمحسوس والمحدوس، نحوياً، أولاً، بواسطة ضمير المتكلم من جانب المرسِل إلى المرسل إليه بـ (رسالة) اسمها وعنوانها والخطاب المضمر فيها «أسرار».
يلي هذا، بل ويجسده تلفظياً، الشكل والنسق اللذان سيلفظ به خطاب الأنا، كيفما كان مضمونه وخطه، وهو عند الكاتبة أداة تشكيل لعبتها وكيفية بلورتها لها، أي إنه ببساطة اختيار تجنيس، شكل أدبي بذاته، هذا الذي ستحرص على تعيينه في غلاف كتابها، وتسميه «يوميات مع المدينة». بذا، فإن التذويت والتجنيس عند الكاتبة، هما الإطار الكبير، لوضع الخطاب في نسقه الأدبي وفاعليته النصية.
نعم، اليوميات هي الشكل الذي ارتضته سند حسين، كي تبوح لنا بأسرارها. وبهذا الاختيار تحقق شرطاً فنياً آخر لنصها، إنها تظهر مرئيها وهو يتحدد في نسق واقعي كمادة، فهو لا سابق ولا لاحق، إنه يظهر أمامك في لحظته، بالعين التي تقنصه، والقلم إنما يدوّنه تدوينا خصوصياً بلغة صاحبه، بالطريقة التي ترتئي وفق كل مادة ترويها، قل هي طرق تتنوع بين السرد والوصف والمعاينة والتذكر والبوح، أي بتعريف البلاغة، وفق مقتضى الحال، وهي أحوال ما دامت هذه اليوميات توزع وتتنوع على مشاهدات وتنقلات وأحداث وحوادث وعلاقات وذكريات وأشجان، كل هذه المحاور والمقتربات، منظورها وبوتقتها ذات الكاتبة، التي وهي تقيم علاقة التفاعل بينها وبين المدينة على مستويات مختلفة وفي وتر مشدود دائماً، تنطلق منها وترتد إليها، وهو ما يجعل اليوميات، كشكل، يتضاعف في آخر أوسع وطابعه أغلب وأعمّ، جنس السيرة الذاتية.
تقول سند أديب: «لا نحتاج لمن يناجي القدس من بعيد» وخطابها موجه لمرسل إليه مضمر، وبنبرة التحدي، تقول ها أناذي. وتشرع تدريجاً في كشف الأسرار. هي بنت مدينة الرامة، في الجليل، ثم حملتها إلى القدس ظروف، سبقها إليها والدها، جاءت هنا لتدرّس الصيدلة في الجامعة العبرية، ثم تشاء هذه الظروف أن تبقيها فيها للعمل والحياة، وكذلك لتربطها بالمكان وشيجة عشق لا تجد فكاكًا منها، شعور ملتهب أوارُه ليس عاطفياً، مجرداً فحسب، بل تأسس ونما بقوة العيش اليومي، والعلاقة بالمكان – المكان الذي يحمل تضاعيف التاريخ والقداسة والاحتلال – وهي كل ما مشت فيه، هزت صخره، وأضاءت في عينيها صخرتُه، ومِن فيها تكلمت أبوابُه، ومن بين راحتيها وحفيف مشيتها تضوعت عطوره وبهاراتُه، وفي جسدها الغضّ كلّما ارتعش هي رجفة أمام وقفة الجندي الإسرائيلي يهدده، وسؤاله الوقح هو وفرقته تحقنه استنكاراً، كيف يصبح المحتل سلطاناً: «سيترصدون خطاي أنا وأبناء المدينة عند دخولها (…) ينبشون معالم وجهي عند الحواجز ويسألون مستغربين: ماذا تفعلين هنا؟ وسأكتم غضبي كثيراً كي لا أنفجر سائلة: ماذا تفعلون أنتم هنا؟!».
فعلاً، ليس غرض نسب حسين أن تفجر غضبها في هذه اليوميات، وإنما قبل كل شيء أن تحمل الشهادة. شهادة الفلسطيني الذي يعيش على رغم الغاصب الصهيوني في المكان ويعضّ عليه بالنواجذ. نعم، إنها تعشقه، ولا قِبل لها بفراقه، وتتحمل كل شيء لكي تبقى هنا، إذ لا بديل عن عشقها، لكنّ هذا، وكما تسجل في يوميات الشهادة، لا يعفيها أو يعميها عن رصد الواقع، أحوال الناس الباقين مثلها، وبلا ابتآس. وهو مُقترَبٌ إذ يعطي لكتابها قيمة ما تحمله كل شهادة من توثيق وصدقية، تجعل الواقعية الخام تعزز القيمة الفنية التي تظهر هنا وكأنها فائض قيمة، من ثم نكسب نحن القرّاء، ومعنا المؤلفة، هذا العمل على مستويين. ترسم اليوميات القدس، العربية بخاصة، ومحيطها، كأنك فيها. ترسم أزقتها وكنائسها ومساجدها ومعابرها وأسواقها، حيها وميتها، معالمها في حاضرها وماضيها، مرّة إشارة، وتارة بالتفصيل. تتعرّف على القدس في هذه اليوميات بدقة المعلومات، بكل ما يمت إلى الحياة بصلة، تزودك بها سند المقدسية، نحس أنها تفعل وهي تكفكف الدمع، وبتنهيدة شبه مسموعة تلو تنهيدة، هي من يبوح:» [إنني] أبحث عن بلسم لجراح القدس في جسدي».
بيد أن أقوى ما في هذه اليوميات وفي براعة نسجـــها هو أنها تطَّرِح لغةَ، وحتى «لعنة» النوستالجيا، تسكــــن في حنجرة كل فلسطينيي الشتات. إنها تمهر في تقــــديم الفلسطيني، العربي، في زهرة المدائن، وهو يعــــيش يوميه في نشاطاته المختلفة، وهي في حركيتها الثقافية، أدباً ومسرحاً وكفاحاً من أجل البقاء من لــدن فلسطينيي الداخل، فنفهم وضعهم بأفضل من أي صورة وتقرير، ونقتنع بأن الكتاب، أن الأدب، بيوميات الشهادة هذه أصدق إنباء، وبالرواية إذا وضـعتها يد صناع أيضاً، كما جاءت عند ربعي المدهون في «مصائر» تحافظ على الإنسان في المكان، تخلده مهما عمـــل المحتلون الغاصبون، وتنحت تاريخه على جبين الزمـــان، وهذا ما لا يفهمه المنتفخون بالشعارات وحدها والمتاجرون، فتأتي كاتبة شابة، صارت القدس منها، وتعلنه على رؤوس الأشهاد، بحب وجمال وشجاعة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى