«الخانكة»… تطهير الوعي

ميادة أسبر

إذا كان علينا أن نسند إلى العمل الفني وظيفة ما، فإن أولى وظائفه وأكثرها جوهرية هي أن يكون أميناً لطبيعته الفنيّة التي لا يستمدها من الموضوع كما أنه لا يستمدها من جماليات البناء والتشكيل، بقدر ما يستمدها من رؤاه الإبداعية الخلاقة التي تظهر العلاقة بين الشكل والمضمون، وتكفل في الوقت نفسه إسباغ طابع الفرادة التي تجعل من عمل فنيّ عملاً فذاً.
وبمقدار ما يصدر الفنان في رؤاه عن طبيعته النزاعة إلى القلق والسؤال والبحث والكشف، فإنه يخرج بالعمل من ذاتية التجربة إلى حيّز الفعل الدائم الذي لا يني يرتاد مجاهل الكون والطبيعة والإنسان. فمن خلال الرؤية الخلاقة نفسها ينقل الفن صفة زمانه، لا لمجرد النقل ولكن من أجل خلق عالم يجدر بالطبيعة أن تنصاع له وتتبعه بتعبير أوسكار وايلد، إذ ليست الواقعية في أن يكتب الكاتب عن الراهن، ولكن في تحويل هذا الراهن إلى رؤية خلاقة شاملة تجعل المكتوب أثرا من آثار الفن العظيم وذلك حين يقف على منزلقات الهاوية الخطرة ويذهب إلى أبعد ما يمكن في الكشف عن فواجع المجتمعات التي تتلمس طريقها وشخصيتها فيضع أمراض الجسم الاجتماعي في محرق الضوء اللاهب.
تكمن أزمة الجماهير في أنها تنسى، أو تتناسى؛ وحده المبدع يحمل ذاكرة ملتهبة ترفض الانصياع للنسيان الهانئ المطمئن، ترفض الركون إلى السطح المائج الجذاب الذي يخفي في أعماقه اللجة المضطرمة.

مذبح الوعي
فقصة مسلسل «الخانكة» للكاتب محمود الدسوقي والمخرج محمد جمعة، ليست من قصص الانتقام التي تحفل بها آداب الشعوب في ماضيها وحاضرها كما أنها ليست قصة من قصص المسكوت عنه في ما يتصل بقضايا المرأة في المجتمعات العربية التي ما تزال تقدم مثقفيها وأدباءها على مذبح الوعي. وإن كانت هذه وتلك من منطويات هذا العمل الإبداعي الرفيع. فلا شك في أن القضية التي يتناولها النص حامل تعبيري ممتاز للرؤية الإبداعية.
إن قيمة العمل فضلا عن ميزاته الفنية الكثيرة التي تكلم فيها المتكلمون تكمن في الرؤية الخلاقة التي صُنعت من تأزم مستمر وذروات متتابعة تمسك على المتلقي أنفاسه لا من قبيل المفاجأة التي تتحقق في الأحداث، ولكن من قبيل الإدهاش الذي تحقق بنقل مركزية الصراع وتوسيع دائرة النار لتحرق بيادر الجموع المطمئنة البعيدة عن نيران الوعي وشمسه اللاهبة تبحث مسترخية من وراء الشاشات الصغيرة والكبيرة وفي المجلات المصورة والجرائد اليومية عن خلاص رومانسي متخيل من مأساتها عبر ما دعاه أرسطو بالتطهير.
هذه الجموع برزت في مشهدين هما مكمن الرؤية الإبداعية الفذة، إذ وقفت شاخصة ببصرها إلى البطلة (أميرة، غادة عبد الرازق) في موقف أول مفرغ من وعي التأثير انزوت فيه وانكفأت وتموضعت خارج شرطها الانساني وتخلت عن الفعل أمام عجلة القوة الطاحنة فلم يقلقها مصيرها الإنساني، فاتخذت من قضيتها موقفا فردانياً لحظياً وانفعالياً، موقف من يقرأ قصة من قصص ألف ليلة وليلة دفعاً للفراغ أو استدعاء للنوم، في الموضع الذي يكون فيه الفعل ضرورة لازمة والعدالة شرطاً وجوديا.

النمط الإنساني
وفي موقف آخر بعدما اجتازت الشخصية أزمتها لتتحول إلى الفعل والمواجهة، شخصت الجموع منتظرة من بطلها الذي قدمته قرباناً لآلهة المال أن يتناوح ويتباكى على هيكل الظلم العاتي عسى أن يطهرها ويستثير ما فيها من مشاعر الخوف والشفقة، لكن هذا البطل (أميرة) بخلاف المتوقع فارق النمط الإنساني المشحون بزخم عاطفي بدائي فلم ينجز التطهير المرتقب ولم ينصهر في طمأنينة الجموع الرومانسية الخادعة، بل راح يمجد أبطال الشعب من شياطين المال الذين أوشكوا على إحكام القبضة على مصائر الناس، في فعل من أفعال إشباع الشر انطلاقا من وعي التأثير لتضع الجماهير المنكمشة في مركز الصراع الذي عاشت غافلة عنه على قارعة الحياة.
لم تنجز (أميرة) فعل التطهير المرتقب، تماما كما أن الكاتب نفسه لم ينجز تطهيرنا… إنها الكتابة الموجعة التي تصوّب فوهة النص إلى مركز الوعي فتقتلع المتلقي من تربة الطمأنينة الظليلة وتلقيه في المنزلق الخطر الملتهب فيتحسس أنه صانع المصير الاجتماعي والقيمي والحضاري، كلمة واحدة ألقتها أميرة في تفجع ساخر (يرحمكم الله) اقتلعت الجموع السادرة من جذورها وألقت بها في قلب الرعب، لم تطامن من نزيف الجرح المغلق على نتنه… بل فتحته عن آخره ووقفت على منصة التشهير التي طالما صفقت عليها الجموع ودفعت بأنبيائها واحدا تلو الآخر، اقتلعتها من مأمنها لتتركها في مواجهة شيطانها الذي صنعته بانفصاليتها الذهنية عن قضاياها مكتفية من الغنى بالشبع والري بتعبير الشاعر القديم.

مصير خاص
لم يعد مهماً بعد ذلك المصير الفردي للشخصية وقد اكتملت الرؤية الإبداعية، ستمضي بلا شك إلى مصيرها الخاص الذي ينسجم ووعيها والذي سيكون نوعاً من العرفان لمكابداتها في المواجهة ليبقى مصير الجموع سؤالا لا يمكن الإجابة عنه إلا بخروجها من نقطة الانفصالية والمحاباة إلى ساحة الفعل بكل نيرانه وشموسه المستعرة.
في الساحة التي ينكشف فيها الوعي عن أزمته داخل أسوار «الخانكة الكبرى» التي تحيط به هذه الرؤية الخلاقة التي يجب أن نطالب بها أنفسنا، رؤية لا تكتفي بالملاحظة والاستقصاء ولكنها تخلخل وتزعزع، تعرف كيف تنتقي وماذا تنتقي ولماذا، إيمانا منها بأن الفن ليس ساحة للتشويق السطحي الساذج كما أنه ليس مكانا للنزهة المتأملة الهادئة.
إنه ذاك السؤال المقلق الذي يقلب بين كفيه كرة اللهب ولا أحد يعرف متى وكيف يضرمها في نومنا الهانئ المطمئن، ومتى ينقل المأساة خارج جدران «الخانكة الصغرى» التي كابد فيها الوعي فعل التشكل والنضوج.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى