العنف عربياً وعالمياً بين أنظمة مقيدة ومفتوحة

خالد غزال

يتناول كتاب «في ظل العنف: السياسة والاقتصاد ومشكلات التنمية» (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- سلسلة عالم المعرفة، الكويت)، سياسات البنك الدولي تجاه البلدان النامية، سعياً إلى جعلها أنظمة مفتوحة اجتماعياً واقتصادياً، وما ينجم عن هذه السياسات من توترات اجتماعية تعبّر عن نفسها غالبا بمزيدٍ من العنف، بديلاً من أهداف التي قد تضعها هذه الخطط لتحقيق التنمية في هذه البلدان.
يتطرق الكتاب إلى عدد من البلدان في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، ويرصد مسار التوجهات الاقتصادية وما نجم عنها من ردود فعل.
تشمل الأبحاث البلدان الآتية: بنغلادش، جمهورية الكونغو الديموقراطية، الفيليبين، الهند -خصوصاً ولايتي ماهارشترا وولاية البنغال الغربية-، المكسيك، تشيلي، وكوريا الجنوبية، مع لفتة إلى العالم العربي بعد الانتفاضات الأخيرة.
يطلق دوغلاس نورث تعبير «الأنظمة المقيّدة» على هذه الدول، ويقصد بالتعبير المجتمعات التي تقدم حقوقاً وخدمات تستفيد منها بشكل أساسي مجموعات من النخب الحاكمة ومن يدور في فلكها، فيما تحرم منها غالبية السكان. يشير نورث إلى أنّ أكثر من مليار نسمة من الفئات الأشدّ فقراً، يعيشون في ظلّ ما يعرف بالأنظمة المقيدة، وهي مجتمعات مولدة للعنف واستخدامه للحصول على الموارد الاقتصادية وعلى الريوع. وهذه الأنظمة المقيدة تتسبب بالعنف الناجم عن تلاعب النظام السياسي بالمصالح الاقتصادية «بغرض استدرار ريوع تجعل مراكز القوى من الجماعات والأفراد يدركون أن من مصلحتهم الامتناع عن استخدام العنف».
والحكومات في هذه البلدان تتشكل عادة من ائتلافات لتنظيمات وقوى سبق لبعضها أن حمل السلاح وانخرط في نزاعات أهلية قبل أن ينتظم في إطار تسوية سياسية. أمّا الاختلال في موازين القوى بين هذه التنظيمات فيشكل مدخلاً لاهتزاز الأمن فيها، والصراع على الثروات وتوزيعها هو عامل كبير وفاعل في التحول نحو استخدام العنف.
في الدراسات الواردة في الكتاب، ثمة قواسم مشتركة تجمع بين الدول المسماة «مقيدة»، وإن كان بتفاوت بين دولة وأخرى، فالقاسم المشترك الأول هو «مركزية العنف»، لجهة كيفية إدارته وآلية الحدّ منه. ولا يقتصر استخدام العنف على المؤسسات الرسمية من جيش وقوى أمن وشرطة، لكنّ الخطر في أن استخدامه سيكون ناجماً عن وجود جماعات غير حكومية قوية يمكنها توسّل العنف للتدخل في طبيعة السياسات الحكومية الجارية وتعجيلها أو إلغائها.
ويتمثّل القاسم المشترك الثاني في الدور الرئيس الذي تلعبه المنظمات القائمة في تنظيم العلاقة داخل نظام الحكم والاقتصاد والمجتمع بمفهومه الأوسع.
الملاحظ في هذا المجال أن الجماعات القوية تتمتع بدعم واضح ومتميز لمنظماتها، من قبيل التجمعات النقابية أو تجمعات رجال الأعمال أو تكتل الشركات، وهي امتيازات تجعل هذه المنظمات تمارس دوراً فاعلاً ومؤثراً على السياسيات الرسمية، خلافاً للمواطنين والسكان العاديين الذين يفتقدون وسيلة التدخل المماثلة.
يتناول القاسم المشترك الثالث تنظيم التحالفات السياسية والاقتصادية المستندة إلى انتشار استخدام الريوع. يشير الكاتب إلى «أن مصدر الريوع غالباً ما يكون هو الامتيازات التي توفرها تحالفات المصالح القوية المهيمنة على النظام. حيث إن الديناميات الاجتماعية في المجتمعات المقيدة تحركها محاولات من جانب الجماعات المهيمنة للحصول على الريوع، وهي الجهود التي لها آثار مهمة على نمو العنف والسيطرة عليه. وفي بعض الأحيان تكون هذه الأهداف متوافقة ومتجانسة، بحيث تنمو الأنظمة المقيدة بشكل مذهل لبعض الوقت على الأقل، ومن أمثلة ذلك ما يطلق عليه المعجزة البرازيلية والمعجزة المكسيكية في ستينات القرن العشرين». أما القاسم المشترك الرابع، فهو أن أياً من هذه المجتمعات لم يكن مجتمعاً جامداً، فكل هذه البلدان المسماة «مقيدة» مرت بتغيرات، سياسية واقتصادية واجتماعية، ترافقت في بعضها مع موجات من العنف، قبل أن تتوصل إلى إنجاز تسويات داخلية بين قواها السياسية وتنظيماتها الأهلية والمدنية. لا يستوي كلّ هذه الأنظمة في تكوين مؤسسات مقيدة لاستخدام العنف، كما في كوريا الجنوبية مثلاً، بل إن بعض التسويات لا يزال هشاً ويهدد بالانفراط والعودة إلى دوامة العنف.
يعود ذلك إلى درجة التطور في كل بلد ومدى تكوّن مؤسسات مدنية وديموقراطية تمنع العنف من الاندلاع. فلا يتساوى في هذا المجال بلد كبنغلادش والكونغو مع بلد مثل كوريا الجنوبية أو تشيلي والمكسيك لجهة المؤسسات المانعة والضاغطة.
في الإشارات الواردة حول الوضع العربي، يجري التطرق إلى التطورات التي شهدها العالم العربي منذ العام 2011 من خلال الانتفاضات التي قامت في بعض دوله، وهو ما أطلق عليه «الربيع العربي». استقبلت هذه التطورات بالترحيب، وانعقدت عليها آمال كبيرة، وهو أمر طبيعي بعد الاستبداد الذي عانت منه تلك البلدان، لكنّ الواقع قدّم لاحقاً صورة قاتمة لمآل هذه الانتفاضات. يشير الكاتب إلى هذه المسألة بالقول: «لقد خلق الربيع العربي فرصة للتغيير، لكنه فعل ذلك بأن خلق أيضاً ظروفاً ليس من السهل التعامل معها، فإذا كان متوقعاً من القادة في تونس ومصر أن ينتجوا على الفور مجتمعات مفتوحة، وهي التوقعات التي يعبر عنها غالباً مواطنوهم والمجتمع الدولي، فمن المحتم أن يفشلوا في تحقيق تلك التوقعات، ورد الفعل الطبيعي على زيادة العنف في نظام مقيد هو وضع ترتيبات أكثر شخصانية، وتوثيق الرباط بين الأقوياء من الأفراد والمنظمات وبين الريوع التي يتهددها العنف وغياب التنسيق داخل الائتلاف».
يقدم الكتاب قراءات لمجتمعات متنوعة قد تكون مفيدة للمثقفين في عالمنا العربي الذي يمر بمراحل صعبة ودقيقة من تطوره.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى