زكي ناصيف يعود إلى «بيت الدين».. مجد المدرسة المشرقية

الياس سحاب

«يا عاشقة الورد»، عنوان السهرة – التحيّة التي تقدمها «مهرجانات بيت الدين»، هذا العام للفنان الراحل زكي ناصيف يوم الجمعة المقبل في 29 الحالي، ويحييها الفنانون سميا بعلبكي، جوزيف عطية، رنين الشعار والموسيقي وعازف العود زياد الأحمدية، وبإدارة المؤلف الموسيقي غي مانوكيان. هنا مقالة للكاتب الياس سحاب، حول دور الفنان الراحل في نهضة الموسيقى العربية..
يتكوّن المشهد العام لنهضة الموسيقى العربية المعاصرة من جناحين واضحي المعالم:
الأول، الجناح المصري في موجة النصف الأول من القرن العشرين، التي أطلقها سيد درويش وتابعها بعده عباقرة الجيل الأول، ثم موجة النصف الثاني من القرن العشرين، التي تابعها الجيل الثاني، بمساهمة بعض مخضرمي الجيل الأول.
الثاني، الجناح المشرقي، الذي ظهرت بذوره الأولى في إطار النهضة الإذاعية في فلسطين قبل نكبة 1948، ثم استقرت ونمت وازدهرت في العاصمة اللبنانية بيروت، فيما بين 1950 و 1980.
ولعلنا لا نبالغ، إذا اعتبرنا زكي ناصيف شيخ الجيل الذي صنع أمجاد المدرسة المشرقية، ليس فقط لأنه رحل في الثامنة والثمانين من عمره، وهو في عز نشاطه، بل لأنه ايضاً كان أقدم من بدأ عملية الانغماس في البذور الأولى لهذه النهضة، بمجايلة عمود آخر من أعمدة النضهة هو خالد أبو النصر (ولد سنة 1911).
التكون الموسيقي الأول لزكي ناصيف، كما كان هو يروي في أحاديثه الخاصة والعامة، بدأ على الاسطوانات التي كان يديرها والده على الفونوغراف للشيخ سلامة حجازي وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم.
لكن الوجدان الموسيقي لزكي ناصيف كان يتغذى من مصادر أخرى، مثل الإنشاد الديني، الإسلامي والمسيحي (بشقيه السرياني والبيزنطي)، ثم الأعمال الخالدة للموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، الأمر الذي جعله يتقن العزف على عدد من الآلات دفعة واحدة مثل البيانو والتشيلو والعود.
ومع أن إعجاب زكي ناصيف كان بلا حدود بعباقرة المدرسة المصرية في نهضة الموسيقى العربية، خاصة محمد عبد الوهاب، الذي كان يشرح لي في جلسات خاصة، ولأشقائي سليم وفكتور، نواحي عبقريته الغنائية والموسيقية، فإنه عندما حان موعد تدفق الإبداع الموسيقي لزكي ناصيف، مع بقية زملائه مثل الأخوين رحباني، وتوفيق الباشا، وفيلمون وهبي، فقد كان هذا الإبداع يصدر عن الينابيع الموسيقية المشرقية، ينهل منها ويعبر عنها بلا أي لبس، الأمر الذي كان مصدر غنى هائل لتطور الموسيقى العربية في القرن العشرين، بظهور الجناح المشرقي، يتكامل بكل خصوصيته وتميزه وتفرده، مع جناح النهضة الموسيقية، الآتية من القاهرة.
والمعروف أن كل ابناء جيل زكي ناصيف قد بدأوا ثورتهم التحديثية في مكاتب إذاعة الشرق الأدنى، التي انتقلت من يافا إلى بيروت ثم تابعوا الإبداع والانتشار بعد ذلك، من خلال مهرجانات بعلبك وفرقة الأنوار، وستوديوات الإذاعة اللبنانية في عصرها الذهبي.
تميز إبداع زكي ناصيف بأنه كان ينهل باستمرار من الينابيع المشرقية الفلكلورية، في صياغة الشعر الغنائي أولاً، ثم تلحينه. وكان يتشارك في هذه الميزة (كتابة الشعر والتلحين) مع الأخوين رحباني. لكنهما تميّزا عنه بأن مؤسستهما الفنية كانت تضم صوتاً عبقرياً هو صوت فيروز، بينما كانت إبداعات زكي ناصيف الموسيقية تتوزع على عدد وافر من الأصوات، الأمر الذي أوجد فارقاً شاسعاً في الشهرة العربية لإبداع كل من الاخوين رحباني وزكي ناصيف.
كذلك تميز زكي ناصيف بأن عدداً وافراً من دبكاته (مثل دبكة «ليلتنا من ليالي العمر» ودبكة «يا بلادنا مهما انسينا») كان مكتوباً للاوركسترا الكبيرة، بتوزيع موسيقي ناجح، الأمر الذي كان يذكّر بموجة الموسيقى القومية التي طبعت النهضة الموسيقية في أوروبا، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ولعل زكي ناصيف قد حقق في وقت متأخر حلمه بأن تغني فيروز من ألحانه، فصاغ لها في فترة متأخرة من حياتهما الفنية أسطوانة كاملة، توّجها برائعته التاريخية «يا بني أمي» التي كان شعرها من صياغة جبران خليل جبران والتي تعتبر جوهرة نفيسة في تراث الموسيقى العربية بجناحها اللبناني.
ومع عدم تخصّصه بالكتابة لصوت كبير رئيسي يؤدي معظم ألحانه، فقد وضع ألحاناً رائعة لكل من وديع الصافي، وفيروز، وصباح، ونصري شمس الدين، لكن بشكل متفرّق لم تنقصه القيمة الفنية الرفيعة، وان لم تعرف الانتشار الذي تستحقه.
ولعل أروع ما تميّز به إبداع زكي ناصيف، ذلك التوازن بين الصياغة الموسيقية رفيعة المستوى الى درجات عالية، مع الحفاظ الصارم على الطبيعة القومية للينابيع الموسيقية التي كان يستقي منها ألحانه.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى