«حرب على الجدار»… صور تروي حكاياتِ المنسيين من سوريا إلى برلين

( الجسرة)

*رندة صباغ

عين واحدة مليئة بالحياة، تفتحها سندس حوارنة ابنة درعا ذات الاثني عشر عاماً، لتنظر بها إلى العالم الذي تركها وحيدة، عينها التي ستتذكر البرميل الذي هز عالمها وأفقدها والديها وأخواتها الثلاث. سندس هناك في الأردن، ما شقت عصا جسدها البحور، إنما شقت حكاياها المسافات لتحط على جدارٍ كان شاهداً على حقبةٍ غيرت العالم في القرن الفائت، عل ألمها يخبر بمأساة هذا القرن.
هنا أمام نهر شبري يفرد الجانب الشرقي من بقايا جدار برلين صفحاته ليس ليروي ما اعتاده من حكاياتٍ عن شرق العاصمة وغربها، بل ليخبر العالم بقصة حربٍ أخرى، مستحضراً الألم السوري في مجموعةٍ من الصور التي التقطتها عدسة المصور الألماني كاي فيدنهوفر في معرضه الذي يحمل عنوان «حرب على الجدار»، ويتضمن خطين متوازيين من الصور، الأول يقدم من خلاله أربعين صورة شخصية لمصابي الحرب، والثاني يرصد من خلاله ما حل بمدينة كوباني (عين العرب) من دمار جراء المعارك الطاحنة التي دارت بين تنظيم «داعش» والقوات الكردية المدعومة من الطيران الأمريكي.
يبرز فيدنهوفر تحول معالم المدينة، «وكأنها واحدة من المدن الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية» بحسب وصفه، فيصور لنا المسرح الذي لم يبقَ منه سوى بعض الحجارة، وصالة الأفراح، ومحل التصوير الصغير الذي احتفظ صاحب المعرض ببعض ما وجده من صور بورتريه وعرضها ضمن مجموعته ليذكرنا بوجوه كانت تبتسم في كوباني، منازل وساحات، كلها تشهد على ضراوة الحرب، وتفتح أمامك الباب لتسأل عما تبقى، ويقول فيدنهوفر في تقديمه للمعرض «إن حال كوباني هي حال الكثير من المدن السورية مثل حمص وحلب» ويعتبر أنه يقدم نموذجاً من خلال هذه المدينة لبقية سوريا.
أما في صور الشخصيات التي تم عرضها بقطعٍ كبير يحتل طول الجدار، وبأبعادٍ لا يمكن الهروب من حقيقتها، ولا تفادي تأمل أصحابها والبحث في حكاياتهم، يلفت فيدنهوفر الأنظار إلى عدد المصابين الهائل الذي يزداد في سوريا بشكل درامي (أصيب أكثر من 25000 شخص شهرياً في عام 2015 بحسب منظمة الصحة العالمية)، لكن المصور كان أكثر اهتماماً بتفاصيل شخصياته، وإبراز سماتها، من خلال النظرات أو الوضعيات والتقاطات تشعرك بالقوة والندية، فلا تأسرك الإصابة بل الوجوه والابتسامات.
في هذا المكان، تصادق الضحايا من دون أن تعرفهم، تقف إلى جوارهم، وتستحضر معهم ألماً منسياً، فيكاد يلمسك عمار ياسر السلامات بأعوامه الثمانية وهو يبتسم ليبرز وسامته، حتى تكاد تنسى يده المفقودة في قصف قوات النظام السوري لبلدة الحراك، فتحاصرك صورة أمل نصر الله (10 سنوات) التي تفرد ساقيها من تحت سروالها الأنيق لتلمع ساق معدنية، فيسحبك بشير مسالمة (11 عاماً) نحوه ضاحكاً وقد فقد ساقيه الاثنتين، تضحك معه، فيأخذك حزن رقية سلامات ذات الثلاثة عشر عاماً التي تحمل في يدها الوحيدة صورة أخوتها الصغار الذين راحوا ضحية صاروخ قصف ملجأهم في درعا.
يرى فيدنهوفر أن مشروعه يتقصد «إثارة الرعب للوصول إلى نقطة انطلاق حقيقية للتغيير الفعال من خلال صدمة توقظ (الغربيين) من دفء حياتهم المريحة»، ويجد أنه ما يثير استغرابه هو كيف يترك موت أو إصابة شخص واحد أثراً عميقاً لدى المتلقين، في حين أن الرقم الكبير من الضحايا يخفف هذا الأثر، حيث أن «الأرقام تسقط عنها صفة الحقيقة وهي تشتت المتلقي، أما الأفراد فلا»، مؤكداً بأن معرفة الشخص واسمه وحكايته تخلق شيئاً من الشخصية بين الناس.
وبهذا يقدم المعرض جزءاً مهماً من الحكاية، التي تتكامل عناصرها بين ضحايا النظام، وضحايا تنظيم «داعش»، بشراً وبنياناً، إلى أن يأتي أحد موالي النظام أثناء زيارتنا للمعرض، تاركاً بصمته الأخيرة على مجموعة من الصور من بينها صورة خالد نصر أحمد، شاب في عمر السابعة عشرة كان قد فقد ذراعيه وأمه وشقيقتيه أثناء تناول وجبة الغداء في درعا عندما قام النظام بقصف منزلهم، لكن ألم خالد لم يكن كافــــياً ليردع الزائر عن التبجح باسم القاتل ليكتب «سوريا الأسد» بخط كبير على الصورة ناسباً البلاد لمن قطع يدي خالد، وكأنه جاء ليكمل عناصر الحكاية حتى في برلين.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى