آياتُ الصبرِ الجميل في ديوان ‘كاس دموع .. واحد’

( الجسرة )

*جابر بسيوني

يقول الدكتور زكريا إبراهيم في كتابه الخامس من المشكلات الفلسفية بعنوان “مشكلة الحب” الصادر عن مكتبة مصر في طبعته الثانية “فالأم التي تحب طفلها، والإنسان الذي يحب أخاه الإنسان والمتصوف الذي يناجي خالقه مناجاة العاشق للمعشوق: كل هؤلاء إنما يضحون بأنانيتهم ويحطمون قيود تمركزهم الذاتي لكي يهبوا أنفسهم لذلك (الآخر) الذي أصبحوا يعيشون من أجله ولكي ينعموا بعذوبة تلك (الحياة المزدوجة) التي تقوم على الأخذ والعطاء”.

وتتأكد تلك التضحية بالأنانية وتحطيم قيد تمركز الذات وهبة الحياة للآخر في ديوان شعر العامية للشاعرة المعروفة نجوي السيد بعنوان “كاس دموع .. واحد” الذي صدر عن لجنة النشر باتحاد كتاب مصر في عام 2002 ويضم عدداً وافراً من القصائد، اختلفت عناوينها واتحد موضوعها الذي يقدم رحلة قاسية مع المرض وآلامه أبطالها أم وابنها والصبر.

وقد استطاعت الشاعرة نجوي السيد باقتدار أن تجعل من القاريء لهذه القصائد بطلاً رابعاً يعيش ويتفاعل ويتألم ويبكي عبر أحداث هذه الرحلة من خلال صياغة شعرية فنية محكمة مؤثرة ومعبرة .

وقدمت بهذا الديوان واحداً من أروع دواوين الشعر التي تصور عطاء الأم وتضحيتها من أجل ابنها في زمن اِنفرط فيه عِقْد الروابط الأسرية ووشائجها .

ولجأت فيه إلى الأسلوب السهل الممتنع والصور الشعرية البسيطة العميقة الأثر الصادقة الإحساس، والمشاعر التي لم تتخلَّ عن ماهية الشعر ووظيفته، وعَمَّقَ من قيمة هذا الديوان قدرتها على الصياغة الدرامية المكثفة وحسن تشكيلها للمعني والمبني فضلاً عن الأثر الجيد للإيقاعات العروضية التي حملت بموسيقاها الظاهرة وخز الشجن والألم والصبر في نفوس القراء، وتتوحد مشاعر القاريء لمحتوي هذا الديوان من قراءته للإهداء وتقول فيه: “إلى نبض قلبي وكرات دمي وأنفاسي صعوداً وهبوطاً إلى الأمل الذي حلمت به وعندما أصبح حقيقة ملكت الدنيا كلها حتى رأيته يتشقق فزالت الدنيا وما بها من بين يديَّ ولم أعد أطمع في أن أمتلكها ثانيةً وإنما تمنيت أن يعينني الصبر والإيمان على الفوز بالغفران لعل دعائي يصبح مستجاباً فتعود للحلم قوته ويمتد بإذن الله تعالي عمره “.

وعنوان الديوان “كاس دموع .. واحد” هو عنوان أولى قصائده التي قدمت من خلال حركةٍ دراميةٍ متدفقةٍ صورةً رائعة لحيرة أم ورجائها لأن تقدم لابنها كأساً من كئوس الفرح في حفل حظي كل الحضور بكأس منه بيد أنها لم تنل إلا كأساً واحدا هو كأس الدموع الذي بقي آخر هذا الحفل.

ولجأت في استهلال القصيدة إلى التأمل الذي يعكس تعجبها وحيرتها بقولها ص 7 :

“ساعات

تتلخبط الألوان

تتشخبط الحكايات

تهرب معانيها

وتتوه أساميها

ونلف وندوَّر

علشان نفوز بيها ”

ثم تدلف إلى صرخةٍ يَأْسَي لها أي قلب ينبض وتئن فيها كل عين بقولها:

” الفَرْح ليه

بيفرق الشربات

ولحدِّي .. ويفوتني ؟!

من يوم ما تبِّت دا الألم في ابني

والفرح بيعدي

شايل كاسات شربات

لكن ما يحسبني

وضنايا بدُّه فى كاس

وعينه تعاتبني

ناديت وقلت: يا فرح

يا فرح هات لي كاس

وتعالي حاسبني

راح .. ما التفت لينا

والناس حوالينا

غرقانه في الشربات

خدت الضني في حضني

وجريت .. ورحت وراه

وفضلت أترجَّاه

يديني كاس فرحه

علشان عيون الواد

وهو مش داري

وبيملي كأس ورا كأس

ويراضي كل الناس

واما التفت لينا

ما كانش باقي معاه

غير كاس دموع واحد

وكاسات كتير فاضية ” .

وتأمل قدرة الشاعرة في استخدام الأفعال وتفجيرها للأحداث (بيفرق / يفوتني / تبِّت / بيعدِّى / يحسبني / تعاتبني / ناديت / قلت/ هات / تعالي / حاسبني / التفت / خدت / جريت / رحت / فضلت / يديني / بيملـي / يراضي / التفت / ماكانشي) .

فكل من هذه الأفعال يقدم لحظة زمنية تعكس مشاعر نفسية تتوالي لتصل إلى ذروة الحدث وألم المفاجأة المتجسد في بقاء كأس دموع واحد ودلالة العدد واحد للتعبير عن وحدة الهم واتصاله، ويتخلل سياق القصيدة تعبيرات دقيقة تدل قاطعة على مشاعر الأمومة وصدقها (وضنايا بِدُّه ف كاس – وعنيه تعاتبني – ناديت وقلت يا فرح يا فرح – خدت الضني في حضني – وفضلت أترجاه).

وقد كان للتفعيلة العروضية المستخدمة وأجزائها أثر ملموس في الوصول بهذه القصيدة إلى روعتها الفنية، “مستفعلن” فهي تبدأ بسببين خفيفين /5/5 ثم وتد مجموع // 5 والبدء بالسبب الخفيف يتيح للمتحدث القدرة على توصيل ما به من همس وبدقة بالغة في إظهار ما بداخله من مشاعر خاصة الأسي منها، فالشاكي أو الباكي أو المتألم لا يستطيع الكلام بصوت عال أو بنداء خطابي عريض والأسباب كوحدة صوتية قادرة على حمل أدق الأصوات وأقلها وتلك حالة الشاعرة في هذه القصيدة .

كما كان للصورة الكاملة لهذه القصيدة بعمق تشكيلها من أسلوب وصورة وإيقاع ما يجعلها صورة جديدة تدخل إلى قلب المتلقي صادقة مؤثرة.

وتتابع أشجان الأم وآلامها في مرض ابنها في قصيدة “أمر الطبيب” ص 15 وقولها:

” محروم ضنايا م البكا بأمر الطبيب

وازاي أسامح نفسي

لو دمعي انفرط؟ ”

ذروة المعاناة تعكسها الشاعرة في سياق شعري تقريرىّ لكنه يصل بنا إلى غاية التأثر وعمق التأثير والتوحد مع حالتها، وتلجأ إلى الحوار مضمِّنةً صوتَ الابن القائل :

” إدعي لي يا امَّه

لجل أشفي م المرض

إدعي لي يسمح لي طبيبي بالبكا

بِدِّي أفضفض حتى أقدر أرتوي

خوِّفني ليه يا امَّه الطبيب؟

إدعي لي ..

يمكن يوم أطيب

وابكي ساعتها – يا امَّه – من كتر الفرح”

كلمات الابن تزلزل قلب الأم وتدغدغ نبض القارئ برغم مباشرتها إلا أنها تحمل في صدقها الألم الدفين .

وتتقطع عروق الأم ونتقطع معها في قولها :

” حسيت بإني بِدِّي أدخل جوَّه مُخّ ضنايا

واخرج بالوجع

آه” ..

وتلجأ إلى الله – عز وجل –

” يا حي يا قيوم

وحدك تهد جبال

وحدك تقيم سماوات

وللمرض حكمة

وللشفا أوقات

لسّاني صابره حتى تأمر بالشفا ”

وتتجلى هنا – كما تتجلى في محطات هذه الرحلة الأليمة – السمات الإيمانية بقدر الله تعالي وقضائه والصبر على حُكمه وأمره .

” واقرا شكاوي عينيه

ولا يلقي عندي الحل؟

والقاه ساعات حيملّ

أملا له كأس الصبر وَادِّيلُه

وأصلي .. وادعيلُه

وأسلسل الدمعات

لكن ساعات …

تهرب”

ما أروع الصبر “فصبرٌ جميل” وفي هذا رضا واصطبارٌ وصدقُ إيمانٍ وأملُ في رحمة الله عز وجل – يؤكده قولها:

” يا حيّ .. يا قيوم

إشفي ضنايا م المرض

رجعني وف حضني الولد

للدار وللأحباب ..

يا من تقول للشيء كن .. فيكون

يارب هذا الكون ” .

فمن يجيب المضطر إذا دعاه غير الله تعالي، لذا كان ملاذ الشاعرة إليه وعودتها – دوماً – له راجية صابرة .

وخلت هذه المقاطع من الصورة الشعرية لا لشئ إلا لقيمة فنية بعيدة تتأكد بأن اللاجيء إلى الله تعالي والسائر في معيته لا يحتاج إلى بديل عن مشاعره التي يعلمها الخالق عز وجل – وتفصح الأم عن مشاعر الأمومة لدى كل الأمهات في قصيدة “نجوى” ص 21 بندائها:

” يا أمهات الأرض يقتلنا بكا أطفالنا .

أكبادنا .. لو تبتسم

الدنيا .. راح تضحك لنا

لكننا .. ساعات ما نقدرشي

نهادي البسمة للطفل الصغير

لما تضيع من وِشِّناَ “.

وهو نداء يقوِّي من عزيمتها ويزيد من اصطبارها ويشد من أزرها .

لكنها تعود إلى حيرتها وأمنياتها في قولها بقصيدة “يا ريت أقدر” ص 29:

“ياريت أقدر

أجيبلك فَرْح عمرُه طويل

وأجيبلك عمر ما يِقْصَرْ

يا نور العين

يا حلم سنين

دا لحظة ما أنت تتألم

أحس بقلبي يتعصر “.

وتلك مشاعر الأم وفطرتها وتتواصل هذه المشاعر في “العمر لعبة” ص 33 :

” أنام ازاى

وقلبي، نبضي، نور عيني

بيتألم .. ويتقلّب .. ويتعذب؟

ويا ما كنا والأفراح سوا صُحبه

كإن العمر دا لعبه

ما هش صعبه

بتلعبها السنين .. وكتير بتكسبها

وتسرق كل شيء منا .. وتحرمنا

ويتبقي مع اللي باقي م الأيام

صور ماضي بتتكلم

وتحكي لجل نتألم ” .

وفي هذه عودة إلى التأمل والتعمق في كل ما تحمله الأيام، وهو تأمل يعود بالشاعرة إلى الحياة ودورتها وطبيعتها والرضا بها .

وأي إنسان يتمني أن يسافر إلى باريس مدينة النور والجمال إلا الشاعرة التي تضطر إلى السفر هناك لعلاج ابنها وتستهل قصيدتها “باريس” ص 35 بقولها :

” عمري ما كنت أتمني أخطِّي لحدّ باريس

بس المرض القاسي اتحكِّم”

وفي القصيدة ذاتها تقول:

” واماَّ حكيت

قلت: بإبني سافرت باريس

لجل علاجه

بدل المَّره خمس مرَّات

قالوا: يا بختك إنتي وإبنك

حَدّ يطول يوصل لباريس؟

خفت أقول عقبالكم زيّي

أحسن يقبل ربي الدعوة

قلت يا رب يا عالم بيَّ

تكفيني شر الحاسدين

تشفي لي إبني وترحمني

م اللي بإبني مش حاسِّين”.

سرد ذاتي تلقائي يصوّر مشاعر حياتية واقعية في صياغة شعرية مؤثرة ومؤلمة يتعمق فيها أمل هذه الأم أن تكتمل إجراءات سفر الابن للعلاج بقولها في قصيدة “رسالة إلى مسئول” ص 37 :

” أنا باطلب حق لإبن مريض

مستني إشارة على الأوراق

مشتاق يتأكد ..

إن الأرض ما هش بايعاه

وتراب الأرض أما بيتْشم

بيفوح المسك

مشتاق لحقيقة تزيل الشك

الأرض دي ليَّه ولِكْ؟

واللا احنا ما عدنا ولاد الأرض؟ ”

وتعود الشاعرة إلى التأمل في الواقع ومحاولة فلسفته من أجل أن تشعر باستمرار وجودها وشعور الآخرين بمأساتها .

ويتعمق عطاء الأم ومحاولتها تقديم ما يمكن أن تقدم لابنها في قصيدة “ماهش باليد” ص 43 :

” وشرَّفتِكْ أمام الكل ولا قَصَّرت

وعلِّمت الصغار

يقروا حروف اسمِكْ

ويعملوا منه غنيوه

ويبدروا كل حباته

في كل النبض ” .

فهي تتمني له البقاء الذي يتحقق في ذكر الصغار لاسمه وهذا الذكر وسيلة تحقق لها وجوده الدائم، وتلك سمة من سمات الشاعرة تتجلي في تمسكها بالأمل ويتأكد ذلك في عزيمتها المتجددة وتحديها لعوائق الأيام ونوائبها، وتؤكده في قصيدة “اللي وقع .. لو قام” ص 47 :

كتفتني يا زمنْ

ولا هَمِّنِي التكتيف

غرقتني ف الحَزَنْ

علمتني التجديف

وياهَمّ .. مهما الهَمّ

يخنُق كُرات الدمّ

دا اللي وقع لو قام

ممكن ف يوم يِوْصَلْ

فمن مأساتها تنبع الحكمة والقدرة على مواصلة الرحلة مع المرض والألم ومواجهة الأزمة، وتصوِّر الشاعرة معاناتها مع الأيام وتمسكها بالصبر والاحتمال في قصيدة “حسادنا .. والمركب” ص 55 بقولها :

” أنا والزمن ف سباق

أجري ورا الأيام

تجري ورايا ايام

مرة أنا اسبقها

مرات بتسبقني

يا صبر سامحني

لو يوم شعرت بإني مش طايقاك

أو مرة جيتني وقلت مش عايزاك

ونويت أشق التوب

لكني با رجع لك .. وتاني أتوب

وأغني في الموال

وأقول يا صبر جميل

ساعدني أمشي بالحمول.. ولا اميل ” .

وتتعجب من المحيطين الحاسدين في القصيدة ذاتها بقولها :

“ووسط الموج بنتمرجح وناس ع الشط حاسدانا

تشوفنا فزنا بالمركب وبالرحلة

ولا بتشوف مراكب

إلا مركبنا

ولا يعجبها جوه المركب إلا احنا

على قلوبنا نحط إيدينا وبندعى / تعود المركبة بينا / تهدى تاني في المينا

دا من كتر اللي عمله الموج / سنين فينا / نسينا شكله إيه الشط

نسينا يعني إيه نفرح / نسينا يعني إيه نرتاح”

هي مشاعر إنسان لم تستطع أن تخفيها وأرادت أن تصرخ بها مؤكدة أنها إنسان من لحم ودم من غير فصل عن الواقع وأحداثه .

وتعود في قصيدة لو كان باليد ” ص 60 لتؤكد مشاعرها كأم تحدث نفسها قائلة :

” وبا كلم نفسي .. وباقول :

معقول .. بكره يا محمد راح تكبر

وبدل ما احكي لك تحكى لي ؟ ! ”

” واتصور إنه كبر بصحيح

واتصور إنه حكالى عن المحبوبه

وبقاله بدل الدبدوب اللعبة دبدوبه

أتصور .. واتصور .. واتصور ..

ويظل الأمل هو سمة هذه الأم التي تقوى بالصبر والإيمان بقدر الله تعالي ورجاء رحمته وتؤكد ذلك في قصيدة “يكفينا بنعافر” ص 69 بقولها :

” يغلبني مَرَّه الموج / تجرى دموع عيني يشربها موج البحر/ الغِلّ ويا الصبر / بيقووا دراعيني أضرب ف موج البحر / مُوجَهْ ورا موجه / ألمح سراب الشط.

أنده على فرحي / يرن صوت الموج / ضحكه ورا ضحكه / أكره حروف الخوف

وليل مالوش في النصر

طعم الهزيمة مُرّ

طعم الهزيمة صبر

يا ليل مخاصمُه البدر

ذنب السهاري إيه ؟!

والتساؤل هنا يحمل التأمل والقدرة على المواجهة واستمرار التحدي ودليل ذلك في ختام القصيدة ذاتها :

” وحلفت ما أسلم

مهما يكون الموج

الصبر وصَبَرْنا

والحِمْل أهو شيلنا

وان كنا ما وصلنا

يكفينا بنعافر “.

رحلة أم صابرة مؤمنة لا تلجأ إلا إلى الله – عز وجل – في محنة ابنها المريض، تتمسك فيها بأسباب الإيمان والرضا بقضائه ولا ترجو إلا رحمته وعفوه.

تلك كانت رحلة الصبر الجميل للشاعرة نجوي السيد في ديوانها “كاس دموع واحد” وقد كرمتها الدولة باختيارها “الأم المثالية الأولي على مستوي مصر” عام 2007 وقد احتفل بقصة كفاحها كأم مثالية الإعلام المسموع والمرئي والمقروء.

وقد كان لهذا الحدث أثره البالغ في سعادة كل محبيها ومن أحبها بعد أن علم بخطوات كفاحها وأصبحت مثلاً يحتذي به للأم المخلصة المعطاءة، كما أنها رُشِّحت للتصفيات النهائية للأم المثالية على مستوي الوطن العربي عام 2008 بدبي.

فضلاً عن كونها الشاعرة المبدعة التي صدر لها العديد من الدواوين الشعرية ومنها: “شهر زاد”، عرايس الشعر (مشترك)، ضفاير الشمس، الرسائل، وغيرها. وللأطفال: الغابة النظيفة، مدرسة الغابة وحكماء الغابة، وغيرها.

بالإضافة إلى مقالاتها العديدة بالصحف المصرية والعربية ومشاركتها الفعالة في المحافل الأدبية والثقافية .

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى