هنادي زرقة.. عيش حياتين معاً

( الجسرة )

*ياسر اسكيف

من مجموعتها الأولى «على غفلةٍ من يديك» (2001)، تحاول الشاعرة السورية هنادي زرقة، أن تصونَ ما تدعوهُ أوهامها بالشعر. وهي عبر مجموعاتها المتتاليةِ وصولاً إلى إصدارِها الأخير «الحياة هادئة في الفيترين» («دار النهضة العربية»، بيروت-2016)، لم تكفّ عن ممارسة الكتابة الشعرية على أنها تجربة البحث عن الممكن الآخر في العلاقاتِ بينَ الأشياء، كما في تفاصيلِ العيش. والممكن الآخر هنا يبتعد تماماً عن أية قرابةٍ مع الرؤيوية، أو الهرمسيّة، اللذين سوّقتهما وجهات نظر ثقافية عربيّة على انهما افتراض الشيء وما وراءه، بعيداً عن أي أثر للتجربة خارج اللغة.

إنقاذ الحياة
والأوهام التي لا تكفّ هنادي عن محاولة إنقاذها ليست إلا الحياة التي كان لها أن توجَد وتُعاش، أو هي الممكن الذي حدثَ غيره. («أكتبُ لأنقذَ أوهاميَ/ فقط / ولا شيء آخر. ص 11) لذلك فهي تقعُ في الفخاخ التي تنصبها الحياة لها بملء الإرادة على أنّ هذا الوقوع لم يكن له أن يحدث كحياة وعيش لولا إرادة الكشف، وليس الإذعان للقدريّة، عن ممكن مُحتجب بقدرة مُمكناتٍ أخرى (ليست القضية أنني ساذجة/ لكنَّ الحياة ما انفكّت تنصبُ لي فخاخا/ وأقع فيها بملء إرادتي. ص12) فالقدرية التي تتجلى هنا وفي غير مكان من مفاصل التجربة، ليست غير محاولة لاستمالة الحياة التي تتوالد في النص كبديلٍ بلاغيّ من بلاغةٍ أخرى استُهلكت وآن لها أن تتنحى: (أرتعشُ/ مثلَ عشبة صغيرة/ تسمعُ صوتَ جزّازة العشب/ وهي تقترب. ص13) كأنما هو المصير. لكنهُ ليسَ المحتوم بالتأكيد. فجزّازة العشب يمكن أن تتوقف في أيّة لحظة لسبب لا علاقة له برغبة أو إرادة العشبة الصغيرة، ويمكن للعكس أن يحصل. مرةً أخرى هو الممكن المُحتجب، والبلاغة التي تُمهّد له الوجود نصيّا.
يتقاطع هذا وينسجمُ مع الحضور الطاغي للحرب، ويمهّد له، كبلاغة للحياة التي تبدو وحدها الممكنة. الحياة التي لا تكفّ الشاعرة عن مقاومتها بالحياة التي تتخلّق كتجربة من الأوهام والأخطاء والارتكابات، إلى الحدّ الذي يؤكد أن حياتين تقيمان في الفيترين. حياة تقرّرها الحرب ويعيشها الأحياء الموتى باحتيال مُضن على موتهم: (لا شيء/ لا شيء يحدث هنا/ أتصلُ بك/ لأطمئن أنني على قيد الحياة. ص77) وأخرى يحياها الموتى بحضورهم في كل التفاصيل، موتى اليوم، والأمس، وغدا، انهم صور على الأعمدة والجدران، كما في أعين الأيتام والثكالى، وفي الأحلام أيضا (سأتجاهل خيط الدم الذي يتبعني/ مثل ذيل ٍ طويل/ لن أشمّ رائحة البارود/ سأغمض عينيّ عن اللافتات/ وصور القتلى/ هذا ما أقوله كلّ صباح / وفي المساء/ تتلطخُ وسادتي بالدم/ وأحلامي بالصوَر. ص39)

تضاد الحاضر
إنه الممكنُ الآخر دوما، يتأرجحُ بين واقع ٍ يُغمضُ عنه العين، وذاكرة تستحضرهُ بالتضاد مع الآن، أو حلم ينسلُ المُفردات من ركام بلاغة مُحتضرة. فهذه الحربُ، وهذه الوحشيّة التي عمّمتها، ما كان لها أن تحدث لولا العماء الفاجر الذي فرضهُ الممكن الوحيد: (لم تكن الحرب طارئا/ كلّ ما حدث/ أن الحرب قشّرت جلودنا/ وأطلقت قطعان الذئاب/ التي ربيناها طويلا في دمائنا/ الحرب مرآتنا/ تحت أظافرنا/ كان يلمع كل هذا الخراب. ص55)
هذا الممكن الوحيد الذي إن لم يزهق الأرواح فإنه يحاول تجفيفها من كلّ ماء، ويحيلُ أصحابها إلى كائنات ممنوعة من التميّز (أنا امرأة عادية/ أكتبُ الشعر بالخراقة نفسها/ التي أحرقُ فيها الطبخ/ تقع الصحون من يدي/ وتنكسر/ مثل كلمات/ تفرُّ من بين أصابعي/ ولا أفلح في التقاطها أحيانا/ هذا ما أفعلهُ منذ اندلاع الحرب. ص85) لكنَّ الخراقة هنا، والخطأ، أو التفاهة في مكان، أو أمكنة، أخرى ليس إلا انتصارا بالهزءِ، وباللامبالاة، قد يكون لهما صفة المُجاراة، لتفاهة ما كرّسه الوجه الأوحد للأشياء، مجاراة قد لا يستطيعها غير الفن وهو يعيدُ تدويرَ ما اعتُبِر نفايات تحت وطأة غياب القدرة على الفرز والاختيار: (ستقنعني كما يحدث في كلّ فالنتاين/ انني كبرتُ وأن الوردة الحمراء للمراهقين/ وأنه من التفاهة أن تشتري لي أي شيء أحمر/»الدمُ يصبغُ كلّ شيء»/ …/ «انها الحرب يا عزيزتي»/ سأقبلُ دعوة إلى مقهى الرصيف ذاته/ وأكتفي بمراقبة العشّاق والورود الحمراء/ وأقول: ليتني كنت تافهةً حقّا! ص91)
وما يمكنني قوله أخيرا عن (الحياة هادئة في الفيترين) بأنه حياة حقاً، وليس كتابا. حتى أننا نعثرُ فيه، كما في كلّ حياة، على خليط المشاعرِ والانفعالات المتباينة حينا، والمنسجمة حينا، ونصادفُ أيضا لحظات الضعف على بعد شهقات من لحظات القوّة. لا بالمعنى الحياتي فحسب، بل بالمعنى الفني أيضا. انها ليست حياة هادئة أبدا وإن كان ثمّة محاولات كثيرة لجعلها كذلك. وهذه (الفيترين) التي تحاولُ الحرب أن تصنعها على مقاس حياة بعينها، لتبقى هادئة وساكنة دوما، سرعان ما يفاجئُها الشعر بحياة أخرى لكائنات تضجّ برغبتها للانفلات. وقد استطاعت هنادي زرقة أن تتدبّر أمرَ عيش حياتين معا عبر التقطيع والإزاحة، كما التقديم والتأخير، لتقدّم لنا تجربة إبداعية، قد لا تفي أيّة عُجالة كهذه لإعطائها حقّها، وعيشها كما يليق بها.
(كاتب سوري)

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى