عبدالله عقيل: على كتاب القصة ابتداع أشكال لم تطرق من قبل

محمد الحمامصي

تضم المجموعة المجموعة القصصية الجديدة للقاص والمسرحي السعودي عبدالله إبراهيم عقيل “أخرقتها لتغرق أهلها” التي أصدرتها مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر ضمن سلسة القصة القصيرة العربية، سبعة وأربعين نصاً تجمع بين القصة القصيرة والقصيرة جدا، وتستخدم لغة مجازية مكثفة تشتبك صورها في مجملها مع تجليات الذات والعالم، لتقدم رؤى وومضات ومشاهد مشحونة بتناقضات الحياة وما تزخر به من أسرار.

وقد انعكست التجربة المسرحية للكاتب على تجربة كتابة هذه المجموعة، حتى لتبدو لنا خشبة مسرح تتبادل عليها الرؤى زخمها الإنساني دون إطالة أو ثرثرة، كل نص يؤدي دوره في إطار رؤية كلية تسعى إلى كشف اضطرابات الروح في مواجهة التناقضات.

في هذا الحوار مع الكاتب نتعرف على تجربته المسرحية والقصصية وآراءه وأفكاره في الحركة الإبداعية.

يقول عبدالله عقيل “ولدت تجربتي المتواضعة بعد أن مرّت بعدة مراحل وأستطيع تصنيفها ابتداء من البيئة كمرحلة أولى ودورها المهم في انعكاسها على حياة الفرد. أفقت منذ نعومة أظفاري على والد قارئ نهم وعاشق للكتاب في وقت لم توجد أي مصادر للتعلم سوى التعليم النظامي ودفتي الكتاب وقد كانت لرفقة عمتي رجاء وخالتي الروائية ليلى عقيل بين أرفف المكتبات بالغ الأثر في توجيهي وتنمية هواية القراءة إبان مراهقتي والتي أصبحت احتياجا مهما في حياتي.

كنت منبهراً بالعوالم الفنتازية والأنثروبولوجية التي أقرأها وأحياها، فقد كانت محركاً مهماً للغوص في حيوات لولا القراءة لم توجد ولم تكن والتي انعكست في تكويني الفكري بعد بضع سنين وأصبحت شغفاً وبحثاً عن خلق عوالم متخيلة أشاركها ومحبي القراءة دون اعتبار للزمان والمكان”.

ويضيف “بدأت المرحلة الثانية بانضمامي لقسم المسرح بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون ممثلاً ومخرجاً فقرأت كل المدارس المسرحية وكذلك نتاج كبار المسرحيين العالميين وأعزوا الفضل في ذلك لحركة الترجمة والمترجمين الأوائل الذين نقلوا الآداب العالمية للعربية وإن كانت أقل من المأمول وفي ذات الوقت دعمت مكتبتنا العربية بما تحتاجه من آداب ومعرفة.

أغرتني التجربة المسرحية للخوض فيها كاتباً وهنا بدأت المرحلة الثالثة من مراحل تطور التجربة وهي الكتابة للمسرح والتي ولدت من رحمها تجربة الكتابة القصصية والتي نحن بصدد التحدث عنها.

بعد كتاب “الحذاء المنتظر”، نصوص مسرحية والصادر في 2015 عن نادي جازان الأدبي بالتعاون مع الدار العربية للعلوم (ناشرون) و”أخرقتها لتغرق أهلها” الكتاب الأول في الأدب القصصي وحتماً لن تكون تجربة يتيمة فحاليا أعمل على تجربتين منفصلتين الأولى مسرحية والأخرى قصصية ولن ترى النور قبل سنتين من الآن. أثق بأن من يكتب للمسرح حتماً سيكتب كل الأجناس الآدبية.

ويرى عقيل أن حرية السؤال والبحث عن ذات غير مؤطرة تحلِّق أينما شاءت وكيفما تشاء لا خضوع لإطار الرأي الواحد ولا الوقوف لمراقبته في هذا العالم “القرية” بل تجاوزه بلا التفاتة. هذا مفهوم مهم يساهم في رفع سقف الإبداع وتعدد تجارب الكتابة، فقد كانت ولا تزال أحد الروافد الأساسية المسافرة بدورها منذ الأزل بثقافات وحضارات الشعوب في مثاقفة وانفتاح فكري متجاوزة الحدود، ومعززة أسباب التواصل الإنساني في خوض مغامرة معرفة الآخر واستقصاء مدى خبراته وتحديه لهمومه الإنسانية كي يبقى في حالة تشظي تغذي رغبة عارمة لخوض مغامرات البحث عن حيوات أخرى قد لايتسع العمر لعيشها كلها.

وحول حضور القصة القصيرة في لحظتها الراهنة خاصة مع الازدهار الروائي القائم، يشير إلى أن القصة القصيرة أدب حديث ولد من رحم الرواية وعلى الرغم من ذلك تسجل حضوراً فاعلاً يتطور ككل الآداب ودليل ذلك ظهور فن “القصة القصيرة جداً” ولها مريدوها كتاباً وقراءً.

ويلفت عقيل إلى أن القصة القصيرة في العالم العربي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وتأخر ظهورها سعودياً إلى بداية القرن العشرين وارتبطت ولادتها الحقيقية في الصحف فقد كانت على شكل مقالات تعنى بالجانب الإجتماعي.

ويوضح “عربيا وخاصة في مرحلة الستينيات تأثرت الأصوات الأدبية بما حولها من ثورات ومقاومة للمستعمر الإمبريالي وقد تلى هذه المرحلة تحولا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا وقد أثر هذا التحول على الأدباء السعوديين، إضافة إلى التحول الاقتصادي وزيادة أسعار البترول كثير من التحولات ساهمت في تنوع المواضيع التي تناولها الأدباء كالتحول من المجتمع القروي إلى المدني وحالة الاغتراب المكاني والثقافي والفكري ومؤخراً الاغتراب الزماني بعد غزو التقنية.

ويؤكد عقيل أن الأصوات القصصية سواء عربية أو سعودية مرت بأجيال متعاقبة قبل أربعينيات القرن الماضي أثرت الساحة الأدبية بإبداعات وتجارب تعددت مشاربها، منها ما حُفظ ووصل إلينا ومنها ما اندثر وطواه النسيان، ولكنه سيبقى جنس أدبي قائم بذاته ومؤثر في الساحة حولنا ويتجلى ذلك في الإرث الموجود في مكتبات عالمنا العربي.

وينفى وجود أزمة في القصة القصيرة ويقول “ليست أزمة بمعناها المجرد، هو تحدٍ لممارسي فن القصة القصيرة وبإمكان ممارسيه تجاوز السائد والارتقاء بالقادم وذلك بإبتداع أشكال قصصية لم تطرق من قبل إضافة لتكثيف اللغة الشاعرية والغوص عميقاً في إيحاءاتها”.

وفيما يتعلق بمواكبة الحركة النقدية لحركة القصة القصيرة، يرى عقيل أن النقد الأدبي نسق معرفي اختلفت توجهاته بتوجهات ممارسيه، فمنهم من يمارسه لأجل الإصلاح ومنهم بقصد المجاملة ومنهم لأجل الهدم. في أحيان لا نرى نقداً أدبياً فنقول مات، وفي أحيان يسير ببطء حتى ننساه متوقعين مواته في أي لحظة.. نادراً ما تقرأ خطاباً نقدياً يكشف أن ذلك العمل هو مادة خام للتفكير له خصوصيته وبيئته التي أوجدته أو ولدته! كما أنه من الظلم وضع المبدع في قالب جامد تتم قولبته وتصنيفه حسب بعض النظريات الجامدة التي أثبتت عجزها عن اللحاق بخيال المبدعين. وبنظرة متفائلة، من الجميل أن الخطابات النقدية مازالت تسير وربما يتغير الحال في قابل الأيام.

• نماذج من المجموعة

ـ “لا ينبح في وجودي”

في منزلي كلب لطيف، يفتقدني حينما أغيب، ينتابه هوس لرؤيتي، ينبح ويستمر في النباح لا يهدأ ولا يستكين، وحينما أعود وأقف أمامه واضعاً عيني بين عينيه يتحول النباح إلى سكينة وهدوء تخضع لي كل جوارحه.

أعرف مقدار وفائه فهو يراقب ذهابي وجيئتي وينبح أكثر عندما يشك في القادمين.

حتى جيراني أبدوا انزعاجهم من هذا الكلب غير المؤدب على حد قولهم.

قال لي جاري الأقرب: إذا كنت في المنزل لا ينبح أرجوك إذا خرجت خذه معك!

في مرة نبح على غير عادته وقد حال بيننا حجاب، لم يعرف من خلف هذا الحجاب؟ ما كنهه، وكيف يكون؟ هل من الممكن أن يكون بينهما سابق معرفة؟! أم هو الشك حيثما يحل يكون؟

ظهرتُ من خلف ذلك الحجاب فسكت وذهب لحال سبيله.

حينها أيقنت وقلت: عندما أغادر المكان سأضع كلباً خلفي، سينبح كثيراً كثيراً ولكنه سيتوقف محنياً قوائمه إذا رآني.

ـ “ليـل آخـر”

في هجيع الليل الأخير تختلف موازين الحياة، وتنعتق الحرية من مخابئها، تنفض قسوة نهار دام عن جسدها الغض، وتزيح عنها ما بلي من أستار لتذوب في حياتنا كملكة.

كأجمل ملكات الدنيا، تتجمل بتيجانها، ترفل في أفخم الفساتين، وتتوسط قاعة العاشقين.

هناك من يرغب في مسحة من مسحاتها المعظَّمة..

وهناك من يرغب في غسل روحه وتطهير عوالق زمن مضى..

وهناك من يريد أن يروي ظمأ ذاته المتيبسة..

وهناك من يريد تحرير ما تبقى من إنسانية مسحوقه..

جنباً إلى جنب يقبّلون حريتهم الفاتنة، يركعون لعظمة منحها سويعات تتجلى فيها أرواحهم وتتزمل فيها الأجساد قبل أن تحرقها شمس نزقه ليوم نزق آخر..!

تطرق حصون القلب ويسرع الفاتحون للجلوس على عروشهم.

فمنهم من وجد عرشاً يحتاج لفاتح غر يلملم ما بعثره الزمن، ومنهم من وجد عرشاً قد هجره فاتح قبله، ومنهم من قاتل وظفر بعرش جديد، ومنهم ومنهم ومنهم.

لحظات الظفر لا تدوم وشمعة العبودية حتماً ستنطفئ.

ترفض أن تتحرر وتنعتق من عبوديته المتوحدة وللامبالاته النرجسية.

بحجة ماذا سيقول المجتمع؟!

تطير كل ليلة من عرش لآخر وتمضي ربيع عمرها بحثاً عن بطل غير مألوف.

كل ليلة تتنازعها سهام الفاتحين، وتأبى إلا إثخان الطعنات وكأنها تروي عطشاً لن يرتوي أبداً

إبدال العروش يشعرها بأنها ملكة لكل القلوب!

برز أمامي ما قاله نيتشه: “المتوحد يلتهم نفسه في العزلة، ومع الحشود تلتهمه أعداد لا متناهية”.

ولن تجد السبيل لإيقاف سيل التهامها؛ فآهاتها الليلية تحييها وتبث الأمل من جديد بغدٍ أجمل وعرش أجمل.

ـ “صرخة”

علّق لوحة على حائط معبده كما يسميه، وقف أمامها متجاهلاً ذاته غير واثق أنه هو صاحبها وهو من أتمّها.

تختلف مدرسة اللوحة عن مدرسته التي ينتمي إليها، وفي نفس الوقت لا تنتمي لشيء آخر، خلقت هكذا، كائن يبحث عن فرصة للعيش!

غاص في تفاصيل ما صورت براعته تذكَّر بعضاً مما ترك ندوباً في حياته.

صديقه روائي يمارس نفس عملية الخلق، أحدهم يرسم بالألوان وآخر بالكلمات وفي حياتيهما أمور متشابهات.

ذهبت لزيارتهما وإذ به يقول: هذا فنّي فن حقيقي لا يقبل القسمة ولا يكيل بمكيالين، لا يصفق لأحد ولا يضعه داخل مزهرية بل داخل ورق ولوحة!

أحب أن أصنع فنًا صادقاً ليس يميناً كاذباً مداهناً متلوناً.

وأضاف الروائي: اللغة الصادقة، حينما تداهن تفقد حياتها!

الشيء الحقيقي هو ما يسكنك لا ينفصل أحدكما عن الآخر تحيا به ويحيا بعدك.

تلبّستُ شهوة الحديث على عجل:

وتستمرون في السير خلف خطيئة قد سولت ووسوست لكما نفساكما العيش تحت ظلها، حياة الظلال حياة مخيفة قد تأخذك معها وتحبسك داخلها لا فكاك ولا خروج!

ماذا سننتظر من هكذا بشر؟! “حاصرتني كلمات الرسام وقذفت داخلي حممها”.

– شوهت خطاياك حياتنا وضاقت الحياة.. لن أغضب منك ولكني سأخبرك برد بيكاسو حينما رسم الجرنيكا، وجاءه الفاشيون ليسألوه هل أنت من رسمها فأجابهم بل أنتم.. بل أنتم!

وأشار إليّ بإصبعه!

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى