التشكيلي الجزائري علي سيلام: الرسم لعبة طفولية… ولا تقاعد في الفن

صهيب أيوب

في بيته المؤلف من طابقين، في مدينة أنجيه (غرب فرنسا)، ينشغل الفنان «فرانكو – آراب» علي سيلام (مواليد 1947) بإنهاء لوحاته. تكلفه يومياته وقتاً إضافياً. ينتقل فيه، بين محترفه المفتوح سقفه لضوء الشمس، وغرفته في الطابق الثاني. يجلس فيها خلف «لابتوبه» ينجز، أيضاً، رسوماً وتخطيطات لكتب شعراء فرنسيين ومن شمال أفريقيا. يخاطرون في إنتاج أعمالهم بشكل يدوي. ويمرر بين هذه الانشغالات جولات مستقطعة للمشي والطبخ، فهو كما يقول، «تشكيل» يشبه الرسم ومداعبته.
ينتمي سيلام إلى مدرسة نهضوية في الفن التشكيلي. فهو تأثر بالرواد الأوائل في الجزائر وبأعمال الفرنسي كلود مونيه وغوستاف كوربيه، أحد مؤسسي المدرسة الواقعية. لكن هذا التأثر لم يلبث أن تحول سريعاً، إلى محاولة خاصة، طغت عليها ما يعرف اليوم في كليات الفنون في جامعات فرنسا بـ»لغة» علي سيلام الفنية مستدركة خصوصيتها ورموزها، وهي لغة لا يمكن عزلها عن تطورات الفن التشكيلي في المغرب العربي بشكل عام، والجزائري بشكل خاص. فهو كان من الأوائل الذين برزوا في إعادة إنتاج «الإرث» الشفهي لشمال أفريقيا ودمجها بلغة غير نمطية، و»مودرن»، ولا تستعطف النوستالجيا، وتتجلى في ألوان حادة وحالمة في آن، وأيضاً فيها الكثير من الطفولة الساحرة.
يقول سيلام في لقاء خاص مع «القدس العربي»، أن تجربته «تراكمية». بدأت منذ طفولته. «ولدت في زمن الاستعمار في قرية الزفيزف، (مارسييه لا كومب كما عرفت حينها بالفرنسية)، تأثرت بالبيئة الحياتية والجمالية فيها. كان للطين والشجر والطبيعة بصمة خاصة في رسومات طفولتي. لكن ما كان جلياً هو تفاعلي مع الشعر. كانت معلماتنا الفرنسيات، (لم تكن اللغة العربية تدرس يومها) يجبرننا على التعبير عما سمعناه من قصائد شعرية بالفرنسية في رسمه. وهو فعلياً ما ذهب بي إلى الفن. كأداة تعبير أولى، خاصة ومتفردة ولا يمكن لأحد أن يتدخل بها». لكن ما كان لسيلام، في حصة الرسم، هو إرضاء لمعلمته مدام موريس، التي كانت شديدة الجمال، «للحقيقة، كنت أبحث عن حبها من خلال لفت نظرها بالفن»، يقول مبتسماً.
لم يكن في بيت سيلام أي أحد يتقن الرسم أو يجربه. والده خيّاط، استطاع أن يلفت انتباهه الشره إلى الأقمشة وألوانها. شاء القدر أن يتعرف إلى أعمال كلود مونيه لاحقاً وأن يجذبه نهائياً إلى عالم التشكيل. فدخل «مدرسة الفنون الجميلة» في العاصمة الجزائر. «في الجامعة لم أتعلم الرسم فحسب، بل خضت تجربة كان لها تأثير كبير في حياتي، حيث انتخبت عام 1969 ممثلاً للكلية، في الاتحاد الوطني للطلاب الجزائريين، التي كانت تخوض صراعاً مع الحكم. وكان يومها ما عرف بالثورة الثقافية التي جاءت على أثر الثورة الزراعية، التي أعادت ملكية الأراضي إلى الفلاحين. ومن يومها تعلمت كيف يتفاعل المرء مع قضايا بلده ويتحدى فيها الظلم والديكتاتورية».
عرفت الجزائر لاحقاً، في حكم الشاذلي بن جديد (1979)، الذي خلف هواري بومدين، فترة شديدة القسوة والحساسية، وكان للفنانين والمثقفين الجزائريين دور بارز في إعادة تشكيل الحياة الديمقراطية في البلاد. في هذه الفترة تعرف سيلام إلى الباحثة دليلة مرسلي. وشاركا في حركة مدنية ضمت مثقفين من الحزب الشيوعي، وصارعت ما سميّ بـ«أسلمة» المجتمع الجزائري. لكن ما كان مفصلياً، مقتل أبرز أعضاء الحركة، وهو الكاتب الطاهر جاعوت (قتل عام 1992)، وتصفية الإسلاميين لرفاق له، كانوا يحققون في حادثة مقتله. وهو ما دفع بسيلام ودليلة للخروج نهائياً من الجزائر. يقول: «كانت فترة صعبة للغاية. ذهبت إلى المغرب وبقيت فيه فترة قصيرة، استطاعت دليلة الانتقال إلى باريس للتدريس في جامعة السوربون، ثم لحقت بها لاحقاً. الغربة ساهمت كثيراً في تشكيل مشاعر قاسية، فقدت معنى البراءة. لكن استطعت في الفن تجاوزها، ساعدني الرسم على تفكيك آلية الغربة والنوستالجيا والأهم اكتشاف الوطن بطريقة مختلفة».
على الرغم من تفاعله في الحراك السياسي، لم يتوقف سيلام يوماً عن الاشتغال بالفن. كان يكتشف كل يوم الإرث الخاص بشمال أفريقيا، «أخذت كثيراً من الخط العربي، وانسجمت مع الفن البيزنطي أيضاً، ثم كان للأوشام، دور في أعمالي. اشتغلت على الرموز المتوارثة في الجزائر». أسس مع رفاقه في الجزائر عام 1967، حركة فنية، اعتمدت على إبراز الرموز الأمازيغية في الفن الجزائري، وهو ما كان الحكم يحاربه، كهوية وفن. وضمت الحركة، شكري مسلي ومصطفى عدّان. يقول: «كانت تجربة مختلفة. تعلمت فيها أيضاً اختبارات منوعة وهي ما شكل لاحقاً عدّتي التشكيلية». لكن تأثر سيلام، بالأسطورة اليونانية، ذهب به إلى العمل على لوحات حول «إيكار» ابن «ديدال»، حيث استخدم الطوطم والطلاسم، ثم تعرف لاحقاً عبر البحث إلى الطوطم المدغشقري، وهو ما يظهر في أعماله بقوة وله حضور شاخص. يستخدم سيلام الأكريليك والرمل وأوراق الصحف والذهب والورق المقوى والفحم، ويبتعد عن الزيت، لسبب صحي. ومع تنوع هذه المواد استطاع أن يوظف الشق اللعوب في شخصيته. فالطفل الذي لا يكبر في الرسم، يظل عابثاً. «الرسم لعبة طفولية لا تنتهي»، يقول جازماً، ثم يضيف: «الرسم إن لم يطغ عليه اللعب لن يؤدي طريقه إلى الناس. الناس تحتاج أن ترى هذا اللعب وتعجب به. أنا طفل كبير يلعب»، مشيراً إلى أن «الفن لا يتقاعد يوماً».
في الثمانينيات، قدم سيلام معرضاً حول رواية كاتب ياسين «نجمة»، وهو ما لفت نظر المهتمين في الغرب بأعماله. كان للمعرض صدى واسع، خصوصاً أن الرواية تعدّ من اهم الأعمال الأدبية الفرانكوفونية، وأضاف سيلام لها بعداً تصويرياً تجلى في بطلتها. «نجمة أبرزت فعلياً اهتمامي بالمرأة ككائن مستقل وحيوي ومثالاً للجمال والفن». وهو ما دفع بصحف فرنسية وفرانكفونية ومجلات متخصصة لاستقطابه للكتابة عن الرسم والتشكيل. فسيلام إضافة إلى الرسم، له دراسات حول التشكيل والفن المعاصر والرسم والتجربة الفرانكو – عربية في شمال أفريقيا. وتدرس بعض هذه الدراسات في كليات الفنون. وبين تنقله في عوالم عدة، استمالت القبب اهتمام سيلام. فخصص جزءاً كبيراً من اشتغاله لرسمها وتخطيطها والتعامل معها كثيمة. فهو تتبع تشكيل القبب الصوفية في مساجد المغرب والجزائر وتونس. «القبب لها سحرها»، يقول. موضحاً أن «أشكالها باهرة وهي فن قائم بحد ذاته». وشغلته قبة الصخرة في المسجد الأقصى، فقدمها للغرب كنموذج حضاري وملتقى للأديان والحضارات. فأعجب بالدائرة والأوكتوغون وأشكالها. ومشروع القبب سيقدمه قريباً في إحدى مدن غرب فرنسا، في معرض في أول أكتوبر/تشرين الأول المقبل، إضافة إلى ثيمة القبب، قدم سيلام ثيمة أخرى لها علاقة بالصلب. من صلب المسيح والحلاج أخذ الحكاية. فتظهر لوحاته عملية الصلب في حجمها وشكلها، كرمز في تشكيل اللوحة. ومن أفريقيا، والبيروغ، استخدم القوارب الأفريقية النهرية، حيث يبدو منشغلاً بالتاريخ أيضاً وليس فقط إرثه وحضارته وأسطورته. فتجاوز عدد أعماله الـ3 آلاف لوحة، إضافة إلى منحوتات كثيرة، بيع معظمها، وقدم بعضها الآخر في متاحف فرنسية وإنـكليزية، لكن كل هذا يدفعـنا إلى سؤاله، اي لوحـة ـلم تنجـز بعد؟، يجــيب بصـوت هادئ: «لـوحة الذكـريات».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى