ميشيل ويلبيك.. رواية عالم يتفكك

محمد ناصر الدين

يصف ميشيل ويلبيك كتابه الثاني «البقاء حيّاً» بأنه «إعلان حرب على العالم، مصحوب بإعلان حبّ على الشعر. عندما يكتب أحدهم الشعر، يتبرأ مباشرة من النصف الثاني الذي يسكنه، وهو المثقف». جملة مقتضبة تكفي كي نفهم لماذا سبقت محاولات ويلبيك الشعرية («البقاء حيّاً» و «معاودة الفرح، ١٩٩١) أعماله الروائية مثل تمديد ميدان الكفاح (١٩٩٤) و «الجزيئات الأساسية» (١٩٩٨)، الى «الخريطة والأرض» (٢٠١٠)، وصولا الى روايته الإشكالية «خضوع» (٢٠١٥). أعمال توجت ويلبيك أيقونة جديدة للرواية الفرنسية، على شكل بالزاك أو إميل زولا معاصر، بحسب رأي غلاة معجبيه، وانتقلت بمعظمها الى الشاشة الكبيرة.
«الروائي الذي يأتي محمولاً فوق قارب من الفضائح»، هكذا وصفته صحيفة «لو فيغارو» في ملحق خصصته له منذ فترة قصيرة، الفضائح التي ابتدأها بوصفه جاك بريفير عام ١٩٩٢ بـ «الأحمق الكبير»، واستكملها بوصفه للإسلام «ديناً يسعى منذ نشأته الى إخضاع العالم، بواسطة منظومة عسكرية متعصبة تقود البشر الى التعاسة». ابتعد ويلبيك منذ رواياته الأولى عن تقليد التحليل النفسي الروائي، مفضلاً عليه البعد السوسيولوجي، بحيث تصبح الشخصيات داخل الرواية انعكاساً للوسط الاجتماعي والمهني الذي تنبثق منه: في «الجزيئات الأساسية»، يروي ويلبيك قصة التوأمين، ميشيل وبرونو، المتروكين منذ الولادة من أسرتهما البيولوجية بوصفهما ضحيتين لليبرالية الجنسية في بحثهما الحثيث عن الدفء في العلاقات الإنسانية، بعد استهلاكهما كل طرق الاكستاز والعلاقات المتعددة، لينتهي الأمر بشريكتَي التوأمين، كريستيان وآنابيل الـي الانتحار، كضحيتين أيضاً للعصاب وعدم الاكتفاء الجنسي داخل شرنقة من العلاقات المحكومة بالعذاب والتمزق. يختار ميشيل المنفى بينما يغيب برونو في البحر، تاركاً خلفه أبحاثه الجينية التي «ستغيّر البشرية»، الفكرة التي سيتّخذها ويلبيك نواة لعمله اللاحق، احتمال جزيرة (٢٠٠٥). تدور أحداث الرواية في القرن الثلاثين، بحيث اختفت كل الأديان الكتابية بعد كارثة نووية، ونجحت طائفة الرائليين العلمية بإتقان عملية الاستنساخ والتحكّم بالكود الجيني بما يسمح للنوع البشري بالاستمرار بفضل الطاقة الشمسية والماء والأملاح المعدنية. تتكوّن الرواية من تتالٍ سردي، ابتداء بدانييل ١، آفاتار الكاتب، ثم تعليقات للمستنسخين عنه، انتهاء بدانييل ٢٥. تصف النسخ اللاحقة دانييل الأول بأنه «إنسان مستقيم، لكنه محدود وممتلئ بالتناقضات التي ستقود النوع الى هزيمة محققة، باحث دؤوب عن الحب، الذي سيجده في ايزابيل، التي ستمنحه إياه، دون الاكتفاء الجنسي، لينتقل بعدها الى استير بأعوامها العشرين التي ستمنحه الجنس دون الحب». ينتهي الأمر بدانييل،على شاكلة كل ابطال ويلبيك منتحراً، بعزاء وحيد تعده به الطائفة: النسخ اللاحقة من كوده الجيني ستكون عبر «ماكينات متقنة» متحررة من المشاعر، والخوف، والحب، والرغبة الجنسية، بشرية منسحبة من «إرادة الحياة»، بحسب شوبنهاور، وغارقة في اللامبالاة الكاملة.
العالم الروائي
في «الخريطة والأرض» (٢٠١٠) تجتمع كل المكوّنات الأساسية للعالم الروائي لويلبيك في عمل جبار شديد التعقيد والمتاهة: رفض العالم كما هو، عالم المعاناة، وغربة الكائنات البشرية المتشظية، والمنطق الرأسمالي القائم على المنافسة الكونية وطغيان الرغبة: «سوبرماركت اجتماعي هائل تتبرمج فيه مراهقة البشر والسلع وضرورة أن يرغب المرء وأن يكون مرغوباً، وأن لا يكفّ عن الكفاح ضد الموت الاقتصادي والاجتماعي المعولم». تتناول الرواية مسيرة الرسام جايد مارتان، المهووس بتقديم رؤية موسوعية للكون من خلال أعماله الفنية التي تناولت كل وسائل الإنتاج البشرية منذ فجر التاريخ، وانتقلت الـى تصوير غرافيكي ضخم لكل مقاطعات فرنسا. لا يُسعف المال ولا الشهرة مارتان في الحصول على السعادة، بعد فشله في الحصول على قلب امرأة، أولغا، لتتوالى خيباته بعدها بسرقة أجمل بورتريهاته، الذي خصصه مارتان لكاتب شهير اسمه ميشيل ويلبيك! ينسحب بعدها مارتان الى قريته، ليراقب بهدوء تآكل الأشياء وفناء العالم.
في روايته الأخيرة والأكثر إشكالية، «خضوع» (٢٠١٥)، يواصل ويلبيك منهجه في تفكيك فرنسا المعاصرة، والتحليل الاجتماعي الروائي لقلقها، وفانتازماتها ومخاوفها، في بلد مهزوز بفعل العولمة، واختلال موازين الهوية، وتصاعد تدفق المهاجرين وصعود الإسلام السياسي والسلفية الجهادية داخل القارة العجوز. عام ٢٠٢٢، ينجح محمد بنعباس، سكرتير «الأخوية الإسلامية» بالوصول الى سدة الحكم بعد منافسة شرسة مع مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبين، ببرنامج انتخابي يقوم على القاعدة الإخوانية الشهيرة «الإسلام هو الحل» بنوع من الشريعة ـ سوفت (Soft Shariaa)، وبمباركة من نخب اليسار والوسط المأزومة والفاسدة في بلاد استنفدت كل الحلول الممكنة بفعل خدر فراغها الروحي وأزمة هوياتها وفساد نخبها. لا يلبث بنعباس أن يطبق برنامجه الانتخابي بحذافيره: خصخصة الجامعات وأسلمتها بتمويل سعودي، إجبار الأساتذة على اعتناق الإسلام، تشريع تعدد الزوجات، مقابل بحبوحة اقتصادية يؤمنها الحكم الجديد شبيهة بالنموذج الأردوغاني.
آه يا فرنسا
يجد بطل الرواية فرانسوا نفسه مجدداً في السوربون، محتفظاً بمقعده كأستاذ بعد اعتناقه الإسلام، وسط دوامة كبرى من الانتحار الأدبي والفني، والبروباغاندا السياسية والإعلامية، وتمدّد الأسلمة الى كل مفاصل الدولة والمجتمع في بلد ضاع تراثه اليهودي ـ المسيحي وانتهت فيه مبادئ الجمهورية، ضياعاً يشبه الذي عاشته جدة ميشيل ويلبيك، حين طردت برأيه من الجزائر لتدور في شوارع مرسيليا باكية: «آه يا فرنسا». يطرح ويلبيك الإشكالي كعادته وضعية شديدة الالتباس والتعقيد، مختبئاً خلف ستار عالم الاجتماع أو الاتنولوجي المحايد وببرودة الشاهد المعهودة، وهو الرؤيوي الذي تنبأ بصعود البعبع الأصولي في رواياته التي استبقت الأحداث الكبرى من الهجوم على برجي نيويورك الى هجوم الباتاكلان وانتهاء عملية الدهس في مدينة نيس. قد تكون الرسالة الأكثر عمقاً في هذا العمل الأخير هو التركيز على الأهمية القصوى للرابط الاجتماعي الذي يمثله الدين، حيث يمثل تحول المجتمع الفرنسي نحو الإسلام نوعاً من النفق التجريبي للخروج من أزماته الكبرى، إضافة الى رسالة ثانية تقليدية، بأن الأدب، أي أدب، لا يعطي أجوبة جاهزة، بل يزدهر بطرحه اسئلة عصره، المهمة التي أتقنها ويلبيك حتى النخاع.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى