ناجي العلي… كلمة السِّر هي الوطن

نضال القاسم

في الثاني والعشرين من تموز/ يوليو 1987 أطلق مجهولٌ النار على رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي في لندن، حيث نُقل في حالة غيبوبة إلى غرفة العناية الفائقة في مستشفى سانت ستيفنز، ومنها إلى مستشفى تشارنغ كروس، وبقي في الغيبوبة لمدة 38 يوماً إلى أن فارق الحياة في 29 آب/ أغسطس من العام نفسه، وكأن جسده بدوره كان يقاوم بعد أن قاومت ريشته ربع قرن.
واليوم، يبدو العلي، مثقفًا عضويًا ارتبط بطبقته حتى اللحظة الأخيرة، ورفض الإغراءات والعروض الكثيرة للانحراف عن المسار الوحيد الذي رأى فيه ضمانة العودة إلى الوطن السليب..
هذا الفتى المرهف الشفاف المثقف الملتزم، صاحب القضية وحامل الرسالة، كان شاهد عصره، ومؤرخ قضيته، وكانت الدنيا كلها أمامه ليمتح منها أفكاره ورؤاه، وفي ضميره هذا الكم الهائل من التجارب والأحاسيس التي جعلت منه فناناً متفرداً في فنه شكلاً ومضموناً. والرصاصة التي طالته في لندن، لم تكن بحجم الهدف ولم تنل منه شيئاً، وإن كان قد توقف عند حدود (50) عاماً فسيبقى كل الزمن المقبل عمرا له ويوما من أيامه.
وقد كان مفتاح شخصية ناجي العلي هو إيمانه أن فلسطين هي كل فلسطين، فقد آمن ناجي بأن فلسطين كلها له ولا يوجد فيها شبر واحد للبيع أو للتنازل أو للإيجار، كلها أرض واحدة اسمها فلسطين، كان اسمها فلسطين صار اسمها فلسطين وسيظل اسمها فلسطين، ومن دون أن تكون ملكية الأرض لأحد، الأرض لشعبها وليس لأفراد والتصرف بالأرض ليس حقا فرديا، فبالتالي تحويل فلسطين إلى مكتب عقارات لبيع أراضي أو لتبادل أراضي ضد العقيدة الموجودة داخل ناجي وهذا ما جعل مجموع أعدائه أكثر من أصدقائه حتى لو كان أصدقاؤه كل الشعب الفلسطيني.
ولأن ناجي العلي بريشته التي رسمت حكاية فلسطين الجريحة كان يبحث عن الحرية ويشعل لها مجامر البخور، ويؤجج نار الثورة والغضب والنضال من أجل الوصول إليها، فقد قتلوه ظناً منهم أن قتله ينهي الحقيقة‏ التي مازال الفلسطينيون يرسمون ببطولاتهم ومقاومتهم أروع صورها متسلحين بفلسفة الموت والاستشهاد.. فلسفة تعبق برائحة التحدي والقوة المؤدية إلى الانتصار العظيم المكلل بالمجد.‏
كان ناجي حقيقة مطلقة لا تقبل الخطأ، وحارساً للجنَّة من النهر إلى البحر. رقيقاً لا يكره أحداً، لكنَّه لا يساوم على حدود فلسطين، كان مثقفاً لا يحبُّ إلا الخطوط التي تسير بشكل مستقيم نحو فلسطين، صادقاً حتَّى الموت. من هنا ومن هناك ومن كل تفاصيل هذا الفارس العربي الذي ما تَرجَّل يوماً عن فرس الرهان، ومن خلال هذه الكلمات نحاول أن نُعيد لون الذاكرة إلى الأحمر، ونُعيد فتح كتاب الحياة لدى فارسنا الذي انتقل عبر صهوات المجد إلى فضاءات لا تنتهي، فمن 1937 إلى 1987 ومن الشجرة (بين طبريا والناصرة) إلى كل أرجاء هذا الوطن المثخن بالجراح يمتدُّ ناجي العلي مليئاً برائحة الأرض التي ترشح الآن بدماء من مرّوا، محمَّلاً عبءَ المسافات، متجاوزاً حدود الذات.
وعندما أطلقوا رصاصهم الغادر على رأسه لم يضعوا في حسبانهم أن حنظلة الذي كان شاهداً حقيقياً على كل المراحل والأحداث، لم يمت، ولم يتأثر بنيران رصاصهم، بل بقي حياً متوهجاً في ذاكرة الملايين، وفي ذاكرة كل طفل فلسطيني حمل الحجارة ليقاتل بها فكانت أبلغ من لغة الرصاص.‏ كما لم يكن هذا الرصاص القاتل إلا الدليل القاطع على خسّتهم وخوفهم وجبنهم، وبالتالي ضعفهم أمام ذلك الإبداع الفني الذي يحكي قصة شعب مهجّر شردته الصهيونية المزروعة في أرض فلسطين، فعاش في الشتات وفي المخيمات حياة البؤس والشقاء والفقر والمعاناة، لكن من دون أن تفتر عزيمته أو تلين، وظل الصوت مدوياً، يناضل بالسلاح والكلمة والريشة المبدعة لاسترجاع ما أخذ منه بالقوة.‏
ولابد من الإشارة هنا إلى أن اللقاء العابر لناجي العلي عام 1962 مع الأديب والكاتب الفلسطيني غسّان كنفاني قد غيّر مجرى حياته. الذي أطلعه على عدد من رسومه، فلمس كنفاني موهبته وحماسته فنشر له رسماً في مجلة «الحرية» يمثل خيمة على شكل بركان، حيث شكلّت له تلك اللحظة النقلة الأهم في حياته وتعاطيه مع قصة الرسم، التي كانت لها تأثيراتها اللاحقة والأساسية في تجربته الحياتية والإبداعية، إذ أنه سافر بعد عامين من ذاك الحادث إلى الكويت ليعمل رساماً ومخرجاً وكاتباً في مجلة «الطليعة» الكويتية، لسان حال القوميين العرب في الكويت، التي كانت آنذاك إمارة صاعدة، وقد استقبل العلي بحفاوة في «الطليعة» التي أضحت مدرسته الأولى ومنبره الأسبوعي لمخاطبة قرائه، وكان ذلك بداية عمله كرسام محترف، راح ينشر رسومه بتواتر متزايد إلى أن انتقل عام 1968 إلى جريدة «السياسة» الكويتية، وبقي فيها رسام كاريكاتير حتى عام 1975 عندما عرض عليه العمل في جريدة «السفير» اللبنانية، في وقت كان الانقسام السياسي في لبنان قد بلغ مبلغه، وراحت رهانات القوى اللبنانية تفرز بحد السكين القوى السياسية والاجتماعية، وتترك ظلالها القوية على كل وسائل الإعلام.
وفي عام 1977 أصبح العلي يعمل رساماً لصحيفة «السياسة» الكويتية إضافة إلى «السفير» حتى عام 1982، وفي هذه الحقبة كانت رسومه تمس كل الأطراف، من الأعداء المعلنين: إسرائيل وأمريكا، إلى قائمة دول الاستبداد العربية إلى كل أعداء العرب وفلسطين، فرسم عن الديمقراطية والبترول والمخيمات والفقر والمعتقلين السياسيين، والخلافات العربية والخلافات الفلسطينية والتنازلات المعلنة والمضمرة، وكانت في كل ذلك نجمة الصبح لها اسم واحد: فلسطين.
وبين عامي 1982 و1985 غادر إلى الكويت وعمل مع صحيفة «القبس» حيث نشر فيها مجموعة من أقسى الرسوم النقدية عن القيادات الفلسطينية، التي ظلّ يهاجم فيها كل من يبتعد خطوة عن فلسطين الوطن والمعاناة والحلم، من الأنظمة العربية إلى القوى الفلسطينية نفسها، الأمر الذي أجبره مجدداً على مغادرة الكويت بسبب الضغوط الفلسطينية إلى لندن ليعمل في «القبس الدولي» خلال ذلك بقي وفياً بصرامة نادرة لخطه السياسي النقدي الذي لا يقبل المساومة ولا المناورة، واستمرت رسومه تتسم بنقدها الحاد، إلى أن جاءته رصاصة لندن صبيحة 22 يوليو/تموز 1987.
وفي يوم 8/ 2/ 1988 وصف الاتحاد الدولي لناشري الصحف في باريس ناجي العلي، بأنه واحد من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر، ومنحه جائزة « قلم الحرية الذهبي» وسلمت الجائزة في إيطاليا إلى زوجته وابنه خالد، علماً بأن ناجي العلي هو أول صحافي ورسام عربي ينال هذه الجائزة. وقد اختارته صحيفة «أساهي» اليابانية كواحد من بين أشهر عشرة رسامي كاريكاتير في العالم. وبعد وفاته، أقيم مركز ثقافي في بيروت أطلق عليه اسم «مركز ناجي العلي الثقافي» تخليداً لذكراه، كما حملت اسم الفنان مسابقة الرسم الكاريكاتيري أجرتها جريدة «السفير».
رموز ناجي.. حنظلة والشخصيات الأخرى
على الرغم من مرور تسعة وعشرين عاماً على غيابه إلا أن ناجي العلي لم يزل «خبز الفقراء» اليومي، ورموزه لم تزل تعبر عن واقع الأمة، بكل حالات فرحها وحزنها، ففاطمة رمز للمرأة الفلسطينية، وهي شخصية لا تهادن، رؤياها شديدة الوضوح في ما يتعلق بالقضية وبطريقة حلها، وردها يكون قاطعاً وغاضباً بعكس شخصية زوجها (الزلمة) الكادح والمناضل النحيل ذي الشارب، كبير القدمين واليدين مما يوحي بخشونة عمله، والذي هو رمز للقهر الدائم، وهو الضحية لصراع الذئاب والمهاترات الموزَّعة عبر مساحة الجراح، والذي ينكسر أحياناً في العديد من الكاريكاتيرات، ووجهه المهموم ما هو إلا صورة الواقع المتصدع المتردّي، كمثال الكاريكاتير الذي يقول فيه زوجها باكياً:- سامحني يا رب، بدي أبيع حالي لأي نظام عشان أطعمي ولادي، فترد فاطمة: الله لا يسامحك على هالعملة. أو مثلا الكاريكاتير الذي تحمل فيه فاطمة مقصاً وتقوم بتخييط ملابس لأولادها، في حين تقول لزوجها: شفت يافطة مكتوب عليها «عاشت الطبقة العاملة» بأول الشارع، روح جيبها بدي أخيط كلاسين للولاد، ومقابل هاتين الشخصيتين تقف شخصيتان أخريان، الأولى شخصية السمين ذي المؤخرة العارية الذي لا أقدام له (سوى مؤخرته) ممثلا به القيادات الفلسطينية والعربية المرفهة والخونة الإنتهازيين. وشخصية الجندي الإسرائيلي، طويل الأنف، الذي في أغلب الحالات يكون مرتبكاً أمام حجارة الأطفال، وخبيثاً وشريراً أمام القيادات الانتهازية. أما «الخنازير البشرية» فهي توحي بصورة القبح لكل المحايدين وهم الذين أسهموا بسكوتهم وخنوعهم بازدياد قتامة الموقف.
وأبجديات العلي الكاريكاتيرية ثرية ومنها: العلم والقلم والأرقام وبيروت التي كان يرى فيها العلي خط الدفاع الأول عن فلسطين، أما الكوفية وهي الرمز الفلسطيني فإن العلي استخدمها في نقيضين، فقد كانت أحيانًا الستار الذي تستخدمه «الشخصيات السمينة» لتمرير أعمالها المشبوهة، وأحيانًا أخرى تستخدمها شخصيات العلي الخيرة وهي حنظلة وفاطمة وزينب والزلمة، وعندما تستخدمها هذه الشخصيات فإن الكوفية تغدو عنوان فلسطين، ورمزًا للعمل المسلح.
أما حنظلة فلم يكن مجرد طفلٍ شرد من وطنه فحسب، لكنه وضمن اللوحة الكاريكاتيرية كان عنصراً فنياً أراد منه ناجي أن يحافظ على حلم العودة وان يكون شوكة تنخز الضمير ويتعدى ذلك أحياناً ليكون مشاركاً وفاعلاً في المهمة النضالية. وهكذا، كان حنظلة الأيقونة التي حفظت روح ناجي من السقوط كلما شعر بشيء من التكاسل أو بأنه يكاد يغفو أو يهمل واجبه، وهو كنقطة الماء على جبينه، تدفعه إلى الحرص وتحرسه من الخطأ والضياع، إنه كالبوصلة التي تشير دائماً إلى فلسطين، وليس فلسطين بالمعنى الجغرافي ولكن بالمعنى الانساني والرمزي، أي القضية العادلة أينما كانت. ويقول ناجي بأن حنظلة هو بمثابة الأيقونة التي تحفظ روحه من الانزلاق، وهو نقطة العرق التي تلسع جبينه اذا ما جبن أو تراجع، وهو شخصية ابتدعها ناجي تمثل صبياً في العاشرة من عمره، ظهر رسم حنظلة أول مرة في الكويت عام 1969 في صحيفة السياسة الكويتية، حيث قدمه ناجي بعبارات صادقة أعلن فيها التمرد والصدق. وفي سنوات ما بعد 1973 أدار ناجي ظهر حنظلة للعالم وعقد يداه خلف ظهره، واصبح حنظلة بمثابة توقيع ناجي العلي على رسوماته. وقد لقي هذا الرسم وصاحبه حب الجماهير العربية كلها وخاصة الفلسطينية لأن حنظلة هو رمز للفلسطيني المعذب والقوي رغم كل الصعاب التي توجهه فهو دائر ظهره ‘للعدو’. وعن حنطلة يقول ناجي: ولد حنظلة في العاشرة في عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء.
وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي: كتفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبع. وعندما سُئل ناجي العلي عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب: عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الانسان العربي شعوره بحريته وانسانيته.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى