محمد سعيد المرتجي: الفن الإسلامي مزج هويات حضارية متنوعة

عز الدين بوركة وأشرف الحساني

شغل محمد سعيد المرتجي، الناقد والأستاذ الجامعي، مناصب عدّة تنوعت في مجالات اكاديمية وبحثية، وبعضها في مجالات الفن والمتاحف. فهو اضافة الى كونه باحث متخصص في الفنون والمتاحف وعضو في مختبر البحث في المغرب والعوالم الغربي، نال شهادة الدكتوراه من جامعة أفينيون وبلاد الفوكلوز في فرنسا، تحت إشراف الباحث جون دافالون في موضوع «الفن الإسلامي في المتاحف الفرنسية».
«القدس العربي» التقت بالمرتجي، وأجرت معه حواراً، حول تشكل «الفن الإسلامي» وأصول هذا المصطلح وعلاقته بالفنون المعاصرة، وتمثلاته في المتاحف العالمية منذ القرن 19.
وهنا نص الحوار:
■ نتحدث عن مصطلح فن إسلامي كمقابل لمصطلح الفن الغربي، بينما اصطلاح «إسلامي» هو إحالة إلى دين ومعتقد و»الغربي» إلى جغرافيا واتجاه. كيف يمكن إذن أن نتحدث عن تقابل بين هذين المصطلحين؟ أو لماذا الفن الإسلامي وليس فنا آخر؟
□ في الحقيقة إذا ما أردنا الحديث عن الفن الإسلامي، ما كان ليوجد لولا قدوم الإسلام، هذه أول بديهية للحديث عن مصطلح الفن الإسلامي. إن تسمية الفن الإسلامي دائما كانت مرتبطة حتى بالنسبة للذين يستعملون هذا المصطلح ليس باعتباره فنا دينيا محضا، وحينما أقول ليس فنا دينيا وبالتالي لا يرتبط بهندسة المساجد وأدوات العبادة فقط ولكن يهتم بكل المناحي وكل التعابير الفنية. ففي السنوات الأخيرة بدأ مجموعة من الباحثين يشككون في صحة هذا المصطلح «الفن الإسلامي»، يرون بأن هذا المصطلح غير دقيق، ومرد صعوبة هذه التسمية إلى شساعة الحيز الزماني والمكاني فعندما نقول الفن الإسلامي فإننا نتحدث من بداية الإسلام إلى الآن ومن الأندلس والمغرب الى حدود الهند. بينما أرجع آخرون صعوبة هذه التسمية إلى غياب خصوصيات لهذا الفن كي نسميه إسلاميا وبالتالي اقترحوا في أن نسمي كل فن باسم الدولة أو البلد الذي أنتج هندسة ما مثلا أو أشياء أخرى… وكبدائل أوجدوا واقترحوا مجموعة من التسميات «الفن العربي» مثلا أو «الفن الفارسي» أو «التركي» أو «الفن الموريسكي» ولكن كل هذه التسميات تحمل في طياتها عدم الدقة وهي محدودية هذه التسميات لأننا عندما نتحدث عن فن عربي بالفعل أن الدولة الأموية مثلا في القرنين الأولين كانت دولة عربية يمكننا حينها أن نتحدث عن فن عربي ولكن في الوقت نفسه نتجاهل المؤثرات الخارجية (أعراق أخرى) كالفارسي أو شمال أفريقيا مثلا… وعندما نتحدث عن فن فارسي يحيلنا ذلك مباشرة إلى حقيقة جغرافية وثقافة معينة التي أصبحت تسمى مدرسة الفن الفارسي داخل الفن الإسلامي. أما حين نتكلم عن الفن الموريسكي مثلا يتبادر إلى أذهاننا فن الغرب الإسلامي، وحين نقول الخزف الموريسكي مثلا نتكلم في هذه الحالة عن خزف ذي البريق المعدني خصوصا من القرن 11 إلى القرن18 . ومؤرخو الفن يرون أن هذا الخزف الموريسكي يحددونه في العصر الوسيط فقط أي في أوائل القرن 16. هذه مجموعة من المفارقات.
■ يعني يمكننا أن نقول إن مصطلح الفن الإسلامي استطاع أن ينصهر داخل الفنون الأخرى كالأمازيغي مثلاً؟
□ نعم فقد قدم له بصمة أتاحت لجميع هذه الفنون إمكانية الانصهار داخله لأن الجملة التي نستعمل هي أن هنالك وحدة وداخل هذه الوحدة هناك اختلاف فكل الفنون تجد لها مكانا آمنا داخل وحدة الفن الإسلامي.
■ فكيف إذن نستطيع الحديث عن وحدة الفن الإسلامي ونحن نعلم أن الفن الإسلامي يستمد أصوله المعرفية والفلسفية من حضارات أخرى كالإغريقية والرومانية؟
□ من الثوابت الأساسية في كتابات تاريخ الفن الحديث عن أصول هذا الفن، كما يرى مجموعة من المؤرخين، وُلِدَ خارج الديار الإسلامية وبالتالي فهو فن غير أصيل. وربما هذا الحكم صائب في البدايات الأولى لتشكل الفن الإسلامي. ففي البدايات الأولى كان هناك بالفعل استلهام ـ من طرف الفنانين «الصانع الإسلامي»ـ التعابير الفنية وإعادة استعمال الهندسة والزخرفة لحضارات سابقة، خصوصا حين نتحدث عن البيزنطية والفنون الفارسية والرومانية والأمازيغية، لأن الإسلام جاء في مرحلة بنى ثقافته وتصوره الفلسفي للفنون في أقطار ذات تاريخ قديم وذات تقاليد فنية عريقة، وبالتالي كان من الطبيعي أنه سيكيف هذه المعارف في تصور جديد يتماشى مع الدين الإسلامي الجديد في كل تطوراته.
■ هل مع حديثكم هذا، نذهب لتأكيد كلام بعض المستشرقين عن عدم وجود فن إسلامي محض وخالص وما هو إلا إعادة لما سبق؟
□ هذه المسألة لها علاقة مع الإرث الذي وجده الإسلام في البلدان المفتوحة، فقد شغل بال مجموعة من الباحثين وكان هناك تنظير متعلق بـ«هل الإسلام عدو الفنون؟» هذه من جملة الأحكام المجحفة التي جاءت على لسان بعض المستشرقين. صحيح أن الفن الإسلامي مَتَح من الهندسة والزخرفة في القاموس الفني لتلك الحضارات السابقة. فقد وجدت تصاوير حتى في البدايات الأولى للإسلام، غير أن بصمة وأصالة الفن الإسلامي ستظهر من خلال الأعمال اللاحقة، من خلال تصور جديد مبني على:
أولا، غياب التجسيد على الأقل الإنساني والحيواني في أماكن العبادة. فقد كان هنالك غياب تام وقطعي للتجسيد، على الرغم من ذلك فإن الصورة حضرت في القرون الأولى للإسلام في أماكن معينة مثل «قصير عمرة» صور للمرأة والرجل في أماكن خاصة كالحمامات مثلا… وهي محفوظة إلى حد الآن في الحارات الأردنية… لكن أضاف إليها غياب التجسيد خاصة في أماكن العبادة.
ثانيا، على مستوى الهندسة، ومن المعروف أن العرب والمسلمين منذ البدايات كان لهم اهتمام بالرياضيات هذه الأخيرة سيستغلونها في الزخرفة الهندسية لتقدم لنا بناية مختلفة، فإذا رأينا «قبة الصخرة» مثلا أو «المسجد الأموي» في دمشق لن نعثر على أثر لتلك الأفكار التي يروجها المستشرقون في كون الفن الإسلامي أخذ من الفنون السابقة إذ لن نجد مبنى رومانيا في حضارة سابقة يشبه قبة الصخرة وحتى الدعائم أو عناصر الهندسة التي أعيد استعمالها، لأن المسلمين كانوا أذكياء عبر الرياضيات، إذ عملوا على وضع حسابات دقيقة جدا لم يسبق لحضارة أخرى أن وصلت إليه، إضافة إلى الخط العربي هذا الأخير الذي سيمنح لهذه الثقافة طابعا أصيلا متميزا عن باقي الحضارات السابقة.
■ الحديث عن الفن الإسلامي يدفعنا للحديث عن التجريد وبالتالي هل يمكننا القول كما يروّج له إن الفن الإسلامي هو مهد للفن التجريدي المتعلق بالفنون المعاصرة؟
□ بالفعل فالسمة الأساسية الغالبة على الفن الإسلامي هي التجريد هذا الأخير وجدناه في «الأرابيسك» تلك الأشكال المتكررة كالدائرية مثلا… وهنا أحيلكم إلى انتقادات المستشرقين لتلك الأشكال، على الرغم من تأثيرها على الفنون الحديثة وهنا يمكننا أن نعود إلى السياق التاريخي لاستفادة الفنانين الحديثين والمعاصرين من الفن الإسلامي مثل بول كلي وهنري ماتيس وكاندنسكي… منذ نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 حينها كان الإبداع قد توقف نظرا لافتقاده للأفكار ومكنتهم زيارتهم إلى معرضين أوروبيين الأول في باريس سنة 1903 والثاني في ميونيخ سنة 1910. وقد ضم هذان المعرضان كل ثقافات العالم إذ سيؤثران في الجمال والذوق الفني الأوروبي آنذاك بدأ العالم يعرف عن شيء اسمه فن إسلامي، فقد كانوا يسمونه «الفن المحمدي». ومع استعمار الجزائر بدأ الغربيون يتعرفون على ثقافات أخرى ثم شرعوا في تجميع تلك التحف لعرضها في هذه المعارض الاستعمارية العالمية… هذان المعرضان سيكون لهما الأثر الكبير على الفن الحديث والمعاصر فماتيس مثلا حين سيزور هذه المعارض المؤقتة ستؤثر فيه بشكل كبير جدا لتؤثر بعدها في تاريخ الفن في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20. ابتداء من هذه الرحلة سيعرف العالم بعض الأنواع من الرحلات التي يقوم بها فنانون تشكيليون على رأسهم هنري ماتيس الذي سيزور المغرب، خاصة مدينة طنجة وكذلك دولاكروا وكاندنسكي الذي سيزور تونس… منذ هذه الفترة أصبحوا ينظرون إلى التحف على أنها فن وليس كما كانوا يسمونه «حرفة»، وبالتالي سيستلهمون منه الألوان والهندسة فبول كاندنسكي مثلا سيوظف الحروف (النون-اللام) كما ستستجيب بعض لوحاته لمجموعة من الأشكال والألوان خاصة الأزرق والأحمر… وكذلك الأمر ينطبق على ماتيس، لاسيما بعض لوحاته المعروضة مثلا في نيويورك les marocains (المغاربة) أو تحفه الموجودة في متحف بوشكين في موسكو.
■ حديثنا عن الأرابيسك: لماذا تحاشى ثلة من النقاد العرب توظيف مصطلح الزخرفة الذي يعبر عن أحد أهم خصائص الفن العربي الإسلامي وذلك باستعمالهم لمصطلحي الأرابيسك أو الرقش؟
□ هذا السؤال يحتاج إلى نوع من التدقيق لأن «الأرابيسك» هو تعبير من التعابير الزخرفية و«الرقش» هو أيضا زخرفة، وهنا يتبين لنا شح الدراسات العربية للفن الإسلامي، إذ أن دارسي الفن الإسلامي كلهم غربيون باستثناء بعض الكتابات العربية الخجولة التي تستمد أطروحاتها من الغرب كونهم في الغرب يتوفرون على هذه الثقافة المرتبطة بالفن وتاريخه. عودة إلى مصطلح «الزخرفة» هم يتحاشونها لأنها كانت لها حمولة سلبية في الكتابات الاستشراقية فهنري تيراس حين يتكلم عن الفن الإسلامي يقول أنه فن زخرفي ويذهب بعيدا في الحديث في كونه لا يرقى إلى الفنون التصويرية التي تحتاج إلى إبداع ويرى في هذه الفنون الزخرفية فنونا متكررة معادة لا تمت للإبداع بصلة… ويحيل كذلك للوضع الاعتباري للفنان هذا الأخير في هذه الحالة ما هو إلا صانع يعيد الحركات نفسها ويقدم لنا نسخ متشابهة من المنتوجات… وبالتالي فإن مصطلح الزخرفة يتحاشاها البعض ربما بسبب هذه الحمولة السلبية التي التصقت به.
■ ختاما وعودة إلى مسألة التجسيد: فمن خلال الحفريات اتضح وجود رسومات على النقود الإسلامية الأولى، بالإضافة إلى فن المنمنمات الذي يستعين بالتجسيد للحكي، فلماذا حرم هذا الفن من بعد؟
□ سؤال جيد لأنه يطرح مسألة التجسيد فالتجسيد كان ممنوعا حتى في الديانـات الأخرى. ففي الإسلام وهذا ما لم نتكلم عنه كثيرا وهو أنه لم يكن هناك منع في التطبيق، خصوصا في القرون الثلاثة الأولى للإسلام لكن المشكل سيحدث عندما تم تجميع صحيح البخاري والإمام مسلم ففي هذه المرحلة سنرى تأويلا جديدا للتعامل مع هذه الصورة، وبعد هذه المرحلة سيصبح الغالب هو تحريم التجسيد في الفنون وغيابه في جميع الأعمال، خصوصا في شمال أفريقيا والأندلس وفي أقطار أخرى مقابل حضوره في ثقافات أخرى كالفارسية والتركية، لذلك تبقى هذه المسألة مسألة تأويل… فالتجسيد كان يتوفر على خصوصيات فالمنمنمات مثلا هي عنصر مهم جدا في الثـقافات والفـنون الإـسلامية، لأن الـصورة كانت حاضرة فيها ولكن الصورة بتصور جديد لا وجود فيه للظل والضوء وكذلك المنظور، خصوصا الوجه. فبعض المستشرقين ذهبوا إلى كون الفنان المسلم لا يتوفر على ثقافة فنية تمكنه من ذلك ولكن هذا خطأ في كون الفنان المسـلم كـان علـى وعـي فـي تغييـب الـظل والـضــوء… كي لا يـكون هنالك تــقليد للـخالق.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى