محمد عجيم: سوق الكتاب أصبح كسوق المواشي

محمد الحمامصي

تتعدد تجليات الإبداع عند القاص والروائي السعودي محمد عجيم، فيتنقل من المسرح إلى الرواية إلى القصة والموسيقى والتلفزيون، وله في ذلك أعمال حققت تميزا وفرادة منها 4 روايات و9 مجموعات قصصية و6 أعمال مسرحية، و3 مسلسلات تليفزيونية، انشغل فيها جميعا بالهم العربي عامة والسعودي خاصة، انطلاقا من رؤية إنسانية وفنية، حول تجربته انطلاقها ومسيرة تجلياتها كان هذا الحوار معه.

البداية مع الرواية التي صدرت أخيرا عن مؤسسة أروقة للنشر والدراسات بعنوان “مذكرات وحدة حلوة” تتناول حكاية الفتاة الجميلة بتول التي تضحي من أجل أبيها نديم وإنقاذا له فتدخل السجن وتتعرض فيه للاغتصاب علي يد “نحّار” وتلدا سفاحاً، فهي رواية حالة تقوم في بنائها الأساس علي التداعي الخاص بكل عنصر من عناصر الحكاية والتي تبدو هي الأخري مثل الظل، وربما أراد الراوي أن يقدم دلالات للواقع المؤلم المستبد وللإنسانية المعذبة.

يقول محمد عجيم: كانت باسم “مذكرات واحدة مزة” والنكتة أن لفظة “مزة” أصبحت مشاعة الآن، وأصبحت تدل على البنت فقط ولا معنى بعد وراء ذلك، ومع ذلك رفضت رقابة الإعلام هذا الاسم، “مزة” لا، طيب “حلوة”؟ قالوا “نعم به وصفا، يا سلام!”، ومع ذلك تبسمت، وقلت يمشي الحال، “مذكرات وحدة حلوة”، مع أنه من أول كلمة في أول سطر والمذكرات تقول إنها قصة وحدة مزة، ولكن المهم أن تصل للقارئ، وقصة هذه البنت قد وقفت عليها بنفسي أيام الجامعة.

وقفت عليها وأنا لست أصدق أن هناك بنت ليل مظلومة، بل كلهن بائعات هوى وكلهن فاسقات ماجنات بل غاويات مغويات كاسيات عاريات، وليس همهن إلا شباب الجامعة يضيعوهن، كنت أرى بنات الليل كذلك، لذلك كنت أمقتهن، ولا أقيم لهن في الإنسانية وزنا ولا مكانا، ولكن لما تعرفت على صديق هو صاحب هذه البنت ثم عرفت البنت، وكان سهلا أن أعرفها أو أتعرف عليها، ولكن أن أقف أمامها ذات يوم وأقول لها سؤال: لماذا أنت مع صاحبي كزوجته إلا قليلا؟ أي كيف لك أن تعطي هذا الشاب كل شيء دون مقابل؟

قالت: هيهات، لقد أعطيت من قبل دون حساب، وهنا أحسست أنها لحمة مهترية معرضة لكل ناهش، فأحسست بألم في معدتي من وقاحتها، ولكن شيء في ثنايا صوتها نبهني لأنظر في عينيها وهي تنفث الدخان في وجهي عندما تكلمت، كانت تتكلم كسراب مسافر أمامي في المنتهى، بنت لا يهمها إن أنا صدقتها أو كذبتها، ليس في بالها أن أمقتها او أترحم عليها، كانت تتكلم وهي تنظر في لا شيء، ومع ذلك جذبني بريق خفي في مقلتيها، ذلك البريق هو الذي قال لي إن التي أمامك ليست هي، إنها مغلفة وإنها تتكلم بلسان غيرها، سحبت السيجارة من فمها، وقلت لها، بالله بعيدا عمن رأى أو سمع، بالله ما حكايتك.

سحبت سيجارة أخرى وقالت: بشرط، ألا أراك بعدها، قلت ولا أراك، فوضعت فخدا على فخد، وراحت تحكي. ولم أسجل كلمة مما قالت، ولم أدون حرفا، خرجت من عندها ولا حتى ودعتها، صعب أن أحيي الموتى.

وفي غرفة الجامعة كتبت هذه الخاطرة، بنت ظروفها صعبة. وبعد ثلاثين سنة ونيف، وبينما أنا أقلب في بعض أوراقي القديمة، وجدت هذه القصاصة فتذكرت البنت وكأنه كان في عنقي دين أن أنصفها من أبيها المجرم ولو بقصة فكانت هذه الرواية، ولا أعلم إن كانت ما تزال على قيد الحياة أم قد توارى التراب في التراب.

• البدايات صعبة

حول بداياته المبكرة مع الكتابة وروايته الأولى يقول عجيم “الغريب في أمري مع القصة والرواية أني قد كتبت الرواية، الرواية الطويلة قبل القصة بزمن طويل جدا، ولقد كانت أول رواية لي بعنوان “ابني الحبيب” ووجه الغرابة أني كنت كتبتها وأنا لم أبلغ الحلم بعد. كتبتها ولم أر من وجوه النساء إلا وجه أمي وأخواتي وبعض وجوه بنات عمي أو قريباتي.

والغريب أني كنت في هذه الرواية أحدث ابني عن جمال أمه وطيبتها ورقتها وكيف أني احببتها، وكيف أنها تحبني وتعزني، ووو، حكاية، وكنت أكتب هذه الرواية “سرا” أو “دسا”، كل ليل أكتب فيها بضع صفحات ثم لما أتعب أخفي الدفتر تحت كتب المدرسة حتى كانت ليلة نسيت الدفتر على السرير في حضني ونمت، ولم أصح إلا على صوت الوالد الراحل، المرعد يصيح بي، وهو ممسك بخناقني: فين دا الولد، ومين أمه، وهما فين؟

بعدها لم أستطع أن أكتب حرفا واحدا فيها، عدت مثل الرجل الخادم الصالح الذي كان طوال الليل يقوم متعبدا لله وعند الفجر يسارع بالماء إلى وضوء سيده وفي ليلة شافه سيده وهو قائم في المحراب يصلي. فلما جاء وضوء الفجر تفاجأ العبد بسيده يصب له الماء وهو يقول له أنت سيدي. وفي اليل شكى العبد أمره لله. اللهم أني كنت أعبدك سرا لك. أما وقد انكشف أمري فاسترني. فمات في مقامه. أحسست أن ابني قد انتهكت عليه حرمته وفضح أمر زوجتي وعرى ابني من شرعيته وأني أصبحت رجل ليل وبنت ليل ومنجب منها ابن الخطيئة.

والعجيب أني بالكاد كنت أقرأ ما أكتب، وحتى الآن، لسوء خطي، فكيف أستطاع الوالد أن يقرأ خطي وهو الذي كان يتندر ويقول لي: يا ولدي إذا كتبت لواحد رسالة فرجاء أن تسافر قبلها أو معها لتقرأها له، هههه، وليس صحيحا أن ذوي الخطوط البشعة يقرأون لبعض، فوالدي كان ذا خط جميل وأنيق، وكم من مرة رحت أتمعن في يده وقلمه “الشفر” لما يأتي ليوقع أي ورقة، كان له توقيع جميل وأنيق، كل ذلك وهو لم يكمل الإبتدائية “فيما اعتقد”.

والأغرب أني عدت إلى هذه الرواية بعد عمر، فلم أستطع أن أقرأ منها إلا شيئا يسيرا وقد نافت على الثمانين صفحة.

• حكايات النشر والرقيب

وكانت أول مجموعة لي بعنوان “وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى”، وقامت القيامة على العنوان، هو إلحاد في كتاب الله، وهو تقليد للقرآن، وهو تحريف للآية، وقيل فيه ما قال مالك في الخمر إلا أن يقال إنه إقتباس مقبول، ولقد أمضيت أشهرا وأنا أحاول ان أقنع الرقيب العزيز، أن العنوان ليس جزءا من آية ولا هو قرآن محرف، إنما هي جملة عربية قد تقال في القرآن وخارج القرآن، وهو مصر على أن العنوان فيه رائحة كفر وزندقة وإلحاد وتمرد؟!

ثم اخترعت له عنوانا لم يرفضه، قلت له فليكن العنوان “سمفونية الوحل”، قال: أتقصد الوحي، قلت بل الوحل، القاع، أسفل السافلين الذي أوصلتني إليه، أعندك مانع؟! وصدرت المجموعة، ومن بعدها ثماني سمفونيات، وكل سفمونية لا ترى النور إلا بعد أن أرى ألوانا من المنع والتمنع.

أول رواية لي طبعها لي ناد أدبي وليته لم يفعل، لما جمعت قصصي يعلم الله لا أدري كيف أخرجها للناس، فقالوا لي توجه للنادي الأدبي، وتوجهت، وانذليت وتذللت حتى رق لي حاسدي، كما يقول صباح فخري وبعد المذلة، ولا أخجل من هذا الوصف، وقد يقع على هذا الكلام أحد ممن حضر طباعة هذه المجموعة فيراجع ضميره، بعد أن وافق النادي، خرجت المجموعة إلى النور، مظلمة، فغلاف المجموعة تحول إلى لوحة دعاية وإعلان للنادي ومن وراء النادي ومن سمح للنادي ومن وافق للنادي، كل ذلك على الغلاف والصفحة التي وراء الغلاف، ليتني لم فعل، ومن يومئذ لم أعد إليهم ولا إلى غيرهم، بل صرت أطبع كتبي على نفقتي.

ولما كتبت روايتي الأولى “آخر ليالي الجحيم” في بيروت، يعلم الله أني رهنت سيارتي في دمشق لكي أؤمن قيمة الطباعة، وقد كان، وتستمر المأساة، كنت أذهب على دمشق بسيارتي، وأحمل كراتين كتبي بنفسي، ثم أمر على الحدود، وفي الحدود وفي جمارك الحدود قصص تروى أيضا، وفي النهاية أدخل بكراتين الكتب، ولما أصل إلى جدة أروح أجول على المكتبات، أوزع كتبي.

وهنا علاقة الوظيفة والراتب بطباعة الكتاب، ذات مرة سألوا عصام خوقير، وهو من رواد هذا الفن وإن كان مقلا جدا، كيف أن د. غازي القصيبي ملء السمع والبصر وأنت قابع لا حس ولا خبر، أي لماذا لا نرى لك كتبا مثل كتبه، قال قولة حكيم: “لو كنت وزيرا مثله لكنت مثله ومزيد”.

• عالم الرواية

ويضيف عجيم: حتى تحدثي معك اليوم لم أكتب إلا أربع روايات، المتوسطة والطويلة والطويلة جدا ورابعة لم يكتب الله لها النور، الرابعة التي اختفت كتبتها أيام أزمة الخليج، وسكبت فيها كل المسبات والشتائم (بشكل مؤدب)، وأظن أني كتبت فيها أربع مائة صفحة، ويوم ذاك كنت ما أزال في الجامعة، ولكن وفي ليلة ظلماء جاءني هاتف هتف بي أن هذه الرواية قد تكون فيها نهايتك، فخفت، وجمعت أوراقي وذهبت إلى خلاء قريب من السكن الجامعي وحفرت للرواية ثم دفنتها أخفيها، وبعد ما تخرجت في الجامعة تذكرت تلك الرواية، فلما عدت إليها لم أجدها فإما أني نسيت أني دفنتها أو أنه قد بني عليها، وكانت حسرتي لا توصف. ولا أعتقد أني من كتاب الرواية بجدارة أو بقوة أو بضخامة، ولكن ناقد أديب قال لي ذات يوم حرام عليك أن تكتب القصة، فنفسك نفس روائي، قصصك طويلة جدا.

ويوضح “في الاسهاب لي الكثير من القصص، ولكن خالص القول إني لما أكتب آتي بالمعاني من معادنها، ثم على المتلقي أن يفهم، أو أن يفهم ما يشاء. وكذا، وبما أني مسهب فأنا روائي، ولكن قد يقول قائل ليس كل مسهب روائيا، وليس كلما طالت الحكاية تكون رواية، صح، ولكني حتى في قصصي القصيرة الطويلة اعتمدت أسلوب الرواية.

ولما جئت لأكتب الرواية عن قصد لم يكن الأمر غريبا علي، فكتبت الرواية بكل أريحية ولم أترق حتى أصبح روائيا بل من أول رواية وجدت الناس تقبلتني روائيا، ولكن، هل تعلمت أسس الرواية؟ نعم، فقط من أمي، وهذه حكاية أخرى، ولما أردت أن أثقف نفسي وأن أعمل لنفسي بصمة شكوت ذلك للدكتور الراحل منذر عياش أو عياشي، فقال لي جملة واحدة: “روح اكتب”. وبالفعل، رحت وكتبت، وكانت ولازالت والحمد لله بصمتي فيما أكتب لا تشابهها بصمة، وهذا ليس غرورا ولكن سنة من سنن الكون والحياة.

ويشير عجيم إلى كراهيته للمكان والزمان في الرواية “لا أكتب إلا إذا قالت لي الرواية أنها تريدني أن أكتب. وهنا ملاحظة جميلة وغريبة. علمت من أحد الأساتذة في هذا الفن ممن سبقني بعمر فيها أنه قد يمضي الأشهر وقد تصل لسنة في كتابة قصة أو رواية كان يقول “كلما فضيت طقطت لي على كم من صفحة” وضحكت، وتألمت، ذلك أني لا أشرع في كتابة الرواية إلا وقد اعتكفت، واعتزلت، فلا أقوم حتى أنهيها، فروايتي الأولى “آخر ليالي الجحيم” كتبتها في عطلة الربيع أي فيما يقارب العشرين يوما، أما روايتي الثانية “مشانق اليمن السعيد” والتي نشرت بعنوان “سمفونية الحريق” فقد عكفت أقرأ في مراجعها قرابة السنتين ثم بدأت أكتب فيها وأخذت مني قرابة السنة، مع أني كنت قد تنقلت ما بين جدة ودمشق وبيروت، ومع ذلك كنت أحسبني معتكفا عليها، وكنت بالفعل منقطعا عن الناس حتى أتممتها، أما روايتي الثالثة “مذكرات وحدة حلوة” فلم تأخذ مني والحمد لله أكثر من أسبوعين فيما أتذكر.

• آخر ليالي الجحيم

ويؤكد عجيم أنه يكتب القصة أو الرواية بعد أن يرى آخر كلمة في آخر سطر منها، ويقول: ومن هنا يأتي تمسكي بالعنوان في مراجعاتي لأخوتي في الإعلام، فـ “آخر ليالي الجحيم” ظلت سنوات في أدراج الإعلام مرفوضة، ولما ذهبت بها لإتحاد الكتاب في سوريا أيضا رفضت، أما في الشام فقد رفضت لأنها كتبت لبنت من بنات الشام، وكأنه كان كثيرا عليهم أن يكتب سعودي عن الشام بهذا الإقتدار، أي كنت في نظرهم كمن يبيع الماء في حارة السقايين، عيب.

أما في السعودية فقد رفضت بسبب العنوان، وكم كنت أحترق وأنا أناقشهم، “يا جماعة إن العنوان مرتبط بآخر كلمة في الرواية، “مع نفسك”، أي تفلسف على غيرنا”، ومع أن عدنان حمد شدو هو أول من نظر فيها وهي مسودة بعد، قال لي يا محمد أما هذه الرواية فجزاء صاحبها في السعودية الإعدام، وفي الشام الخازوق، لما فيها من تجاوز للمحاذير الثلاثة: الدين والجنس والسياسية، ومع ذلك فالأخوة في السعودية لم يقفوا إلا عند العنوان، وبعد سنوات هداني الله لهذا العنوان، “آخر ليالي الجحيم” فنشرت.

ويضيف “أما “سينفونية اليمن الحريق” فظللت أشهرا وأنا أجادل وأقول إن العنوان ليس له علاقة بعلي عبدالله صالح ولا طالح ولا بغيره من الساسة يا سادة يا سكر زيادة، فكان الرد “مع نفسك”، أي ما عندنا غير الذي قلنا، تغير العنوان يعني تغير، وكان كبيرا علىّ وصعبا أن أغير العنوان، ذلك أن العنوان نصف الرواية فأنا أكتب الرواية وحدة متكاملة وليس وصفا ورصا للكلمات، ثم أضع العنوان المناسب في آخر ليلة، لا، أن العنوان تجده مبثوثا في ثنايا الرواية من أول سطر وحتى آخر كلمة، ولكن قومي لا يعلمون، بل فوق ذلك غلاف الرواية، فكم عانيت من تعنت الإعلام ورفضه لأغلفة قصصي ورواياتي الثلاث، ولكن الله أعانني عليهم ومشت أموري ولو كانت وهو تنزف. ومن هنا أقول لك إني وبعدد الروايات التي أخرجت لا أعد من أهل هذا الفن إلا من أهل الصف الثالث أو الرابع، ولكن من زاوية الكيف فلا والحمد لله إني من أهل الصف الثاني.

• الإعلام والنقد والنقاد

ويلفت عجيم أن الإعلام لم يخدمه ليضعه في المكانة اللائقة كروائي وقاص، ويضيف “الحق أني لست تحت الأضواء ليراني الكثير من الناس، لسبب بسيط أني أعمل بشكل فردي، مع أني كثير الأصحاب في الوسط الإعلامي، ولكن ما أكثر الأصحاب حين تعدهم، وأنا بطبعي إنسان عكوف لا أحب السهرات الفنية أو اللمات الأدبية لأنها بحق لا تزيدني علما في هذا الفن، وأنا وإن كنت عضوا في أكثر من مؤسسة في المجال الأدبي إلا أني لا أصدق كثيرا هذه المجالس فيما يخوضون فيه، كلها مجاملات ومحسوبيات ونقاشات فارغات ثم انتخابات وعراك من أجل هذه الانتخابات من اجل الوصول إلى ذلك الكرسي ولما تمعنت عرفت لماذا يتناحرون حتى يصلوا لهذا أو ذاك من الكراسي الفارغة، فقط أن تحته الكثير من الفلوس، فآسيت لحالهم، ومن هنا فأنا لا املك من الدعاية لما أكتب الكثير من القنوات ولا أتقن فن مسح الجوخ والذهاب هنا وهناك، وأكتب هنا وهناك فقط لأظل تحت الأضواء، يكفي أن يصل كتابي إلى القارىء العادي وهذا أكبر مطمع لي.

ويرى أن الناقد ليس من يقبع في كوخه أو يتربع في برجه حتى آتيه بكتابي ليقول فيه رأيه، بل أرى ان الناقد بحق من يصل هو إلى آخر ما نزل في السوق من كتب، يقف عليها، ثم يقول رأيه فيها، وهذا الناقد لم يعد موجودا إلا نادرا.

ذات يوم قال لي خالد اليوسف إن كثيرا مما سيأتيك من نسخ كتابك من دار النشر مجانا لا بد أن تقسمه أثلاثا، ثلث تهديه، وثلث لك، وثلث للنقاد، قلت وأين هم النقاد؟ لماذا أذهب إليهم ولا يأتون هم إلي الكتاب؟

قال لي: صاحب الحاجة يسعى، قلت أما إليهم فلا حاجة بي إليهم، إني بحاجة إلى القارىء، أما من أهدي فقد فكرت ثم قررت أن أتبع ديدن توفيق الحكيم الذي لم يكن يهدي من كتبه ومشيت على ذلك الدين فترة ثم كفرت به، إن كثيرا من الأصحاب لما يراني، يهب فيّ، يا شيخ، نسخة من الكتاب، فاخجل، فلا أبخل عليه بنسخة من الكتاب، وهو لو يعلم كم عانيت حتى أخرجت هذا الكتاب لذهب إلى السوق ولو حبوا ليحصل على تلك النسخة، ولكن إنما نطعمكم لوجه الله.

ولكن بحق كم أنا بحاجة إلى النقد وفي أمس الحاجة للناقد، ولكن أين هو الناقد الحق، لا، ليس النقد دراسة، النقد قبل كل شيء ذوق سليم ثم خلق قويم ثم علم عميق في هذا الفن، وهذا لم أصادفه حتى الآن إلا صدفة، أما المنتقد الذي تكلفة الجريدة الفلانية أو تسند إليه المجلة العلانية أن يكتب عن القصة الفلانية أو أن يمجد القاصة العلانية فهيهات، أين هو من النقد وأين النقد منه، الناقد الذي لا يكتب إلا عن كتاب يعرف صاحبه ولا يشيد إلا بقصة أو رواية لأنه يعرف صاحبتها فهو في واد والنقد في واد.

ولا أتجنى، فلقد ذهبت إلى مكتب أحد النقاد، يقولون عنه كذلك، وهو من الناس الذي يسبق اسمه كلب أليف قابع على مكتبه، يقال له حرف الدال، قلت يا دكتور، حبا وكرامة لو تتفضل علي برأيك في كتابي هذا لعلي أستأنس به عندما أنشر قال أفعل إن شاء الله.

ثم عدت إليه بعد أشهر لأسمع رأيه، قال: إن ديوانك الشعري في غاية الحبكة والسبكة ومفرداته غنية متقدمة ومعانيه مفعمة وحواشيه مقنعة وقوافيه قائمة لا قاعدة، ثم أشفقت عليه من كل هذا الكذب، قلت له يا دكتور إنما تركت عندك مجموعة قصصية. وثان وثالث ورابع، ثم أيقنت أن زمن النقد للنقد قد ولى وأن النقاد لذات النقد قد غرب، إلا من رحم ربي وقليل ما هم، لذلك أقول، لست معنيا كثيرا بما يقول كثير من النقاد ولا بكثير مما يقول النقدة مدحا كان أو قدحا، كل همي أن يصل كتابي إلى القارىء لا يهمني بعد ما يقول، فقلد قلت كلمتي ومضيت وله الحق أن يقول كلمته هو أيضا ويبقى، كذا قال سقراط، وذلك لا يقطع عيش أحد يترزق من وراء ما يكتب أو ينقد.

وكذا فأنا والسادة النقاد على ضفتي نهر، لم يعد يهمني أن اجتازه إليهم ولا أنتظر أن يقطعوه إلي وعسى أن نجتمع قريبا.

• سوق النشر سوق المواشي

ويأسف محمد عجيم أن سوق الكتاب أصبح كسوق المواشي، فالكثير الكثير من دور النشر أصبحت ملكا لأناس لا يعرفون من الكاتب إلا اسمه ولا من الكتاب إلا رسمه، وكثير من دور النشر يتملكها أناس جاءوا من وراء البقر، وهو ليس عيبا أن يكون الإنسان تاجرا في المواشي، ولكن العيب والحرام أن ينتقل من تجارة الحبوب والبقول إلى تجارة الفكر والعقول، كثير ممن يملكون دور النشر لا يهمه محتوى الكتاب بقدر ما يهمه كم باع منه، هل باع الكتاب المستحق لا يهم، هل باع هذا الكتاب لمن يستحق، أيضا لا يهم، كل ما يهمه أن يعين لديه مستشارا غريبا، هذا المستشار يعرف كل شيء عن رواج السوق، من العنوان الجذاب إلى اسم الكاتب الرنان المحاط بالهالات الإعلامية الزائفة إلى بلد هذا الكاتب وهل هو من المغضوب عليهم أم من المرحومين في الأرض، وكذا يحسبها صح.

هل لو نشر هذا الكتاب المفارق لذلك الكاتب المخالف المعروف بهذا لعنوان السامج في هذا المعرض القائم، هل يكسب أم يخسر، وغالبا يكسب، يكسب أنه باع من الكتاب لمن لا يعرف لا الكاتب ولا الكتاب فقط كان الترويج للكتاب كبيرا وقويا، وتمجيد الكاتب ونفخه إعلاميا كان متقنا، ثم لتعد الأرباح فقط، وعلى فكرة، ما أفسد الكتاب وخبص على الكاتب مثل معارض الكتاب، لأن هم القائمين فيها أن لا تكسد بضاعتهم في هذا الموسم القصير السريع، ولو تركوا الناس تكتب وتتعب حتى تصل كتبهم للناس، وتركوا القارىء يتعب حتى يحصل على الكتاب لكان حال الثقافة أسلم مما هي عليه.

(ميدل ايست اونلاين)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى