مفرح كريم.. حديث الشعر الذي لا ينقطع

شريف الشافعي

مرات قليلة، تواصلتُ فيها هاتفيًّا مع الشاعر والباحث والمترجم مفرح كريم (1944-2016)، الذي غاب عن دنيانا صباح الأربعاء 24 من أغسطس/آب، بعد صراع مع المرض.

المكالمة الأخيرة، كانت قبل رحيله ببضعة أسابيع، وبالرغم من أنها جاءت بالخطأ، فإنها حملت من الشعر ما تحمله عادة محادثاته الخصبة الفيّاضة، على أن القصيدة العفوية جاءت في هذه المرة موجعة.

في حواراتنا السابقة، كان الحديث يدور عادة حول الشعر، والترجمة، والكتابة، والمشهد الثقافي الراهن، وعلاقة الإبداع بقضايا المجتمع، وبالشأن السياسي على وجه الخصوص.

وبالرغم من إيمان الرجل بما يمكن تسميته “توجيه الفن”، إذ له ديوان كامل بعنوان “يد على كتف الميدان” (صدر ضمن سلسلة “إبداعات الثورة”، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة)، فإنه لم يكن يخفي إعجابه بما يراه جديرًا بالاحتفاء من “الشعر الصافي”، بتعبيره الدقيق، وفق الاصطلاح الوافد، أي ذلك الشعر الذي يراهن في المقام الأول على جمالياته وعذوبته وشعريته، متخففًا من أعباء الذهنية وسطوة الفكرة وكل ما يثقله من شحوب الواقع وغبار التاريخ. وكانت درايته الواسعة بالأدب الغربي، كقارئ وشاعر ومترجم، تتيح له الاطلاع العميق على شعراء هذا الاتجاه في سائر الأرجاء.

في مكالمته الأخيرة، تلقيت بفرحة طفل صغير رنين الهاتف الذي يعلن أنه المتصل، وكان مبعث السعادة ذلك الأمل في أن يكون الشاعر مفرح كريم قد تجاوز بعضًا من متاعبه الصحية، وصار قادرًا على التواصل من جديد مع الأصدقاء في الوسط الثقافي، لتبادل الأحاديث حول قضايا الكتابة وأحوال الواقع الأدبي، كما كان معتادًا أن يفعل.

القصيدة التي حملتها المكالمة بدت مكثفة، تلقائية، مدهشة، مؤلمة. الرجل، من وطأة المرض، أخطأ في اختيار الاسم الصحيح من قائمة الأسماء في ذاكرة هاتفه، إذ أراد الاتصال بطبيبه لترتيب موعد جلسة علاجية.

ولأن طبيبه تتشابه حروف اسمه الأول مع اسم كاتب هذه السطور، فقد جاءني صوته الواهن المباغت كابتسامة خافتة، وما إن استشعر الخطأ حتى حياني بنبله المعهود. كانت نبرة صوته من أصدق وأعذب ما يمكن أن تجود به الإنسانية من شعرية صافية، ومشاعر بكر، خصوصًا حين صار يتحامل ويبادر بالسؤال عن أحوال من ربما تحت وطأة الحياة لم يبذل الجهد الوافي للسؤال عنه.

هكذا تتجلى شعرية مفرح كريم، في تلك المقدرة على التغلغل في تفاصيل الواقع، وتراكيب الزمان، والأحداث العابرة اليومية، بشفافية روحية مستقاة من ضوء نسمة هادئة.

نهلت تجربة الشاعر مفرح كريم كثيرًا من البحر، وغاصت في أسراره، واحتمت بقواقعه، وتحلت بدرره، لكنها أبدًا لم تستعر صخبه مرة واحدة، ولو ذات شتاء عاصف.

مع البحر، أيضًا، تقاسم مفرح كريم جائزة الدولة التشجيعية لديوان الشعر في عام 2013، إذ نالها عن ديوانه “أستار البحر”. وفي رحلته إلى الصحراء، لم يستطع الاستمرار، فإذ به يعود بخفة، وذاته الشاعرة لا تكاد تتذكر غير تلك الأمواج، التي لا يستطيع أن يفارقها، ولا تقوى هي على هجرانه.

يقول في قصيدته “عائد من بحار الرمال”:

“لم يعد بيننا البحر

لم تعد بيننا الأمنيات الكسيحة

فاستفيقي

وضمي إليك بقايا الغريب

***

عائد من بحار الرمال

ليس في جيبه غير صوت الفجيعة

واللغة الهاربة

عائد ليس في ثوبه غير جسم

تآكل عبر زمان التغرب

والوحدة المرعبة

والبقايا صفيح صَدِئْ

يرنّ من الخوف

يرفع فوق ملامحه بسمة شاحبة

عائد كي يسير على طرقات الذهول

رافعًا سيفه الخشبي

فلا يرتدي من سماء الحقول

سوى طينة

وبقايا تواريخه الغاربة

***

ترتدي زوجه سترة من زمان الغياب,

وتفتح أحلامها للشراع

وتُقْعي بصمت

جوار اللهب

(هذه ليلة خاسرة

ليس في سيفه الخشبي سوى الثلج

ليس الكلام ابتداء الغزل)

تنطوي في الفراش الكئيب

وتشهر أسلحة,

وتنادي بعمق الظلام

تنادي وتنشر رائحة

وعواء سخيًّا

يسير بعمق الدماء

وما من مجيب

فتهوي بقاع النحيب

هذه ليلة لا يرى المرء فيها شعاع اليدين

ولا يستبين من الفجر ضوءًا,

ولا يتعدى الدعاء حدود الشفاه

هذه ليلة للبكاء

حاصرتنا بصمت رهيف كسيف الرجاء

فاستفق يا فؤاد الغريب

وأشرع سلاحك عند اللقاء

فقد عدت من موتة الغرباء

لتدخل في طقس موت جديد

***

في الصباح تجيء

وتمسح أثوابها في ثيابه

وترفع أعينها بالنداء الكظيم

وترسم بسمتها بالمساحيق

تطبع فوق الجبين تحيتها للصباح

(أين ضاع الجواد الجموح؟ وكيف تسرّب عبر شقوق الغياب عواء الدماء؟

وكيف استطاع اجتياز الليالي

حتى أتاني بدون جواد؟

فمن يحمل الآن وجهي الذي لا أطيق رؤاه؟

ومن يحمل الآن عني الليالي التي سوف تأتي؟

ومن يستطيع السؤال؟)”

من الممكن أن يبسط الموت فوق الجميع ستارًا، لكنه أبدًا لا يقدر على تغييب الجمال، ولو خلف سحابة عابرة. هكذا آمن الشاعر مفرح كريم، الذي راهن على عدم انتهاء النشيد، طالما أن هناك رجالاً يقبّلون نسوتهم في ضياء الشجر.

القصيدة، في تجربة الشاعر مفرح كريم، هي دائرة الحديث المكتملة، وهي المركز أيضًا. استرسال اللغة، الموقّعة، عبر أسطر شعرية موصولة، يوحي كذلك بتوالد البدايات، بداية إثر بداية، بدون أن تكون هناك نهاية:

“كانت العربات مطهمة بالنساء

مزينة بالبريق الذي يتلألأ

فوق نحور الصبايا الجميلات..

وكنا نقاوم هذا البهاء

فنقعى سكوتا بنهر الظلام

ونلبس أردية من ضباب

وندخل بين لحاء الشجر..

لعل الوقوف الطويل

على حافة الجسر

ينحت تمثال صبر قديم

قديم

لعل الزمان تكلّس بين يدينا

وأصبح طينا

ينام على فرشة الحقل

يجهض طفل البلاد

الذي نرتجيه..

وهذي خيول البكاء

تجرجرنا من حبال الدموع

فلا يتراءى الزجاج الملون

عند المداخل

نرمي،

فتعلو الخيول بأعرافها في الهواء

وتطلق أصواتها بالغناء

ونرمي

فتعزف لحن الفرح

نعانق هذا النشيد ونبكي

فلا الموت يبسط فوق الجميع ستارا

ولا ينتهي عزف هذا النشيد

فنغلق دائرة للغناء

ونرجع للحقل

حتى نُقَبّلَ نسوتنا في ضياء الشجر”

مفرح كريم، الحروف بدأت بقصيدة صافية، ومثل هذا الحديث لا ينقطع، ومثل تلك الذات الشاعرة أبدًا تسكن في صفائها.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى