هشام مطر باحثاً في ليبيا عن أب مفقود

مودي بيطار

يقدّم كتاب هشام مطر الثالث «العودة: الآباء، الأبناء والأرض بينهما» شهادة أليمة في الحب والخسارة، علاقة الآباء بالأبناء، وضياع الهوية والطريق. يتداخل الشخصي والسياسي، الأمل «الماكر» واليأس السحيق، ويقين الوداع من دون القدرة على مواجهته. هي شهادة رجل موجع قد لا يعرف الحقيقة أبداً، أمضى شبابه في البحث ولا يزال عليه النهوض كل يوم وهو يجهل الأجوبة عن أسئلته. صوت مطر في كتابه الصادر عن «بنغوين فايكنغ» عاطفي، رهيف، يضيئه الشعر وتلبّده كآبة مرّة يحس القارئ معها بمسؤوليته وعجزه في آن إزاء مظالم الدنيا.
في ربيع 2012، يعود الكاتب مع زوجته الأميركية ديانا ووالدته الى ليبيا بعد غياب فاق ثلاثة عقود. يفكر في أن العودة قد تحرمه مهارة، عمل طويلاً على اكتسابها. كيف يعيش بعيداً من الأشخاص والأمكنة التي يحب. ترحّل إثر مغادرة بلاده بين نيروبي، القاهرة، روما، باريس، ولندن ونيويورك، المدينتين اللتين يعيش فيهما. تقطع الذكريات المتقطعة رحلة العودة، ويخالط إعادة اكتشاف الجذور العاطفية تقصٍ للحقائق العاصية. كان قام منذ عامين بحملة عن اختطاف والده جاب الله مطر في مصر في 1990 وتسليمه الى السلطات الليبية التي حبسته في سجن أبو سليم السيئ السمعة. لم يُعرف عنه شيء بعد ذلك، ولم تثبت وفاته في مجزرة السجن التي بلغ ضحاياها 1270. في 2009 اتّصل سجين ليبي سابق في سجن «فم الجحيم» بالكاتب في لندن وأخبره أنه شاهد والده هناك في 2002. قام الكاتب بحملة في الإعلام ومع جمعيات حقوق الإنسان بلغت ذروتها في توجيه أسئلة في مجلس اللوردات حول مصير جاب الله مطر في وقت كانت حكومة توني بلير على علاقة طيبة بالقذافي. حين سمع اسم والده بالإنكليزية في أعلى مجلس سياسي في بلده المتبنى أصيب بدوار. لم يكن فخراً ما أحسّ به بقدر ما دوخة مجوّفة. الأسقف الجنوب أفريقي دزموند توتو، الحائز نوبل السلام، طالب ليبيا بكشف مصير جاب الله مطر، لكن نلسن مانديلا، صديق القذافي، رفض التدخل. دبّر اللورد روثتشايلد للكاتب لقاء مع سيف الإسلام الذي ماطل وطالب ضمناً بتحميل مصر المسؤولية شرطاً لكشف ما حدث لوالده، وألمح ورجاله الى وفاته. أغراه بالعودة ليكرّمه ويمنحه الجوائز وحصة من ثروة ليبيا إن شاء أن يكون رجل أعمال. «أريدك أن تفكر بي كأخ وصديق» قال، وأطلَق أقرباءه بعد أكثر من عقدين في السجن، لكنه لم يعرف منه شيئاً عن أبيه.
كان جاب الله مطر ضابطاً كبيراً في الجيش، اعتقل حين قام القذافي بانقلابه، ثم كُلّف مهمة إدارية في بعثة الأمم المتحدة. عمل ديبلوماسياً فترة قصيرة ثم تحوّل رجل أعمال يتاجر بسلع تراوح بين الأحذية والسيارات. رفض التفاوض مع «المجرمين»، ودرّب جيشاً صغيراً في التشاد، وحمل دائماً مسدساً حين كان في أوروبا. فتحت الأسرة بيتها في القاهرة للمعارضين الليبيين والمحتاجين، وأقامت حفلات في منزلها في ضاحية المهندسين كانت ردّ الأم على واقعها. اكتشف الكاتب عند عودته الى ليبيا أنها أعدّت الطعام لنحو مئة وخمسين سجيناً، وأرسلت لهم الكتب وأدوات الكتابة. كان الكاتب في التاسعة عشرة حين اختطف والده. درس في إنكلترا باسم مزيف هو بوب، وادعى أنه من أم مصرية وأب أميركي. كان صديقه المفضّل حمزة الليبي الذي مارس والده وظيفة رسمية، ولم يكشف هويته الحقيقية إلا في ليلة الدراسة الأخيرة. شقيقه زياد كان يدرس في سويسرا، حين ظهرت سيارة أمام المدرسة فيها ليبيان طارداه وحاولا اختطافه.
بعد اختفاء والده انتظر الكاتب أكثر من عام ليزور القاهرة. أوحت السلطات المصرية بأنه في سجن في ضواحي العاصمة، وحذّرت الأسرة من الحديث الى الإعلام أو المنظمات الدولية. تحوّل هشام مطر حيواناً بلجام، حذراً وهادئاً، ولزم المنزل ستة أشهر. شعر بأن القوس تحت السقف في غرفة الجلوس يهبط عليه، وتسبّبت رؤية دواليب السيارات وهي تدور بارتجافه. اعتُقل أيضاً عمّان وأبناء عم، سمعوا في السجن رجلاً يتلو شعراً خاصاً بمنطقتهم أجدابيا، ولم يتعرفوا إليه. صمت أسبوعاً ثم عاود التلاوة، وبقوا يجهلون أنه شقيقهم وعمّهم جاب الله. عزا العم محمود عدم تعرفهم الى صوته بأجواء السجن المشوّشة وجلسات الاستنطاق الطويلة. يقول الكاتب أنهم لم يعرفوه لأنه تغيّر، وأنه لا يزال مسكوناً بما حدث لوالده في السجن خصوصاً في الأيام الأولى. بعد ثلاثة أعوام من الصمت الكامل وصلهم شريط مسجّل منه انتهى ببكائه. في بحثه عن الأب الذي لم يمحُ بكاءه لأنه أراد أن تسمعه أسرته، بات الابن أباً فشل في الحماية والإنقاذ.
سقطت طرابلس في آخر آب- اغسطس، وسيطر الثوار على سجن أبو سليم. أمضى هشام مطر يوماً على الهاتف، وهو في منزله في لندن، مع أحد الرجال الذين حطموا أبواب الزنزانات الفولاذ. رغب في أن يكون معهم، وفي الوقت نفسه لم يشأ ذلك. لم يجدوا والده بل سجيناً فاقد الذاكرة كانت صورة جاب الله مطر بين مقتنياته. حين عاد الكاتب الى بلاده لم يشعر فقط بأن الأرض غير ثابتة تحت قدميه في بنغازي، بل الزمن والمكان أيضاً. الوحيدون الذين يعرفهم ممن خبروا الإحساس نفسه كانوا سجناء سابقين. جرى الغضب مثل نهر سامّ في حياته، وأمضى أيامه ينتظر مذ غادروا ليبيا، وإذ جلس مع ديانا في كافيه فيكتوريا أحس بأنه يتذكر حياة كانت لهما هناك.
في أمسية له في المكتبة العامة، التقى صديقاً لوالده حرّر معه المجلة الأدبية في الجامعة، وكشف أن جاب الله مطر نشر قصتين فيها. تُليت إحدى القصتين في الأمسية، وكانتا اكتشافاً عميقاً للشاب الذي سيصبح والده، وبحثتا عن طريقة عصرية للكتابة عن ليبيا. تناولت إحداهما قتال راعيين وشابة العدو الإيطالي، والأخرى خسارة فتى أسرته وبيته وتصميمه على العمل والبقاء. سمع الكاتب العبارة حين عمل بنّاء بعد التخرج، ثم رساماً هندسياً ثم مصمماً عمرانياً. حين اختار الكتابة واضطر إلى أن يدهن البيوت ويقوم بأعمال صغيرة في بلدة بدفوردشير الإنكليزية. وحين وقف على حافة جسر أركول في باريس وحدّق في الماء تحته.
التقى الرجل الذي قال أنه شاهد والده في السجن في 2002، وأراه صورة له. لا، لم يكن من رآه، قال الرجل محرجاً، بل ظنّه سجين آخر جاب الله مطر. تمنى الكاتب أن يبكي. بُنيت حملته، تقرير «هيومان رايتس ووتش» ومفاوصاته مع سيف الإسلام على إفادة الرجل، وبدت كلها الآن مزحة قاسية، فارغة. فضّل أن يكون والده توفّي مع آخرين، وتخيّله يقول لهم ألا يحنوا ظهورهم، ويردّد أن مع العسر يسراً. رغب في الضجة والحركة واتجه الى وسط المدينة. دخل المحكمة حيث عُلقت صور قتلى الثورة، ووُضع نموذج لسجن أبو سليم تكريماً لضحايا المجزرة في 1996. لم يجد اسم أبيه بينها، وحين تقول له سيدة هناك إنها تأمل في أن يكتشف ما حدث تستوقفه كلمة «تأمل» وتنهمر دموعه.
الحزن يقلّص القلب، يقول هشام مطر. يُخفون رجلاً ليسكتوه ويضيقوا عقول من غادرهم، ليفسدوا أرواحهم ويحدّوا خيالهم. حين أخذ القذافي والده وضع أسرته في حيّز لا يزيد حجماً بكثير عن زنزانته. تنقّل الكاتب بين الغضب والكراهية حتى أحس أحشاءه تصغر وتقسو، فوقف على حافة جسر أركول ليقفز لكنه سمع جرساً. اعملْ وابقَ. عاد في اليوم التالي الى الرواية التي كان يحاول عبثاً كتابتها وإذا بها تنظّم تفكيره. تلاشى جسد والده، لكن مكانه هنا، يشغله ما يتعدى الذاكرة، شيء حيّ وراهن. ولحظة الخسارة الأصلية، نقطة الفراق التي تغير الحياة الى الأبد، تتحول لتشبه حضوراً حيّاً له قوته ومزاجه.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى