إبداع التاريخ ورؤية جبريل المعرفية في ‘إمام آخر الزمان’

د.عبير سلامة

لا نجد في الإبداع تصويرا دقيقا أو أمينا للعالم، لأن ما يتراءى لنا فيه ليس هو الوجه الحقيقي، بل ما تحول منه إلى رؤية المبدع ونظرته المعرفية، وفي “إمام آخر الزمان” محاولة للقرب من حدود الفهم الحقيقي للذات الجمعية الأصيلة مجردة من أردية التاريخ وسلطة ثقافته الرسمية، عبر اختيار الصعب ممثلا في المختلف المطرود من جنة القبول، أو الاعتراف بحقه في الوجود، أعني تفسير الشيعة لأحداث التاريخ، وما يبرر هذا الاختيار أن وجهات تفسير التاريخ متعددة، وليست إحداها بملزمة للمبدع إذا أراد التوجه إليه، لأن حظها من موافقة الحقيقة واحد، وتتفق جميعها في أنها حاصل نظرة أيدلوجية لوقائع التاريخ المتوالية تجعله وسطاً خاصاً متشبعا بذاته ومغلقا عليها.

وفي تاريخنا المُغلق كانت الحقيقة ـ غالبا ـ واحدة ومطلقة، ولا مصدر لها سوى السلطة الحاكمة المؤدلجة التي تكرس سعيها لتثبيت ذاتها ونفي ما عداها؛ فتحيل تاريخها إلى دائرة صراع لا تنهيه إلا سلطة بأيدلوجية مغايرة؛ ولذلك كانت الثقافة السائدة في صفحات التاريخ هي ثقافة السلطة التي تقدم أحداثه من منظورها الخاص، ولكن الأحداث التاريخية الخالصة تحتمل طرقاً للتقديم، وأساليب متعددة بحسب تعدد الأيديولوجيات ومنظور القراء، وهذا هو ما يجب أن يلجأ إليه الإبداع إذا أراد التحرر من تاريخ السابقين، أو أحداث التاريخ منظورًا إليها من السابقين.

يضع هذا الفهم للتاريخ كمادة إبداعية مسألة الأصالة في بؤرة إشكالية كبيرة؛ فالمقصود اعتبار الأصالة في اعتناق سنن السابقين، ولكن .. أيّ السابقين؟! ميراث تفسير التاريخ أم التاريخ نفسه؟ تكرار رؤى الآخرين أم المجازفة بقراءة من خارج السرب؟ امتطاء التيار الجارف أم السباحة ضده؟

هل نبحث عن أصالة الإبداع؟ سنجدها، إذن ـ في كل ما بعد (أم)، أي في احتواء التاريخ الخالص مجرداً من رؤى السابقين له وتفسيرهم المستبد لأحداثه وتعليقاتهم المؤدلجة، ثم في استمداد هذا الاحتواء لإنتاج رؤية مغايرة تستفز وهج العقول، وتستنطق الصمت المتكلس من بلادة وخمول، وأعتقد أن ذلك ما يفعله الكاتب محمد جبريل في أكثر أعماله وألح عليه بإخلاص في روايته “إمام آخر الزمان” التي صدرت طبعتها الثانية (الطبعة الأولى 1984) مؤخرا لتؤكد أن الإبداع الأصيل يظل أبدًا على حافة المواجهة مع متغيرات الزمن وتحولات المكان.

تنهض الرواية على أساس من رفض فكرة استكانة المجموع لنظرية الخلاص الفردي، وانتظار المنقذ بسلبية وعجز مقيت حتى يتأيد الدين، ويفد الرخاء، ويظهر العدل مذهبه الذي لا ينحرف عنه (ص206)، وقد كانت اللهفة الموجعة على ظهوره تدفع المؤمنين به لاختيارات ضالة، وتنازلات قاتلة اعتماداً على رؤية قاصرة توهم بالصدق وهي خادعة! وتتبدد سريعا حين يزيد المعارضون من نشاطهم فيزيدهم الإمام من عقابه، يلاحق المتمردين، ويقضي على كافة الأصوات والآراء، يصادر حقوق النقد والمعارضة والتعبير، وتزدحم بمعارضيه السجون (ص61).

هل استفادت الرعية من قسوة الدرس؟ أبدا! ظنت في الضوء الكاذب نهاراً ساطعاً جاء بعد طول ظلام؛ فانساقت بأمان وراء إصلاحات الإمام الجديد الادعائية غافلة عن مركزية الإدارة، ضآلة الأجور، زحام المواصلات، السير البطيء لدولاب العمل، تقييد الحريات، الديموقراطية المزيفة التي جعلت الإمام يحرض على إجراء الاستفتاءات العامة في كل الخطوات التي ينوي الإقدام عليها، حتى تلك التي يشك في تأييد الناس لها، فلا بد أن تستند القرارات إلى الشرعية، أو أن يكون لها بعض السند الشرعي في إجماع العامة، رغم الهمسات المغرضة بالغش والتزوير وتصويت الموتى واستبدال الصناديق، فإن النتائج كانت على الدوام في جانب التأييد للقوانين والتشريعات التي ما صدرت إلا لصالح الوطن والمواطنين (ص98).

ثم لما بلغت التجاوزات مداها وأصبح الانتماء إلى الحزب الواحد هو الصفة التي تحقق للمرء امتيازاً على الآخرين، وأصبح أي نقد أو تعبير عن التذمر من حكم الإمام خيانة عظمى يعاقب عليها الولاة والقضاة بالموت ـ وُلدت الأسئلة “هل يأذن الإسلام بالتفاوت الطبقي: طبقة محرومة من كل شيء، وطبقة مرفهة تملك كل شيء ؟ هل يأذن الإسلام بتكديس الثروات عند طبقة، وفقدانها عند أخرى؟ هل يأذن بالاحتكار والغش واستلاب أموال الآخرين؟”. (ص107).

وكالمعهود في تاريخنا، كان موت الإمام خلاصاً إلهياً لمحنة طويلة، وكالمعهود أيضاً طغسلت السماء كل أثر للإمام السابق. اسمه زال من المدن والشوارع والمشروعات الصناعية والزراعية وإستاد العاصمة الكبير”.(ص135)، وبدت طريقة الإمام الجديد مفضية إلى الهداية والحق، ولكنها بخبث شديد توزعت إلى مسارب شتى، ثم “تقطعت الأسباب ـ تماما ـ بين شعارات البداية ومسارب التنظيم”. (ص147)، فعمت هذه المرة حالة من الفوضى الدادية، دفعت الناس إلى استغراق هروبي سقيم في الجنس والشذوذ والمخدرات، أو التواطؤ مع النظام الذي تسيّره عقلية سجان مراوغ يُظهر الرفض والتمنع، ثم يقيِّد الرعية الطامحة لتغيير بالعهود والمسئولية عن الاختيار .. “مَنْ ينتمي إلينا ثم يفارقنا، يكون قد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وارتد عن ملة الإسلام .. وبذلك يكون حلال المال والدم والعرض”. (ص81) “لقد أعطوني طاعتهم حين أعطوني إيمانهم بي”. (ص178).

إدانة السياق العام، ليست للإمام الجائر بقدر ما هي للرعية التي تحجبها مشاعرها الوقتية عن النظر للأمور، والحكم عليها بموضوعية؛ فتسيء استخدام نعمة الاختيار، وتغتال حقها في الرفض برضى تام، مَنْ يلوم الإمام ـ إذن ـ إذا كانت فلسفة حواره المفروض تمضي على النحو التالي:

“قضائي كقضاء داود لا يُسأل البينة” ص179.

“طاعتي هواء إذا لم تتنفسوه ضاعت حياتكم” ص189.

“إني ربكم، فخروا لي ساجدين” ص191؟!

لماذا تكررت جملة “العقيدة ـ وحدها ـ هي الملجأ والملاذ”؟ ص50-59-61، نعم .. العقيدة ملجأ، ولكن هل تكون العقيدة من نمط ما رأيناه لدى الرعية ملاذاً؟ لقد خلت من فكر حر غير متواطئ، ولم يصنها سياج من عقل وتدبير؛ لذا لم تمنح الرعية سوى مزيد من التأخر والظلم والعبودية للأئمة المختلفين عددا فقط، فهم في واقع الأمر إمام واحد وزَع الروائي ـ بذكاء شديد ـ ملامح شخصيته على كثيرين، أما تطمينات البدايات فهي بعينها تتكرر لدى الجميع، وكذلك وقائع مسيرة التحولات وصولا للنتائج المحتومة، والثمار التي تؤتى في كل الأحوال فجة؛ لأن التربة من أصولها مريضة!

يُحسب تميزاً جليل القيمة الفنية للرواية والروائي، عدم الوقوع في فخاخ اللغة التراثية المصطنعة، الأسلوب القريب المُحكم بصحة واتساق، الحوار المشحون بعمق فكر وتوتر مشاعر، رؤية السارد العالم بكل الأسرار، وإن لم اُقدّر مبرر تغير الرؤية (ص145) حيث أصبح الراوي فجأة مشاركا بصيغة المتكلم الذي يناجي نفسه وآخر غير مُسمى، هو الإمام خاصة إذا كان الراوي “على عبدالحسين” أقرب الاتباع إلى مجلس الإمام كما أظن؛ لأن اتصال ذكره في الصفحة التالية مباشرة يوحي بذلك، إضافة إلى وضوح صوته في البداية (ص35-36) وكونه صاحب الرحلة إلى المعرفة واليقين، فهو من “الجعفرية” وقدم إلى “الفتح” سعيا وراء بشرى الأنبياء ونبوءة الخلاص، وهو في تلك اللحظة المرصودة (ص145) يكتوي بالنوم على الاستسلام لمارد الرغبة ودخوله في تجربة شاذة بمغامرة ولا مبالاة واتباع أحمق لتيار فوضوي عام.

كنت أرجو أن يطّرد اختلاف الرؤية؛ ليتضح أكثر تعدد وجهة النظر، لا بين الشخصيات المختلفة ـ فقد تكفل بذلك الحوار ـ ولكن عند الشخصية الواحدة، خاصة إذا كانت بمثل ثراء شخصية “على عبدالحسين”.

المكان في الرواية رحب كمساحة أمّة، حدده أكثر السياق بـ (الفتح)، ولكن وردت إشارات لمدن أخرى (الإسكندرية ـ تونس ـ الخرطوم ـ دمشق ـ العين ـ القاهرة) وكلها تصلح لاحتواء المواقف المذكورة، والفكر الذي قاد إليها ثم تعايش معها بائتناس.

ويمتد الزمان ليشمل تاريخنا كله، ماضيه وحاضره، البداية من عهد الرسالة، وبداية النهاية في عصرنا الحالي، نملكها كرعية الإمام في الرواية إذا انتبهنا للمأزق الفكري الذي وضعنا الروائي فيه؛ لذلك ـ ربما ـ كانت النهاية ـ في نظري ـ من أفضل النهايات الروائية، وأكثرها اتفاقا مع معنى الإبداع الحقيقي؛ لأنها حملت نتائج تغير وجهة نظر الرعية التي كانت مستغرقة في العجز والسلبية، ومحاصرة بوهم انتظار المنقذ الفرد رسول العدل والرخاء، حتى استيقظت على اغتيال مَنْ أكدت الروايات أنه بالفعل المهدي المنتظر، وأورث الحزن الهائل تساؤلات ومناقشات، علت فيها الأصوات لتكشف عما تريد، وما لا تريد وتضع “الصورة في إطارها المحدد، حتى يعود ـ أجلّه الله ـ من غيبته، فإن الحياة يجب أن تمضي في سيرها المعلوم: الأشجار تهب الثمار ـ الناس يتناكحون ويتناسلون ويذهبون إلى المصالح ـ يشيدون ويبدعون ويعملون للحاضر وللآتي أيضا، إذا تحدد الجهد في انتظاره ـ أفاده الله ـ فمن يبني ويزرع ويجمع الجيوش ويحمي الثغور ويذود عن الحياض ويصرف الأموال العامة في مصارفها؟ علينا حتى يؤوب ـ أيده الله ـ أن نعمل ونعمل ..الخ”. (ص212-214).

تؤكد دلالات نمو وعي الرعية في النهاية أن الذي اُغْتيل على رصيف مقهى السيالة، لم يكن المهدي المنتظر، بل الوعي المزيف، خبز الرعية المحاصرة والهواء، وهمها المسيطر وإيمانها بحتمية التغيير مع انتظار غيرها للفعل والتحقيق.

يوجد فرق كبير بين المبدع السياسي أو الاجتماعي والمبدع الطليعي، فالأول لا يطرح من إبداعه سوى ما نعرفه ومررنا به ثم استطعنا تكوين وجهة نظر فيه، أما الآخر فإنه يُسهم في تكوين تلك الوجهة، ويأخذ بيدنا للتعبير عنها ومحاولة التغيير، وأثق في أن ذلك ما تمكن منه في “إمام آخر الزمان” محمد جبريل.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى