رائعة شكسبير ‘حلم فـِ ليلة نُص الصيف’ بالعامية المصرية

محمد الحمامصي

تساءل المترجم عبدالرحيم يوسف في مقدمة ترجمته لمسرحية وليم شكسبير “حلم فـِ ليلة نُص الصيف” بالعامية المصرية الصادرة هذا الأسبوع عن دار صفصافة: ما الذي يدفعني لفعل جنوني كهذا؟ أصلا ما الذي يجعلني أترجم شكسبير؟ أي مأزق أضع نفسي فيه بولوج هذه التجربة المحفوفة بالأهوال؟

وأوضح عبدالرحيم “تلك هي أول ما قفز إلى ذهني من أسئلة عندما عرض عليَّ الصديق أحمد شوقي المخرج المسرحي السكندري العمل معه لتقديم عرض بترجمة جديدة إلى العامية المصرية لمسرحية شكسبير التي عُرفت باسم “حلم ليلة صيف” في العربية، وكانت فكرة شوقي هي طباعة النص المترجم وتوزيعه على جمهور العرض. كان ذلك في سبتمبر/أيلول 2013.

اعتذرت على الفور بمشاغلي، لكن شوقي بعدها بأيام جاءني بعرض جديد، فقد وجد مترجمة تحمست للفكرة، وطلب مني فقط أن أراجع صياغتها للعامية وأكتب أشعار العرض الذي يطمح إلى أن يكون عرضا موسيقيا غنائيا. وافقت مترددا. لكن بعد فترة تعذر على الصديقة بدء العمل ووجدت نفسي أقترح على شوقي مازحا أن أقوم بالترجمة، لكن شوقي تعامل مع الاقتراح بجدية وفرحة لم أستطع أن أحبطها ساعتها، وأصبح عليَّ أن أقوم إلى جانب الترجمة بالإعداد وصياغة الأشعار!

بدأت العمل في أكتوبر/تشرين الأول شاعرا بالورطة التي وضعت نفسي فيها، وفي نفس الوقت بدأ شوقي لقاءاته بفريق العمل والممثلين، وسار العمل متوازيا حتى انتهيت من الترجمة في فبراير/شباط 2014، وأثناء الترجمة كنت أقوم بإعداد النص شعريا فيما يقوم الصديق الملحن أحمد حمدي رؤوف بتلحين الأغاني وتدريب الممثلين على الغناء. وعُرض العمل لمدة ستة أيام في الفترة من 26 إلى 31 مايو/آيار 2014 على مسرح ليسيه الحرية بالإسكندرية وسط إقبال وترحيب معقولين”.

ولفت إلى أن خوفه كان ناشئا من مصدرين: الأول صعوبة التعامل مع النص الشكسبيري بشكل عام ونص (حلم ليلة صيف) بشكل خاص الذي شهد ترجمات كثيرة قد تضعني في مقارنة لا أطمح إليها أصلا. أما السبب الثاني فكان ما يمكن أن تثيره الترجمة للعامية من مشاكل أنا في غنى عنها! أنا شاعر عامية في الأساس لكني أحمل حبا كبيرا للفصحى ولا أحب التورط في المعارك بين أشياعهما، وها أنا ذا أكتب مقدمة هذا النص المترجم للعامية بالفصحى، ليس على سبيل الاعتذار ولا إثبات القدرة ولكن – ربما – لأني لا أشعر داخلي بصراع قاتل بين اللغتين، ولتستدعِ مقتضيات التعبير من تشاء منهما وقت الحاجة!

وأضاف “كنت أعرف أن العالم الكبير د. مصطفى صفوان قد ترجم نصين من نصوص شكسبير إلى العامية المصرية وقُدّر لي أن أقرأ فصلا من ترجمته لمسرحية (عطيل) في جريدة “أخبار الأدب” منذ سنوات بعيدة. ثم قرأت المسرحية كاملة في طبعة مكتبة الأنجلو المصرية التي صدرت عام 1998، قرأتها خلال كتابتي لهذه المقدمة.

وفي مقدمة ترجمته لـ (حلم ليلة صيف) يعترف د. محمد عناني بمحاولته استخدام العامية المصرية في ترجمة المشهد الثاني من الفصل الأول، معتقدا أنه – على حد قوله – فتح فتحا جديدا حين مزج العامية بالفصحى في مسرحية واحدة، لكن النتيجة – والكلام مازال لـ د. عناني – كانت محزنة؛ فعندما قرأ ترجمته على بعض أصدقائه من الأدباء والنقاد أجمعوا على عدم اقترابها من النص الأصلي، وأن العامية المصرية (لم تنجح هنا – وإنما نزلت بمستوى اللغة إلى مستوى لغة المسرحيات الواقعية المصرية التي لا هي بكوميديات راقية ولا هي بهزليات فاقعة!) لكن د. عناني يعود في ترجمته لمسرحية (روميو وجولييت) إلى طموحه في المزج بين الفصحى والعامية في إطار سعيه لتوصيل (النغمة) أو النغمات المتفاوتة التي يرمي إليها شكسبير مستخدما النثر حينا، والنظم حينا آخر، والعامية في بعض الأحيان”.

وأكد عبدالرحيم يوسف أن ما فعلته ـ في ضوء ما سبق ـ لم يكن سبقا فريدا ولا نهجا جديدا. وقال “ما بين محاولات المزج الحذر والمحسوب لدى د. عناني وما بين الطموح الكامل لدى د. صفوان، خرجت لغة شكسبير – التي طالما كانت مثالا للجزالة والتفاصح في نسخها العربية – وقد ارتدت ثوبا مصريا كاملا، أو بعض ثوب!

وتلى هذه المحاولات الرائدة أو واكبها طوال الوقت طموح كبير لإعداد نصوص شكسبير للعامية، وربما كان عرض (حلم ليلة صيف) الذي قام بإعداده للعامية الفنان سيد رجب عام 2003 وأخرجته السويدية إيفا بيرجن واحدا من أشهر العروض التي قدمت شكسبير بالعامية.

وإذا كانت تجربتي المتواضعة قد انطلقت من رغبة في تقديم عرض مسرحي بالأساس، لكن طموح شوقي في نشرها بقدر ما كان مبهجا بقدر ما كان مخيفا. ونتيجة لظروف الإنتاج الخاصة بالعرض (الذي قُدم تحت مظلة قصر التذوق الفني بسيدي جابر والهيئة العامة لقصور الثقافة) لم نتمكن من طباعة الترجمة الكاملة ولا النص الذي تم إعداده. وقد أراحني هذا في الحقيقة وكدت أودع الموضوع بأكمله أدراج النسيان، إلا أنه في حوار مع الصديق الناشر محمد البعلي حكيت له فيه عن هذه الترجمة، أبدى حماسا لنشرها ضمن سلسلة كلاسيكيات التي تصدرها دار صفصافة للنشر والتي شرفت بنشر ترجمة لي فيها منذ عامين. وهكذا بدأت مراجعة ترجمتي مرة أخرى والعمل على تنقيحها من جديد، مع قدر كبير من التباطؤ في كتابة هذه المقدمة وتسليم النص كاملا.. ربما تهيبا من الموقف بأكمله!

وأضاف “قبل بدء الترجمة حصلت على ترجمتين للعربية: (حلم ليلة صيف) الصادرة عن دار المعارف بترجمة حسن محمود ومراجعة محمد شفيق غربال ومحمد بدران، و(حلم ليلة في منتصف الصيف) الصادرة عن دار الشروق بترجمة حسين أحمد أمين، وكنت أعود إليهما كثيرا أثناء الترجمة للمقارنة والمراجعة. وأنا مدين لهما بالكثير رغم أني أحيانا كنت أجد أخطاء صغيرة، أهمها اتفاق الترجمتين في خطأ جاء في نهاية المشهد الأول من الفصل الأول؛ إذ يقول لايساندر لهيلينا:

To-morrow night, when Phoebe doth behold

Her silver visage in the watery glass,

فيترجم الأستاذ حسن والأستاذ حسين كلمة Phoebe على أنها الشمس، وتأتي ترجمة الأستاذ حسن هكذا:

في مساء الغد، عندما تأخذ الشمس في النظر

إلى وجهها الفضي في مرآة الماء

فيما تأتي ترجمة الأستاذ حسين هكذا:

.. فغدًا عند المساء، حين ترى الشمس خيالها الفضي في مرآة الماء.

وربما جاء هذا الاتفاق على الخطأ نتيجة الخلط بين كلمتي Phoebus التي تعني الشمس أو إله الشمس في الميثولوجيا اليونانية، وبين كلمة Phoebe التي تعني القمر أو إله القمر في الميثولوجيا اليونانية كذلك. لكنه في الحقيقة خطأ غير منطقي تماما، فكيف يكون اتفاقهما على الهرب ليلا عندما تكون الشمس في السماء؟ وهو الخطأ الذي لم يقع فيه أستاذنا د. محمد عناني في ترجمته البديعة التي حصلت عليها بعد فترة من انتهاء ترجمتي وساعدتني مقدمتها الرائعة كثيرا. يترجم د. عناني هذين السطرين هكذا:

في ليل الغد

حين يطل القمر ليشهد صورته الفضية

في مرآة الماء

وفي ترجمتي، ساعدتني العامية في المحافظة على تأنيث كلمة القمر كما جاء مرارا في النص الشكسبيري، فجاءت ترجمتي لنفس السطرين هكذا:

بكره بالليل، لمَّا القمره تطل

وتشوف وشَّها الفضي في مراية الميَّه.

وأكد عبدالرحيم أن نص “A Midsummer Night’s Dream” نص إشكالي كصاحبه الذي يحتفل العالم هذا العام (2016) بمرور أربعمائة عام على رحيله، وطوال هذه القرون الأربعة كان اسم الرجل وأعماله يكتسبان المزيد من الشهرة ويشغلان الدارسين والمهتمين بالمسرح والأدب في كل أنحاء العالم.

لا يعرف العالم الكثير من تفاصيل حياة ويليام شكسبير الذي وُلد في 26 أبريل/نيسان 1564 وتوفي في 23 أبريل/نيسان 1616 قبل أن يتم عامه الثاني والخمسين بثلاثة أيام. حتى تاريخ ميلاده يختلف حوله كاتبو سيرته، فيفضل البعض أن يجعله 23 أبريل/نيسان ربما لجاذبية فكرة الميلاد والموت في نفس التاريخ، ويقولون إن يوم 26 أبريل/نيسان كان يوم تعميده.

هذا الاختلاف سيمتد إلى كافة تفاصيل حياة الرجل لتصل إلى درجة تشكيك البعض في وجوده من الأصل، وبالمثل امتد الجدل حول انتساب أعماله المسرحية الثمانية وثلاثين وسوناتاته الـ 154 إليه، فأكد البعض مشاركة كُتَّاب آخرين له من الباطن في بعض أعماله، ونفى آخرون وجوده نفسه ونسبوا أعماله كلها إلى كُتَّاب آخرين، لكن الكثير من الدارسين والمحبين يرفضون هذه الآراء، ويرى الجميع أن شكسبير هو أعظم من كتب بالإنجليزية، وأبرز كُتَّاب الدراما في العالم”.

وحول العنوان الذي اختاره قال يوسف “فضلت أن أترجم العنوان إلى “حلم فـ ليلة نُص الصيف” نص مركزي في مسيرة شكسبير الدرامية، بالطبع هناك خلاف حول تاريخ كتابته لكن معظم الدارسين يتفقون على أنه كُتب في أواسط تسعينيات القرن السادس عشر مابين عامي 1590 و1597، ويؤكد البعض أنه كُتب عام 1595 أو بدايات عام 1596؛ لأن الإشارة إلى حالة الطقس السيء في الحوار بين تيتانيا وأوبيرون قد تكون انعكاسا مباشرا أو إشارة مقصودة لحالة الجو السيئة للغاية التي شهدتها انجلترا طوال عام 1594.

وقد مثَّل النص نقلة من مرحلته الأولى: مرحلة الكوميديات الكلاسيكية ذات الشخصيات والسياقات الإيطالية، إلى مرحلة الكوميديات الرومانسية التي كان نصنا هو أولها. ورغم أن النص يشتمل على إحالات كثيرة وتأتي شخصياته من سياقات ونصوص سابقة – كعادة شكسبير في الاشتغال على حكايات ونصوص كلاسيكية وشعبية – اتسعت لتشمل الميثولوجيا اليونانية (ثيسيوس وهيبوليتا) والتراث الشعبي الإنجليزي (بك) وكتاب أوفيد “مسخ الكائنات” (تيتانيا)، لكن الباحثين يتفقون على أن الحبكة الدرامية جاءت من خيال الكاتب، ربما للمرة الأولى في مسيرته الطويلة.

تدور أحداث “حلم فـِ ليلة نُص الصيف” في أثينا في زمن غير محدد، لكنها كالعادة تمتلئ بالإشارات إلى انجلترا زمن الشاعر، وتتوازى في النص ثلاثة عوالم: عالم النبلاء والبلاط الأثيني الذي تنطلق منه أحداث القصة باقتراب زفاف البطل ثيسيوس الذي جعله شكسبير هنا دوق أثينا على حبيبته هيبوليتا التي نال قلبها بعد صراع وحرب عنيفة معها، وأزمة العشاق الأربعة الذين يحتكمون إلى الدوق لحلها. وعالم الفرقة المسرحية الفقيرة المكونة من مجموعة من العمال السذج الذين يأملون في تقديم عرضهم المسرحي في زفاف الدوق، وهو عالم إنجليزي تماما في أسماء العمال وسمات شخصياتهم ولغتهم، وعالم الجن الذين يسكنون الغابة التي يجتمع فيها العشاق والفرقة المضحكة والدوق وأصدقاؤه.

يلعب شكسبير على العوالم الثلاثة ويمنح لكل منهم شكلا لغويا مختلفا: فيأتي كلام النبلاء في شكل الشعر المنثور والمقفى، ويستخدم العمال النثر العادي المليء بلغة الحياة العامية، ويتحدث الجن بالشعر الغنائي المقفى.

ورأى عبدالرحيم أنه إذا كان البعض يرى في هذا النص ملهاة ساخرة عن الحب وسوء التفاهم وعبث الأقدار، فإن البعض الآخر يرى فيه سخرية من أشياء عديدة: من فكرة الحب الرومانسي المراهق، ومن سذاجة تصور النبلاء عن الحب، ومن ممارسات المسرح الإنجليزي وقت كتابة المسرحية، بل ومن اللغة العاطفية للعشاق أنفسهم. وقال “يتحدث النقاد كذلك عن تناقضات منطقية في كتابة النص نفسه: ففي المشهد الأول يتحدث ثيسيوس عن أربعة أيام تفصله عن ليلة زفافه التي ستواكب ظهور الهلال الجديد، وفي نفس الليلة يقرر لايساندر وهرميا الهرب ويحددان الغد بعد أن يسطع القمر.

ويشير حسين أحمد أمين في مقدمته إلى العنوان المضلل للمسرحية: ففي الوقت الذي يشير فيه العنوان إلى أن زمن الحدث الرئيسي هو ليلة منتصف الصيف، وهي ليلة 23 يونيو/حزيران، يتحدث ثيسيوس في الفصل الرابع عندما يجد العشاق الأربعة نائمين في الغابة عن أنهم لا بد قد استيقظوا مبكرين ليشهدوا مثلهم الاحتفال بالأول من مايو/آيار، ورغم أنه يمكن المجادلة بأن عيد منتصف الصيف يتم الاحتفال به في اليونان – مكان الأحداث – في ليلة 30 أو 31 مايو/آيار؛ إلا أنها مازالت بعيدة عن الأول من مايو/آيار.

قد يكون هذا ناشئا من طبيعة كتابة النص للعرض المسرحي بداية وليس للنشر، وبالتالي فإن التعديلات التي تحدث أثناء العرض وربما أثناء الكتابة تغير مسارات العمل. لكن شكسبير في “حلم فـ ليلة نُص الصيف” يترك العنان للخيال ويشير دائما إلى اضطراب كل شيء: الوقت والجو والمشاعر والأفكار.

واختتم عبدالرحيم مقدمته للترجمة مؤكدا أنه حاول جاهدا في ترجمته أن يتعامل مع المستويات المختلفة للنص وللغته التي تُراوح بين المجازات الشعرية والبلاغية الجزلة، وبين لغة الحياة اليومية بعاديتها وأحيانا بأخطاء اللغة والمنطق عند بوتوم الذي يخلط كثيرا بين الحروف والمفاهيم ليفجر شكسبير منه الكوميديا. يمتلئ النص بالإحالات للآلهة والأساطير اليونانية، كما يحتوي أحيانا على تلميحات عنصرية لها علاقة باللون أو العِرق ربما كانت مألوفة في زمنها ولم تكن تثير استياء وسط جمهورها الإنجليزي، لكنها تثير استياءنا الآن بالطبع!

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى