رينه ماغريت ومزج السوريالي بالفلسفي

أسعد عرابي

رينه ماغريت وعلاقته بالفلسفة معرض بالغ الأصالة لأنه يكشف علاقة الفن بالفلسفة. وهذا كما أراده الناقد المعروف ديدييي أوتينغر ضمن مساحة رحبة في متحف الفن المعاصر بمركز بومبيدو، قلب باريس النابض بالثقافة ومركز موسمها الراهن المزدان بالمفاجآت الثقافية. والمعرض يستمر إلى كانون الثاني (يناير).
ولد ماغريت عام 1898 في بلجيكا. يُعتبر من أبرز ممثلي الفن المعاصر والسوريالية، بخاصة في بلجيكا. توفي في بروكسيل العاصمة عام 1967.
يطرح الكوميسير المتنور في كل مرة هذا السؤال النّخبوي «هل رينه ماغريت فنان مفاهيمي؟» بمعنى فلسفي؟
وعندما يهدأ سؤاله يتحول إلى هل ماغريت هو الفنان السوريالي الوحيد المفاهيمي؟ يحاول أن يجيب بالإيجاب المقارن والمخبري وبمقارنته بأعمال وخصائص معاصريه من السورياليين – علماً أن غالبيتهم تجمعت في باريس حول الشاعر أندريه بروتون ووضع بيانها في حدود 1920، والإيطالي الوحيد المؤسس كان جورجيو شيريكو الذي انسحب إلى روما معترضاً، معتبراً أن ريادته وتأسيسه الحركة لا علاقة له بالسوريالية وإنما بالميتافيزيقية، في موضوعاته الأسطورية أو الميثولوجية ذات الإضاءات المسرحية الحادة الهاربة إلى الأفق على طريقة عصر النهضة الإيطالي. أما المتمرد الثاني فكان عكسه وانضم متأخراً إلى المجموعة وهو دالي الاستفزازي الأول. اتهمه بروتون بالتسويق الأدبي في اللوحة وطالب بطرده بعكس ماكس إرنست الألماني الأصل الذي حاول أن يجعل من الفكر السوريالي لوحة. الواقع أن ماغريت يقع بين ماكس إرنست وشيريكو، لكنه أشدهما تلغيزاً لدرجة أن المخرج الأميركي ألفريد هتشكوك كان يستلهم من لوحات ماغريت مباشرةً، مثل استعارة الطير أو قبعة المولون (البطيخ الأصفر) وغيرها.
الإسباني خوان ميرو كان يستلهم من موقع بعيد هو رسوم الأطفال. وتانغي استلهم مشاهد بواطن المحيطات الأثيرية والطوباوية الفلكية. أما سوريالية بيكاسو فهي الأبعد لأنها تعتمد على الشطح السحري البدائي، فهي أبعد ما تكون عن الفلسفة.
لا شك في أن ماغريت مثل معاصريه السورياليين تأثّر بأبحاث التحليل النفسي لسيغموند فرويد، ولزميله يونغ، ونجد لانتحار والدته وهو في الخامسة عشرة أثراً نفسياً كبيراً فيه، إذ طبع إنتاجه بالحزن والبرود، لكنه برود التأثر بالفلسفة وعدم اكتراثه بخصائص المادة التشكيلية – بعكس ماكس إرنست – لأن ما يهمه هو التلاعب بالصورة ومدلولاتها السيميولوجية، لذلك فهو متنوع أنواع الأداء: مصور – نحات – حفار – فوتوغراف – سينمائي…
لا شك في أن علاقته الحوارية التوأمية مع الفيلسوف ميشيل فوكو مؤلف «كلمات وأشياء»، وما جمعهما من صداقة فكرية رسختا كل هذا الجانب الفلسفي الجدلي والتلاعب على الأطروحة وعكسها، فمنذ 1929 بدأ يدخل في نفق «خيانة الكلمات» والمدلولات: يرسم بصيغة وصفية غليوناً ثم يكتب تحته: «هذا ليس غليوناً». تعامل بإنعكاس المدلول مع «تفاحة» وسواها من الأعمال، في كل مرة يضع المتفرج أمام احتمال شكّه بالمدلول الظاهري لسيميولوجية المرسوم، وحين ابتدأت مراسلات الاثنين، يقول مارغريت لفوكو: «ليس لدينا مكان للامرئي سوى المرئي وليس العكس» وذلك عام 1966.
وكان قبل ذلك عرّف «التصوير بأنه فن التفكير»، هو ما دفعه إلى التدرب على تحرير عملية التداعي، سواء الأبجدي منه أو الصوري الدلالي، واستخدام البساطة المغلوطة للصورة (على الأغلب هي صورته الشخصية في المرآة)، فتداهم خضرة الأرضية مثلاً الوجه ولا تبقي منه سوى حدود العينين والأنف والفم، فتحول هذه الدلالات التفصيلية إلى صور مألوفة مجتزأة وعائمة في الأخضر. كأن الالتباس البصري الذي نعثر على أحابيله في فن الأوبتيك – سينيتيك، اندمج في أسلوبه بصورة فلسفية مستعيداً «أسطورة الكهف» لأفلاطون، وكيف أن الدلالات المرئية ما هي إلا ظلال وهمية تلك التي تحيط به وتطوقها ألسنة النار من كل جانب فترمي بالظلال إلى كل جهة.
يستعرض الناقد أوتينغر وهو كوميسير المعرض، شتى هذه الالتباسات في عدد كبير من اللوحات المعروفة ليظهر ماغريت بالنتيجة فناناً فلسفياً وسوريالياً معاً. ولعله بالأحرى السوريالي الأول الذي يصوّر تشخيصاً بعقلية تجريدية فلسفية خيالية. ولو تأملنا عناوين مراحله المتتالية وموضوعاتها لتأكدنا من صحة هذا التشخيص النقدي، عناوين مثل: خيانة الكلمات – ابن الإنسان – المحبّون المقلقون – الديمومة المطعونة – الشروط البشرية.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى