«الخيمة البيضاء» لليانة بدر .. رواية ضد المألوف تعريّ الكثير من «المسكوت عنه»

بديعة زيدان

صدر مؤخراً للروائية الفلسطينية ليانة بدر، رواية “الخيمة البيضاء” عن دار نوفل (هاشيت أنطون) في بيروت، وهي كما تصفها الدار الناشرة “تروي حكاية مدينة تقع خلف الأسيجة الشائكة، لا تزال تخوض معاركها بصمت”، كما أنها تشكل “حكاية جيل يحارب العجز بروح لم تنكسر وبوسائل جديدة، ونساء لا يزلن يحملن في ضلوعهن الأمانة: واحدة تعبر يومياً الحواجز المذلة لتؤكد على حقها في المكان، وأخرى تبحث في بهتان المرحلة على الشعلة فتجدها هذه المرة على الجبهة الاجتماعية لا السياسية”. ويمكن لقارئ الرواية، وتقع في 282 صفحة، أن يلحظ بأن المكان هو البطل الأساسي، وبالتحديد دوار المنارة وسط مدينة رام الله، الذي تنطلق منه بدر سردياً مسترجعة تجارب عقود خلت، عبر توليفة جميلة لعدة شخصيات، كما تنطلق منه باتجاه مواقع محيطه لها حضورها التاريخي كدوار الساعة وشارع الإرسال، حيث تدور الأحداث للشخصيات المحورية في هذه الجغرافيا المحصورة والضيقة، وفي فترة زمنية لا تتجاوز ساعات يوم واحد. وفي ظل سطوة المكان، وغياب الحدث أو الحبكة المحورية باتجاه أحداث صغيرة ومتفرفة، تميزت الرواية بجرأتها في طرح مواضيع عديدة لا يزال بعضها مسكوتاً عنه، منها صعوبة الاندماج ما بين العائد وابن البلد، والفروقات ما بين الانتفاضتين الأولى والثانية، وتقديم رؤية نقدية بأسلوب روائي لكل منهما، والكثير من هموم ومشاكل الشارع الفلسطيني، بعضها ما يمكن وصفه بـ”الفساد الثقافي”، أو حتى “ضياع التنظيمات النسائية”، وليس انتهاء بـ”اللهاث وراء الوظائف، والمناصب، والرواتب المؤمنة”. رصد التحولات ومراجعة التجربة من جهته وصف د. إيهاب بسيسو وزير الثقافة، رواية “الخيمة البيضاء”، وخلال تقديمه إياها في حفل إطلاقها بمتحف محمود درويش، مؤخراً بأنها “بمثابة مراجعة أدبية وإبداعية لحصيلة قرابة الأربعين عاماً من العمل الوطني والأحداث السياسية والتحولات الاجتماعية التي رصدتها ليانة بدر بأسلوب سردي مميز، اعتمدت فيه بشكل واضح على المونولوج الداخلي، حيث بدأت من الانتفاضة الأولى عبر شخصية نشيد (أم خالد) إحدى ناشطات هذه الانتفاضة، وترصد من خلالها تحولات المجتمع الفلسطيني على مدار السنوات الماضية إلى يومنا هذا”، حيث “اتكأت على انتفاضة 1987 كحدث أساس لرصد التحولات ما بعد إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، وما بعد ذلك فيما يتعلق بظهور المد المعولم من خلال مؤسسات المجتمع المدني والمانحين، وانعكاسات ذلك على المجتمع”. وأشار بسيسو إلى أن “الرواية استندت إلى حالة سردية لا تتجاوز أربع وعشرين ساعة في سياق مسيرة شخصية الناشطة، وأيضاً في تقاطعاتها مع المحيط .. ومن خلال المونولوج الداخلي تستحضر الكاتبة المكان، والأحداث، والشخوص، ورصد التحولات فيما يتعلق بها جميعاً” .. وقال: نحن أمام حالة من السرد الفلسطيني اتسم بجرأة واضحة، وبانفتاح مهم على الكثير من الفنون الأخرى المصاحبة للفن الروائي والسردي، حيث استفادت ليانة بدر من عدة مراجع وتحديداً فيما يتعلق بالرصد الاجتماعي، عبر إشارات ذكية إلى شخصيات حقيقية في سياق الحديث عن المكان، كالدكتور شريف كناعنة، وكذلك الفنان رمزي أبو رضوان، مؤسس مؤسسة الكمنجاتي، وكيف تحول من حالة رمزية تشكلت حوله كواحد من أطفال الحجارة في الانتفاضة الأولى، وتحولها إلى حالة واقعية عبر احترافه للموسيقى. وتحدث بسيسو عن تطرق صاحبة “الخيمة البيضاء”، وفي إطار تسليط الضوء على السياق الاجتماعي، إلى قضايا عدة من بينها العنف ضد المرأة في المجتمع الفلسطيني، حيث تناولتها بجرأة واتزان وإبداع في آن، عبر شخصية نشيد (أم خالد) أو صديقتها ندى .. كما اعتمدت على المكان كعنصر ارتكاز، فالرواية تبدأ جغرافياً في رام الله، ولكن دون إغفال العديد من التفرعات المكانية، والإسقاطات على مستويات متعددة، حيث تناولت رام الله بجمالياتها، ودون الابتعاد عن النقد أيضاً، والتي تحولت من حالة الالتباس ما بين البلدة والمدينة إلى بؤرة اهتمام المثقف والسياسي ورجال الأعمال أيضاً، متخذة من دوار المنارة نقطة ارتكاز جغرافية أو مكانية في سياق هذه التجربة الروائية، وامتداداته باتجاه شارع الساعة أو ميدان المغتربين أو ميدان ياسر عرفات، أو باتجاه شارع الإذاعة أو شارع الإرسال، وكان مسرحاً للعديد من الأحداث السياسية. وخلص بسيسو، الذي قدم تحليلاً شاملاً في الرواية، إلى أن “الخيمة البيضاء” تحمل “الكثير من النقد السردي، إن جاز التعبير”، واصفاً الرواية بـ”المميزة لجهة الأسلوب فهي تصور وتمنح القارئ بانوراما المكان والذاكرة دون أي تكلف، وبانتقال سلس من حالة إلى أخرى ومن مرحلة إلى مرحلة، ومن أسلوب إلى آخر، ومن مونولوج إلى مونولوج، إضافة إلى أن اعتمادها على الحوار الذاتي كان كفيلاً بخلق حالة من الالتباس في بعض الأحيان، رغم أن الحدث هو استمرار للمراجعات لتجربة عقود، فالانحياز هنا للتجربة على حساب الحدث الواقعي، ما يتطلب قارئاً صبوراً قادراً على قراءة ما وراء السرد، دون فرض للذات أو التجربة الشخصية بقدر ما تقدمه من طرح للقضية بأبعادها المختلفة، دون أن تخلو بعض المقاطع من رؤية الكاتبة الشخصية في عدة مستويات، في رواية اعتمدت على اللاحدث في سرد الكثير من الأحداث”. ما بين انتفاضتين وبخصوص الانتفاضة الأولى كحدث مركزي في روايتها، قالت ليانة بدر في ردها على تساؤلات بسيسو: الانتفاضة الأولى كانت نقطة تحول على مستويات عدة بالنسبة للشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من أهميتها على الصعيد السياسي والنضالي، إلا أنها ساهمت في “انكسار النساء” رغم فعاليتهن في تفاصيلها اليومية، فعلى المستوى العام فرضت عليهن العديد من القيود تحت شعار تغليب الوحدة والمصلحة الوطنية، ولذلك لم يحدث أي تطور اجتماعي لاحق يواكب نضالات المرأة الفلسطينية في الانتفاضة، كما أنها (الانتفاضة) خلقت حالة من الخداع بحيث تم التعاطي معها وكأنها نقطة انطلاق نضالات الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال والاستبداد والعنصرية .. هي مرحلة، ويجب مراجعتها، خاصة بعد أن عاد الكثير من المناضلين في الخارج، والذين كانوا يعيشون، وبعضهم لا يزال تلك التجارب النضالية التي خاضوها في المنافي القسرية، بينما يعيش من ترعرعوا في أرض فلسطين تاريخ الانتفاضة الأولى، وهو ما خلق حالة من الشرخ بسبب الفجوات في التجارب على الصعيدين الفردي والجمعي. وشددت بدر: حين أكتب لا أكتب عن نفسي بل عن حالة جمعية .. في الرواية أنقل ما يقوله الآخرون، فبالنسبة لي دائماً أبطال أعمالي الروائية في المقدمة، ولهم الأولوية، وأعتقد أن الجرأة هنا في تقديم ما يفكر به هؤلاء، ونقل حواراتهم اليومية في الشوارع، والمقاهي، والمنازل، حتى تلك القضايا التي يعتبرها البعض شائكة كـ”منتفعي الفن”، و”العائد والمقيم”، هي جدليات موجودة بالفعل، وكثيرون تحدثوا فيها وربما لا يزالون (…) “الرواية بالنسبة لي هي القدرة على العيش داخل الذات الجمعية”.

(الايام الفلسطينية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى